صحيفة الكترونية اردنية شاملة

ما هو ابعد من حادثة ‘تشارلي ايبدو’

0

شكل الاعتداء الارهابي على صحيفة “تشارلي ايبدو” الساخرة وسط باريس الاسبوع الماضي صدمة شديدة لفرنسا واوروبا واعتبرها سياسيون ومعلقون ومواطنون انها اعتداء على حرية التعبير، وخرج الملايين في العديد من مدن اوروبا ليقولوا بصوت واحد انهم جميعا “تشارلي ايبدو” في تحد واضح لمن يحاولون اسكات او تخويف اصحاب الرأي حتى لو لم يتفقوا معهم. الاعتداء رفع توزيع الصحيفة من خمسين الفا اسبوعيا الى مليون نسخة يتوقع توزيعها يوم الاربعاء القادم!

الدول والمنظمات والهيئات الاسلامية دانت الاعتداء ورفضت الزج بالاسلام والمسلمين في هكذا عمل ارهابي طال صحفيين وافراد شرطة ومواطنين عزل. وعلى الرغم من دعوات السياسيين في فرنسا وغيرها لعدم الخلط بين الاسلام والارهاب، فان المراقبين يتوقعون ازديادا ملحوظا في العداء ضد الاقلية المسلمة في اوروبا وانتهاز احزاب اليمين المتطرف المعادية للمسلمين وللهجرة بشكل عام للحادثة وتوظيفها سياسيا في الانتخابات المقبلة في انحاء القارة.

بعيدا عن دوافع المعتدين وخلفياتهم وخفايا لا نعرفها عن من يقف ورائهم ومن سيستفيد في نهاية المطاف، فان اختزال الاحداث الاخيرة في كونها اعتداء سافر على حرية التعبير في اوروبا وجب التصدي له لن يحل المشكلة التي تواجهها اوروبا اليوم مع الاقلية المسلمة. ازدراء الاديان ومعتقدات ملايين الناس بغض النظر عن ديانتهم تشكلان تحديا حقيقيا لمفهوم حرية التعبير وتهددان استقرار وسلامة مجتمعات تتغير في كل يوم بنيتها الثقافية والاجتماعية.

الاقلية المسلمة في اوروبا هي الاسرع نموا في القارة العجوز، وهناك تحديات اقتصادية واجتماعية تواجه هذه الشريحة، وفرنسا، حيث يعيش نحو خمسة ملايين مسلم، مثال على ما يواجهه الشباب الفرنسي المسلم من بطالة وفقر وسوء تعليم يدفع بفئة منهم الى التطرف الديني. وبحسب الارقام هناك نحو الف مقاتل فرنسي مسلم يحاربون في صفوف تنظيم الدولة أو جبهة النصرة اليوم في سوريا. هذه مشكلة اوروبية ينبغي العمل على التصدي لها بشتى الوسائل المتاحة. في المقابل يجب الاعتراف بأن غالبية مسلمي فرنسا، واوروبا، هم مواطنون صالحون ملتزمون بالقانون وقد اختاروا الانخراط في المجتمع الاوروبي.

اما قضية حرية الرأي والتعبير فمن غير الممكن تجاهل حقيقة ان ازدراء اديان ومعتقدات الملايين—مسلمين وغيرهم—تشكل اليوم مسألة خلافية ليس فقط في اوروبا وانما في غيرها من دول العالم. كيف يمكن مثلا قبول حقيقة ان التشكيك في المحرقة اليهودية يعد خرقا لقوانين اوروبية بينما السخرية من دين يمثل اكثر من بليون انسان يقع تحت باب حرية التعبير؟ وكيف يمكن تبرير حقيقة انه حتى قبل عقود قليلة كانت هناك قوانين في عدة دول اوروبية ضد التجديف والالحاد والمثلية الجنسية وغيرها؟ ورغم الكلام عن العلمانية الاوروبية فان هناك احزابا دينية/مسيحية وقومية تروج للاسلاموفوبيا في المانيا وفرنسا وبريطانيا والسويد وهولندة وغيرها؟ وفي انتخابات البرلمان الاوروبي الاخيرة حازت الاحزاب اليمينية المتطرفة على اكبر نسبة من المقاعد في اشارة الى تعاظم شعبيتها بين المحافظين وهم في اغلبيتهم متدينون.

وفي حقيقة الأمر فان اللاسامية المتمثلة في الاعتداء على اليهود ومعابدهم ومقابرهم—وهي في معظم الاحيان يقف وراءها فاشيون ونازيون جدد—تلقى ادانة سريعة من السياسيين في اوروبا بينما يتلكأ هؤلاء في ادانة هجمات مماثلة على المساجد والمدارس الاسلامية. وهناك دول ومجتمعات غير اسلامية ترفض بشدة ازدراء الاديان بذريعة حرية التعبير حماية لتنوعها الثقافي والديني. لذا فالمفهوم الاوروبي لحرية التعبير ليس هو الوحيد المقبول في هذا العالم.

مع ذلك فاننا نحترم خيارات اوروبا وتاريخها وثقافتها، لكن حادثة “تشارلي ايبدو” نكأت جراحا شغلت الرأي العام العربي والاسلامي. من المريح ان الغالبية ممن عبروا عن رأيهم ادانوا الاعتداء وقتل الابرياء، لكن الكثير منهم أثار قضية ازدراء الاديان والمعتقدات تحت بند حرية التعبير. كيف لنا ان نتجاوز هذه المسألة الخلافية خصوصا في اوروبا حيث التنوع الديني وحيث التزام الملايين من مسلمين ومسيحيين ويهود وغيرهم بمعتقداتهم؟

اوروبا تواجه اليوم خيارات صعبة يحددها الواقع الديمغرافي والديني والثقافي المتغير. حرية التعبير مسألة بالغة الحساسية بالنسبة لغالبية الاوروبيين لكنها لا تبرر ازدراء الاديان والمعتقدات بشكل يسئ الى ملايين البشر. اما بروز اليمين المتطرف فانه يشكل خطرا ليس فقط على علمانية اوروبا وتنوعها وانما على وحدتها السياسية ايضا. العنف بكافة اشكاله ليس وسيلة للحل. لكن على اوروبا ان تدرك ان قضيتها اليوم تتجاوز مسألة حرية التعبير وان مسلمي اوروبا، كغيرهم، يرغبون في العيش بسلام في مجتمع منفتح على الآخر.

واخيرا هناك من يطالب الغرب بالابتعاد عن النفاق فيما يتعلق بحقوق الانسان وحرية التعبير. فهل يعتذر الغرب عن قتل آلاف العراقيين تحت ذريعة غزو العراق وتعذيب واحتجاز المئات بل اكثر دون وجه حق؟ وماذا بشأن فلسطين وما يحدث فيها من عذابات وانتهاكات لأكثر من ستين عقدا؟ الارهاب لا دين له لكن الأهم ان يدرك الاوروبيين ان هناك شريحة واسعة من المواطنين ترفض ازدراء الدين والمعتقدات وان مقولة كلنا “تشارلي ايبدو” لن تحل المعضلة التي تواجه اوروبا اليوم فيما يخص خياراتها امام اقلياتها الدينية!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.