صحيفة الكترونية اردنية شاملة

تحرير التجارة في الزراعة

قد لا يعلم الكثيرون أنَّ إنشاء منظمة التجارة العالمية بدأت إرهاصاتها الأولى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبالتزامن مع إنشاء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في العام 1946، وبالرغم من إنجاز وظهور البنك والصندوق الدوليين وفقاً لتقسيم عملٍ يوزعُ الجهد بين المؤسستين الدوليتين، إلا أنَّ ولادة المؤسسة العالمية الثالثة المعنية بتحرير التجارة الدولية كانت عسيرة، ولم تتم إلا في العام 1995؛ أي إنها استغرقت ما يقرب من نصف قرن. ومن المعروف أنَّ السبب في ذلك هو عدم الرغبة أوالقدرة على التوجه نحو فتح الأسواق وتحريرها للمنافسة الدولية، في الوقت الذي كانت فيه دول العالم المتقدم واقتصاداتها تخرج من أزمة طاحنة سببتها ويلات الحروب والنزاعات العالمية آنذاك.

وقد اتفقت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، بعد إنجاز مهمات إخراج البنك الدولي للبناء والتعمير وصندوق النقد الدولي إلى العيان كمؤسستين للتمويل الدولي، على الدخول في مفاوضات طويلة تحت مسمى مفاوضات “الجات” أو مفاوضات “الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة GATT” بهدف تأهيل نفسها على فترات لتحرير التجارة وفتح الأسواق حول العالم، واستمرت جولات التفاوض على مدى ثماني جولات بدأت في جنيف عام 1947 وانتهى آخرها وأطولها عام 1994، وهي جولة الأروغوي التي استمرت قرابة 18 عاماً (1986-1994) وتمخض عنها تأسيس منظمة التجارة العالمية WTO في بداية العام 1995.

بيد أنَّ تحرير التجارة بمفهومه العام المرتبط بتحرير التجارة، وإيقاف الدعم، وفتح الأسواق، اصطدم بقضيتين مازالتا عالقتين حتى الآن: الأولى تحرير التجارة في الخدمات، والثانية تحرير التجارة في المنتجات الزراعية؛ فالأولى ستعني فتح الأسواق لتقديم الخدمات دون قيود بين الدول، ما يعني حرية انتقال الأفراد بين الدول من جهة، وهو ما لا تريده الدول المتقدمة بالتأكيد، أو تقديم الخدمات عن بعد من جهة ثانية، وهو أمر يعني منافسة أصحاب الخدمات لنظرائهم في الدول المتقدمة، كأن يقوم مكتب محاماة في الأردن مثلاً بتقديم خدمات محاماة لجهة في أوروبا دون أن يكون للمكتب الأردني مقر دائم أو حتى مكتب في تلك الدولة، أو إذا تحررت التجارة في الخدمات بشكل حقيقي، فإن ذلك المكتب سيتمكن من فتح مكتب في أي دولة دون قيود، ما يعني خسارة العديد من مكاتب الخدمات لعملائهم لصالح مكاتب خارجية متخصصة في الدول النامية الأقل كلفة وتعقيداً. وقس على ذلك خدمات الصحة والسياحة والتعليم وغيرها.

وبالعودة إلى قطاع الزراعة، فقد بقيت الدول المتقدمة المعارض الأكبر لدخول قطاع الزراعة في مفهوم تحرير التجارة وفقاً لمتطلبات منظمة التجارة العالمية لأسباب واضحة وجلية؛ أولها: أنَّ دخول القطاع ضمن منظومة تحرير التجارة يعني التوقف عن دعم القطاع، وهو أمر تقوم به كافة الدول المتقدمة دون استثناء، لإيمانها بأن الغذاء أولوية الشعوب وأنها لن تسمح بضعف قطاع الزراعة فيها حتى لا تضطر إلى الاعتماد في غذائها على دول أخرى، فترهن معيشة شعبها بتلك الدول.

