صحيفة الكترونية اردنية شاملة

الرئيس جون ماغوفولي ومكافحة الفساد

قبل أن أتحدث عن الرئيس جون ماغوفولي، لابد لي من التحدث بصورة موجزة، عن الداء الخطير الذي يتردد هذه الأيام على ألسنة الناس حاملا عنوان ( الفساد ). ولا شك بأن الفساد ظاهرة غريبة، كنا نخجل من ذكرها في أحاديثنا العامة في عقود سابقة، باعتبارها آفة اجتماعية خطيرة عبرت العصور القديمة، ولكنها استشرت في عصرنا الحاضر، ولو بدرجات متفاوتة بين مختلف المجتمعات. 

فمن المعروف أن الفاسدين يسعون بأقصى جهودهم، لتحقيق مكاسب مادية أو معنوية بطرق غير مشروعة، وهي من أكبر العقبات التي تقف في وجه التطور، وتعرقل تحقيق العدالة ومسيرة التقدم والانتعاش الاقتصادي في أي مجتمع يُبتلى بها.

تبرز خطورة الفساد إذا ما تجذّر وتغلغل في مؤسسات الدولة، سواء كانت تشريعية أو تنفيذية أو قضائية، أو إعلامية، لأنها ستنعكس على سلوك الأفراد في المجتمع، وعلى تعاملهم وعلاقاتهم اليومية مع بعضهم. وهذا سيؤدي إلى هدم بنية الدولة وتخريب نسيج المجتمع، والتأثير سلبا على التنمية الاقتصادية، والأمن الاجتماعي والوطني. وقد يأخذ الفساد أشكالا مختلفة منها السياسي، أو المالي ( الاختلاس والرشوة )، أو الإداري، أو القيمي والأخلاقي، أو المحسوبية والواسطة. 

والفساد في غياب الرقابة الإدارية الصارمة، وغياب مبدأ العقاب والثواب، يشجع على ممارسة الانحرافات في منظومة العمل، خاصة إذا ارتكبت من قبل كبار المسؤولين في المواقع العليا، مما يشكل سابقة يقتدي بها المرؤوسون في مواقعهم الوظيفية، فتكون آثارها مدمرة تطال مقومات الحياة لعموم أبناء الشعب. 

أعود الآن إلى جون ماغوفولي رئيس جمهورية تنزانيا الاتحادية، التي تقع في شرق وسط أفريقيا على شاطئ المحيط الهندي، والتي تبلغ مساحتها 945 ألف كيلومتر مربع، ويبلغ عدد سكانها حوالي 38 مليون نسمة. فقد كانت هذه الدولة تعاني من الفساد الذي كان ينخر في مؤسساتها كالسرطان الخبيث.

ففي شهر أكتوبر عام 2015 انتخب الشعب جون ماغوفولي رئيسا للبلاد، وهو يحمل شهادة الدكتوراه في الكيمياء، وخدم مدرسا في الثانوية، ثم عمل في شركة صناعية، قبل أن يدخل عالم السياسة. وعند توليه الحكم كان يعرف أن عقبة الفساد هي التي تقف عائقا أمام تقدم بلاده، وتنهش مختلف مفاصل الدولة. فقرر مواجهة هذه العقبة بحزم وجرأة، بادئا حملته الواسعة لاجتثاث الفساد بالإجراءات التالية :

أقال عدة مسؤولين بارزين من بينهم رئيس جهاز مكافحة الفساد، رئيس مصلحة الضرائب، ومسؤول بارز في السكك الحديدية، ورئيس هيئة الموانئ.

أوقف الاحتفالات الرسمية في يوم الاستقلال لكي يوفر المصروفات على الدولة، وحول مبالغها لمحاربة وباء الكوليرا، وألغى كافة مظاهر البذخ في البلاد.

خفض عدد الوزراء في الحكومة من 30 وزيرا إلى 19 وزيرا، وطلب من جميع الوزراء الكشف على أرصدتهم وممتلكاتهم، وهدد بإقالة أي وزير لا يكشف عن حسابه، أو لا يوقّع على تعهد بالنزاهة.

منع جميع المسؤولين من السفر للخارج بغير ترخيص مباشر منه، حيث يرى في نظره أن هؤلاء المسؤولين عليهم أن يهتموا بالمشاكل الداخلية، أما السفراء فعليهم أن يهتموا بها في الخارج. كما منع المسؤولين في الحكومة من السفر في الدرجة الأولى في الطائرات.

منع اللقاءات والندوات الحكومية التي تقام في الفنادق، وفي لقاء الكومنولث أرسل 4 مسؤولين فقط ليمثلوا البلاد، بدلا من 50 ممثلا كانوا مدرجين في الكشف وجاهزين للسفر. 

