صحيفة الكترونية اردنية شاملة

قراءة في كتاب فوكوياما “بناء الدول”: المؤسسات أولاً!

يمتاز الكاتب المعروف فرانسيس فوكوياما بأفكاره الكبيرة والجديدة وقدرته على الجمع المتقن بين تخصصات مختلفة. وقد اشتهر فوكوياما -الياباني الأصل- بعد تأليفه لكتابه “نهاية التاريخ” في عام 1992 والذي امتدح فيه الديمقراطية الليبرالية والأسواق الحرة باعتبارهما تمثل قمة التطور الفكري الانساني. لكن فوكوياما عدّل أفكاره بوضوح بعد ثلاث سنوات فقط ضمن كتابه “الثقة: الفضائل الاجتماعية وتحقيق الازدهار” (1995) وأيضاً في كتابه “التصدع العظيم The Great Disruption” (1999)، حين أكد على دور الثقة والاسرة والأخلاق والقيم المشتركة في تطور المجتمعات، بما يتجاوز الفردية المتطرفة والرأسمالية الصرفة وارشادات “اجماع واشنطن”.

الكتاب قيد المراجعة هو “بناء الدول: الحوكمة والنظام العالمي في القرن الحادي والعشرين” وصدر في عام 2004 (قبل الأزمات الاقتصادية والمالية العالمية والاقليمية) ليؤكد على الدور النوعي للدولة والحوكمة الرشيدة (وليس على دور الليبرالية الاقتصادية!) في تحقيق التنمية الناجحة والمستدامة وفي تحفيز النمو الاقتصادي التشاركي. 

وفي هذا المقال، سأركز على البعد الاقتصادي لبناء الدولة، أي سأركز على بناء “الدولة الناجحة اقتصادياً”، وتسمى أحياناً “الدولة التنموية Developmental State”. وتعتبر دول جنوب شرق آسيا مثل ماليزيا وكوريا الجنوبية أمثلة حية عليها، يضاف اليها تركيا وربما أندونيسيا حديثاً.

ويعرف فوكوياما بناء الدولة بأنه جهد متسق يرمي الى: “تقوية المؤسسات القائمة وبناء مؤسسات جديدة فاعلة وقادرة على البقاء والاكتفاء الذاتي”. ويؤكد الكتاب على ضرورة تعزيز الاطار المؤسسي وبناء القدرة المؤسساتية باعتبارهما الطريق السريع لتنفيذ البرامج والخطط والسياسات الاصلاحية الصائبة، ومثال ذلك في حالة المملكة: السياسة الصناعية 2017-2021 وخطة تحفيز النمو الاقتصادي الاردني 2018-2022.

الكتاب قيد البحث يدعو أساساً الى تدخل الدولة ولكنه يدعو الى التدخل من النوع الصائب. فهو مع تقليص دور الدولة في بعض المجالات (مثل النشاط الانتاجي المباشر) ومع تقليص نفقاتها العامة، لكن هذا يتم بالتزامن مع تقوية دورها النوعي في مجالات أخرى استراتيجية (مثل توفير التعليم العام عالي الجودة وتسهيل نمو القطاع الخاص تنظيمياً وضريبياً).

وفي هذا المجال تحديداً، يؤكد الكاتب “ان أجندة بناء الدولة، والتي لا تقل أهمية عن أجندة تقليص دورها ]من خلال برامج الخصخصة وسياسات تحرير الأسواق[ لم تُعط قدراً موازيا من الاهتمام والتفكير، فكانت النتيجة فشل الاصلاحات الاقتصادية الليبرالية في تحقيق الوعود التي قطعتها على نفسها في العديد من دول العالم” (انتهى الاقتباس). هذا يعني باختصار أن حوكمة مؤسسات السوق والدولة لا تقل أهمية عن اعداد الخطط والبرامج والسياسات الصائبة.

وعند بناء القدرات المؤسسية للدولة، ينبه فوكوياما مما أدعوه “مصيدة الوصفات الجاهزة” وتسمى عادة “الممارسات الدولية الفضلى”. حيث يؤكد الكتاب انه “يتحتم علينا في سياسات التطوير توخي الحذر الشديد في التأكيد على وجود مجموعة قواعد أو دروس عامة وقابلة للتطبيق، يمكن استخدامها في اصلاح القطاع العام أو ادارة المشاريع” وأنه “تبقى البرامج الناجحة مغرقة في خصوصيتها وفردانيتها”. 