فالمعروف أنَّ بعض الدول المتقدمة تشتري محاصيل القمح والأرز والحبوب من المزارعين بأسعار تصل إلى خمسة أضعاف قيمتها السوقية، كأن تشتري طن الأرز مثلا بمئة دولار من المزارع، في حين أنها تطرحه في الأسواق بعشرين دولاراً فقط، وهي بذلك تحقق أرباحاً كبيرة للمزارعين، فلا يضطرون إلى هجر أراضيهم والنزوع إلى وظائف أخرى، كما أنها توفِّر الغذاء لمواطنيها من نتاج أراضيهم التي لم ولن تبور، والتي سينتمون إليها بشكل أكبر. أما السبب الثاني في عدم تحرير قطاع الزراعة فيكمن في الرسوم الجمركية الحمائية العالية التي تطبقها الدول المتقدمة على واردات المنتجات الزراعية، بهدف حماية منتجها المحلي من منافسة المنتجات القادمة من الدول النامية، ما يعني أنَّ استيراد المواد الغذائية يخضع لشرائح جمركية لا تقل عن 24% في معظم الدول المتقدمة.

ويتم تعزيز هذه الرسوم الجمركية بمجموعة كبيرة من الإجراءات والرسوم المختلفة التي تُجبر كل من يُصَدِّر منتجاته إلى تلك الدول اتباعها وبكلف عالية، ومن تلك الإجراءات ما يتعلق بمواصفات التغليف، والنقل، والحفظ، بل وصلت بعض الإجراءات إلى قضايا تتعلق بما تسميه تلك الدول بحقوق العمال من ساعات عمل، وتكافؤ الفرص بين الجنسين، وغيرها من إجراءات غير جمركية تجعل كلفة الإنتاج عالية، وترفع من كلفة التصدير.

وعليه فإنَّ تحرير التجارة في الزراعة ليست من صالح الدول المتقدمة بأي شكل كان، وقد استمرت المفاوضات حول تحرير التجارة في الزراعة حتى الآن دون إحراز أي تقدم لا لشيء إلا لأنَّ الدول المُعارضة، وجميعها دول متقدمة، تعلم بأنَّ حماية قطاع الزراعة ورعايته ودعمه ليست بالقضية الترفيهية، بل هي مصلحة وطنية أساسية لا مناص منها ولا مجال للتحول عنها.

فلن تسمح الدول المتقدمة أن ترهن قوت شعبها باتفاقيات قد تُضعف الإنتاج الزراعي أو تؤدي إلى بوار المُلكيات الزراعية أو تحرم المزارع من أرضه أو من الثروة التي توفرها له الأرض. ولعل السبب الثالث والأخير في منظومة عدم الرغبة في تحرير التجارة في الزراعة يكمن في حجم الإنفاق على الدعم النوعي، وليس المادي، الذي تقدمه الدول المتقدمة في مجالات البحث والتطوير الزراعي والذي جعل من قطاع الزراعة أحد منافذ التصدير الأساسية للعديد من الدول، وسمح بتطوير قطاع الزراعة ومنتجاته، وبشكل أصبحنا نراه دوماً، فمن تطوير فترات الإنتاج وما يعنيه ذلك من ظهور المنتجات الزراعية حتى في غير وقتها المعهود، إلى تطويرٍ في الشكل وفي الطعم وفي التركيب وفي أشكال الري ونوعيته ونمطه وغيرها من نتائج للبحث والتطوير الزراعي، تُنفق عليها الدول المتقدمة مبالغ طائلة لتخدم قوت مواطنيها، ولتحقق عوائد مجدية من التصدير وغزو الأسواق.

وجميع ذلك غير قابل للتفاوض بالنسبة إلى الدول المتقدمة، ولن تسمح بتحريره وفتحه للدول النامية بأي شكل كان. الشاهد من كلِّ ما تقدم أنِّ قطاع الزراعة هو القطاع الإنتاجي الوحيد الذي يلقى دعماً مبرراً من كافة دول العالم، وبالتالي فإن دعمه من الدول النامية أمر لا مندوحة عنه ولا مجال لمقايضته بأي اتفاق مع أي جهة. وعلى صعيد آخر فإنَّ قطاع الزراعة يستحق كلَّ دعم محلي سواء أكان من خلال دعم المزارع بشكل مباشر كما تفعل الدول المتقدمة، أم بشكل غير مباشر عبر عدم فرض أي ضرائب مباشرة أو غير مباشرة على القطاع. قطاع الزراعة في العالم كله تُنظمه الدولة وتنفق عليه في مجالات الإرشاد والبحث التطوير وتسهيلات النقل إلى الأسواق في الداخل والخارج وكل ذلك يُقدم بسعر رمزي أو حتى مجاناً للمزارعين. وعليه فإنَّ دعم قطاع الزراعة فريضة واجبة لها وسائل متعددة وتطبيقات عالمية مُثلى يمكننا أن نتعلمها بسهولة من دول العالم.

د. خالد واصف الوزني

[email protected] 

التعليقات مغلقة.