في زيارة مفاجئة قام بها للمستشفى الرئيسي في الدولة، وجد المرضى يفترشون الأرض، ووجد أيضا الأجهزة الطبية معطلة. فعزل جميع المسؤولين في المستشفى، وأعطى مهلة إسبوعين للإدارة الجديدة للإصلاح، ولكن تم إصلاح كل شيء في خلال ثلاثة أيام فقط.

خفض ميزانية حفل افتتاح البرلمان الجديد من 100 ألف دولار إلى 7 آلاف دولار، وحول المبالغ المتبقية لتكملة نواقص المعدات الصحية بالمستشفى الرئيسي في البلاد.

أرسل رئيس الوزراء في تفتيش مفاجئ لميناء دار السلام، واكتشف وجود تجاوزات ضريبية واختلاسات بلغت 40 مليون دولار من العائدات، فأمر باعتقال رئيس الديوان في الحكومة مع خمسة من كبار مساعديه، وبدأ تحقيقا جنائيا معهم.

أمر بجمع جميع عربات الدفع الرباعي ( 4 × 4 ) التابعة للدولة وباعها بالمزاد العلني، وعوضها بسيارات تويوتا صغيرة ( فيتز ). 

شن حملة على المتهربين من دفع الضرائب وجمع في شهر واحد 500 مليون دولار. 

يقوم يوميا بزيارات مفاجئة للوزارات والمؤسسات الرسمية، وعقب كل زيارة يقيل عددا من المسؤولين المقصرين في أعمالهم ويحيلهم للمحاكمة. 

في شهر ابريل/ نيسان عام 2017 أمر بفصل نحو 10 آلاف موظف مدني، وذلك عقب 

الكشف عن شهادات مزورة من خلال عملية تدقيق موسعة تم إجراؤها في المؤسسات العامة. وكان قبل ذلك بأقل من عام قد فصل نحو 20 ألف مواطن، كانوا يتقاضون رواتب دون أن يقدموا شيئا في القطاع العام. فكانت الدولة تدفع الدولة كل عام 107 ملايين دولار سنويا كرواتب لموظفين وهميين.

شارك الرئيس التنزاني بنفسه في العام الماضي مواطني بلده في حملة تنظيف شوارع مدينة دار السلام بدلا من حفل التنصيب. 

رفض الرئيس ماغوفولي طلب مؤيديه في تعديل الدستور، ليسمح بإعادة توليه الحكم فترة جديدة، ووعد بتسليم السلطة التي اقترب موعدها عند انتهاء مدة ولايته دون تجديد.

هذا هو جون ماغوفولي رئيس دولة افريقية تنتمي إلى دول العالم الثالث. فقد عرف قيمة شعبه وخفف من الأعباء عليه من خلال إصلاحات حقيقية تجتث الفساد من بلاده. فقدم للعالم نموذجا حضاريا في النزاهة والحزم والإصلاح، دون أن يطلب من شعبه التسبيح بحمده، أو صناعة بطولات خيالية، تلمّعها وسائل الأعلام الكاذبة. لقد آمن بأن شعبه يستحق الخدمة، فقام بحملته الشرسة محاولا نقل بلاده من دولة فقيرة إلى دولة عصرية متقدمة. 

ولهذا أطلقت عليه وسائل الإعلام المحلية والعالمية لقب ” البلدوزر ” لأنه اجتث الفساد وجرف المفسدين من مناصب الدولة، ومهّد طريق العمل لذوي العقول المتفتحة، والأمناء على مصلحة الوطن.

وفي هذا السياق . . فقد كتبت في وقت سابق مقالات عن قادة من جنوب شرق آسيا، حاربوا الفساد والترهل، ونهضوا ببلادهم من دول كانت متخلفة، إلى دول صناعية متقدمة خلال فترة قصيرة، تنافس الدول العظمي في اقتصادياتها، وهم : مهاتير محمد في ماليزيا، وهاياتو أكيدا في اليابان، ولي كوان يو في سنغافورة، والجنرال بارك في كوريا الجنوبية. 

وها أنا اليوم أنقل هذه التجربة النموذجية من أفريقيا، التي يضرب الفساد في معظم دولها، لعل مسؤولينا يأخذوا العبرة والإقتداء بها، وأن ويرحمونا من تنظيرهم وخطاباتهم التي صدعت رؤوسنا، ولكنها لم تقدم شيئا مفيدا وملموسا للوطن والمواطن، لا بل أثقلت كاهله بأعباء جديدة تفاجئه بها كل مطلع شمس. فهل من يستجيب، ونشهد بلدوزرا مماثلا لما هو في تنزانيا في وقت قريب ؟ أتمنى ذلك..!

التعليقات مغلقة.