صحيفة الكترونية اردنية شاملة

فضائل ترمب : التحدي والاستجابة‎

0

يرتبط (اليمين السياسي ) في التاريخ الحديث بالتعصب الوطني وبالسياسات الحمائية في مجالات التجارة والاقتصاد ، وهو ما يلخصه شعار ترمب ( امريكا اولا ) . هذه السياسات ازدهرت خلال الحرب الباردة في النصف الأخير من القرن الماضي لكنها بدت وكأنها في طريقها الى الزوال في بداية القرن الحالي تحت شعارات العولمة وحرية التجارة العالمية وتراجع اهمية الحدود والسيادة الوطنية للدول ورفع مقولات الليبراليين الجدد حول الحدود المفتوحة وبان العالم قرية واحدة . جملة هذه السياسات والشعارات كانت قد خرجت من الولايات المتحدة ومن قياداتها .
ولأن الشئ بالشئ يذكر ، كانت النخبة الليبرالية الجديدة في الاردن قد رفعت في بداية القرن شعار ( الاردن اولا ) لكنها ، ومن غرائب الامور ، لم ترفعه من باب التمسك بالمظاهر السيادية والوطنية او الحمائية للاقتصاد ، انما استخدمته من اجل تبرير الغاء الحمائية عند بيع اسهم الشركات الكبرى للشركات الاجنبية في ظل الخصخصة وشعارات جذب الاستثمار ، وتم وضع تفسير غريب لمقولة الاردن اولا مفادها ان مصالحنا الوطنية تتطلب تحويل البلد الى ساحة مفتوحة للعولمة والاستثمار الاجنبي متخطية كل النظريات الحمائية التي توازن بين الاستثمار وبين عوائده على الاقتصاد الوطنى وعلى الفئات الشعبية . مقولة نعيش نتائجها الكارثية الان في ظل الازمة المالية الراهنة .
اليوم تتهاوى العولمة بمعاول ومطرقة امريكية ، وتتهاوى معها الاوهام التي انتشرت في دول كثيرة ، خاصة الدول الفقيرة التي اعتقدت بان نهضتها ومستقبلها تصنعه سياسة الاستسلام لسياسات العولمة والتخلي عن أ ، ب المصالح الوطنية للدول .
لم يترك ترمب شعار امريكا اولا بدون تفسير لقد فصل بنوده حتى لا يترك للتأويل مكانا . انه يهز بهذا الشعار النظام العالمي القائم منذ الحرب العالمية الثانية من أركانه ، فالاتحاد الاوروبي عفا عليه الزمن ، وحلف الأطلسي لا ضرورة له ، وعلى امريكا ان تقيم الجدران ليس بوجه الصين فقط انما بوجه جيرانها المكسيك وكندا . لان امريكا اولا ، تستدعي إغلاق الأبواب امام العمالة الاجنبية ، ووقف ارسال المصانع الامريكية للخارج ، واكثر من ذلك وقف المساعدات للجيوش الاجنبية بينما الجيش الامريكي يحتاج للاموال وذلك على حد قوله في خطاب التنصيب .
اننا جميعا على هذه الارض امام نظام عالمي جديد هو بصدد التكوين ، نظام ابعد ما يكون عن العولمة وحرية التجارة وهو ايضا اقرب ما يكون الى عهد تسود فيه شعارات الانغلاق والتعصب والعنصرية وظهور تيارات اليمين المتطرف ( كما نلاحظ في اوروبا ) ، واذا كان ظهور المعسكر الراسمالي بعد الحرب الثانية كان لمواجهة الانتصارات الكاسحة للشيوعية في روسيا والصين وأوروبا الشرقية ، فان ( محاربة الاسلام الراديكالي الارهابي ) هو حجة ترمب لعزلة امريكا والى تكوين عالم تلتقي مصالح أطرافه حول هدف واحد وهو ما اسماه ” بتحالف الشعوب المتحضرة ضد قوى الشر المتمثّلة بالإسلام الراديكالي ” . ويبقى انتظار تفسير كلامه عن ( الشعوب المتحضرة ) فايحاءاتها العنصرية قوية ولا تخفى على احد .
بالتأكيد لن يجني ترمب من سياساته غير كراهية الشعوب لامريكا ، وغير العزلة لبلاده ، لكن التاريخ علمنا بان ما من تحد واجهته الشعوب الحية ، الا وجابهته باستجابة عنيدة فتصدت له وتغلبت عليه . هذه هي المقولة الاشهر للمؤرخ البريطاني توينبي في كتابه الرائع ( ملخص التاريخ ). ان اول استجابة صدرت لمواجهة تحديات ترمب جاءت من الشعب الامريكي الذي خرج مئات الالاف منه للدفاع عن الحقوق المدنية امام عنصرية ترمب . لم تنطلي على هذا الشعب مزاعم ترمب ، بان انتقال السلطة اليه ، هي انتقال لسلطة للشعب . ومن الملفت ان جميع الطغاة الذين حكموا في هذا العالم ، كانوا قد زعموا ويزعمون بانهم يمثلون شعوبهم وبانهم يتحدثون ويحكمون باسمها .