هذا الموقف المتحفظ من التجارب والخبرات الأجنبية يؤكد على ضرورة التعلم الذاتي من التجارب الذاتية عند تخطيط وتنفيذ البرامج والخطط الاقتصادية، دون تجاهل الاستئناس بالتجارب الطموحة في “الدول المشابهة”. كما يؤكد على ضرورة عدم الاعتماد على برامج الاصلاح الاقتصادي والمالي الدولية. فعلى سبيل المثال، طبق الاردن ثلاثة برامج ممتدة للاصلاح المالي على الأقل بدعم من المانحين الدوليين، غير برامج صندوق النقد الدولي، لكن النتائج هي ما نرى ونلمس.

القاعدة الصريحة التي أكدت عليها خاتمة الكتاب هي الحاجة الى دولة “أصغر ولكن أقوى”. والمقصود بالقوة هنا الفعالية وتحقيق نتائج البرامج والخطط. ويبقى السؤال المركزي: كيف؟ سأحاول فيما يسمح المقال الاجابة على هذا السؤال.

وفي الواقع، فقد تم انتقاد كتاب فوكوياما “بناء الدولة” بأنه تجاهل التفصيل بدور رأس المال الاجتماعيSocial Capital على المستوى الكلي والاستراتيجي ومساهمته الجوهرية في بناء الاقتصاد والمجتمع والدولة، مع أنه أكد على هذا العامل على مستوى الجزئي (على مستوى المنظمة)، بل وأكد عليه كعامل كلي مفسر للتدهور الاجتماعي والأخلاقي الغربي في كتابيه المشهورين “الثقة” و”التصدع العظيم”.

أحد التعاريف الشائعة لفوكوياما لمصطلح “رأس المال الاجتماعي” يعرّفه بأنه “مجموعة من المعايير أو القيم غير الرسمية المشتركة بين أعضاء مجموعة والتي تشجع التعاون بينهم”، لكن مفهوم “رأس المال الاجتماعي” في واقع الحال أوسع من ذلك، ويشمل: الثقة بالآخرين، وأخلاقيات التضامن الاجتماعي والتعاطف مع الضعيف، وتماسك الاسرة، والالتزام الطوعي بالقوانين، وشبكات المجتمع المدني، وتعزيز الهوية الوطنية، والمسؤولية الاجتماعية، والمخزون من القيم المشتركة. 

وتزداد الأهمية الاستراتيجية لرأس المال الاجتماعي في ضوء المعرفة الاقتصادية المتقدمة والمتراكمة في كل من حقلي اقتصاديات الرفاه (نظرية فشل الأسواق) واقتصاديات الاختيار العام (نظرية الفشل الحكومي)، هذه المعرفة التي تؤكد على وجود جوانب اخفاق متأصلة ومزدوجة في كل من الأسواق الحرة (اليد الخفية) وفي التدخل الحكومي (ما أسميته باليد المتدخلة). وحسب تساؤل جامس بوكانانJ. Buchanan في كتابه حدود الحرية: “اذا فشلت كل من الأسواق والحكومات، ما هو البديل التنظيمي؟”. انه برأيي “اليد الأخلاقية” أو بالتعبير الحديث “رأس المال الاجتماعي”.

فبناء وتقوية المؤسسات ضمن تعريف فوكوياما ل”بناء الدول” أعلاه يجب ان لا ينحصر في المؤسسات الحكومية الرسمية التي تضع عملياً عبئاً متزايداً على عجز الموازنة العامة والمديونية الحكومية، بل يجب أن يشمل كذلك المؤسسات غير الرسمية، وما يتضمنه ذلك من قيم وأخلاقيات تؤثر في مستويات الانتاجية والهدر والتسيب، وتشجع على التعاون وتحمل المسؤولية واتقان العمل، وتحد من الانتهازية والشخصنة والمحسوبية والرشوة والفساد الاداري والمالي والمغالاة في الاسعار واستغلال القوة الاحتكارية، في القطاعين العام والخاص على حد سواء.

وكاتب هذه السطور مع الرأي القائل بأن تضخم حجم الدولة المعاصرة والارتفاع غير الصحي وغير المستدام في انفاقها العام وعجز موازناتها ورقابتها المتصاعدة (ما يُعرف بقانون واجنر في المالية العامة) ما هو الا مظهر من مظاهر الاصرار على خيار التدخل الحكومي المتزايد كحل وحيد لمشكلات وتعقيدات المجتمع المعقد المعاصر، والاصرار بالتالي على استبعاد دور أخلاقيات الفرد وثقافة المجتمع -رأس المال الاجتماعي- في حل هذه المشكلات المجتمعية.

ولعل قراءة متفحصة لدراسة منتدى الاستراتيجيات الاردني الحديثة جداً والمعنونة “رأس المال الاجتماعي الأردني: ما هو مستوى الثقة في مؤسساتنا ولماذا؟” تؤكد أهمية رأس المال الاجتماعي في تحقيق الاقتصاد المزدهر والنمو التشاركي.

التعليقات مغلقة.