وثاني استجابة لمواجهة تحديات ترمب أتت من الاتحاد الاوروبي الذي كان قد اعلن عن موافقته على خطة دفاعية يرسل بموجبها قوات للرد السريع الى الخارج وذلك امام مخاوف بتراجع الأمريكيين عن حماية اوروبا عسكريا ، اي ان الاتحاد الاوروبي سيبدأ بالاعتماد على نفسه .
وثالث استجابة لتحديات ترمب كانت من الصين التي ردت على تصريحات ترمب بالعزم على التخلي عن سياسة الصين واحده ، اي الاعتراف بتايوان ، اذ أعلنت بكين ” بان من يمس مصالحها كمن يزحزح صخرة ستسحق قدميه “.
إذن هناك فضائل تكمن في الوجه الاخر لسياسة ترمب ، وهي ظهور يقظة جديدة لشعوب العالم من اجل الاعتماد على ذاتها والتخلي عن ربط مصائرها بمواقف حكام البيت الأبيض . فالشعوب الحية والدول القوية تستجيب للتحدي عندما يظهر ولا تستسلم وتنهزم امامه . فماذا عن العرب شعوبا ودولا ؟.
حتى اليوم لم تظهر الدول العربية ولا الشارع العربي ما يبعث الأمل بوجود ارادة وطنية وقومية على الاستجابة لمواجهة التحديات التي يفرضها ترمب على العرب وهي الاخطر على الإطلاق . من نقل السفارة الامريكية الى القدس المحتلة الى التخلي عن امن أصدقاءها في المنطقة ، بالاضافة الى وقف مساعدة جيوش العرب ، الى قصة مسح الراديكالية الاسلامية من الوجود ، التي قد تعني تدمير بلدان عديدة ، او ترك إبادتها لغيره باسم محاربة الارهاب ، تماما مثلما فعل بوش عندما دمر العراق وقتل شعبه باسم كذبة الأسلحة الجرثومية ، فكانت النتيجة هي تدمير المنطقة بأسرها وتوطين الارهاب والطغيان والقتل والانقسام والخراب على الارض العربية بل وتحويل الارض العربية الى ارض محتلة لكل من يرغب من طغاة العالم وعصاباته . ان ترمب لشعاره الفضفاض ضد الارهاب وبتوجهاته الصهيونية لا يحمل للمنطقة وشعوبها غير الشر والخراب ولم ينطق بكلمة واحدة عن الامن والسلام لشعوبها .
بالمقابل يبدو ان الوضع العربي ميئوس منه ، ولم يبق الا الدعاء الى الله ، بان يبعث في دول الامة ، حكاما وشعوبا ، الوعي الإيجابي بخطورة استمرارهم على هذا الحال المخزي في ظل التحديات التي يفرضها ترمب عليهم . وان يستيقظوا من الفتن التي يغرقون بها ، ومن الانقسامات التي جعلتهم كالزبد بلا حول ولا قوة ، وان يتعلموا بان لا مكان لهم في النظام العالمي الذي يشكل على الأبواب الا اذا رجعوا الى العقل والحكمة والى المصالح القومية المشتركة التي بدونها لا تكون هناك مصالح وطنية لأية دولة مهما كبرت او صغرت .
هذا زمن الشعارات القومية الكبيرة ، من اقامة حلف دفاع عربي مشترك الى سوق اقتصادية مشتركة والعودة الى دائرة الامن القومي .
لا قيمة لقمة عمان العربية المقبلة بدون بحث مسألة مواجهة تحديات ترمب بالافعال لا بالأقوال ، فالاستجابة لها تقتضي العودة الى العمل العربي المشترك كما كان في عصوره الذهبية ايام عبدالناصر والملك حسين والملك فيصل وهواري بومدين ، ( ماذا تنتظرون !!؟. ) اقول مثل هذه التمنيات لان هذا فقط ما سينتشل الامة من هاوية التشاؤم واليأس السائدة على الساحة العربية بعد ان طردت الشعارات الرديئة الشعارات النبيلة والعظيمة . اذا لم يفعل حكامنا ذلك في ظل عالم ترمب الجديد فانهم سيدخلون انظمتهم وشعوبهم في الفصل الأخير الأكثر سوداوية في تاريخ الامة على الإطلاق . او ان مصيرهم سيكون كما قال الشاعر الأندلسي وهو يشهد انهيار قرطبة وإشبيلية وغيرها من الدويلات العربية المتنازعة فيما بينها :-
بالامس كانوا ملوكاً في منازلهم – واليوم هم في بلاد الكفر عبدان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد – ان كان في القلب اسلام وايمان

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.