صحيفة الكترونية اردنية شاملة

استراتيجية التنمية ومصيدة الوصفات الجاهزة

اذا كان هنالك من هدف تنموي شامل يمكن من خلاله وفي آن واحد تحسين مستوى المعيشة لمجمل السكان، وتخفيض معدلات العوز والبطالة لأفقر السكان، وتقوية الاستقرار المالي والنقدي على المدى الطويل، فهو هدف “النمو الاقتصادي المستدام والتشاركي”. وبناء عليه، يستحق هذا الهدف أن يتصدر قائمة أهداف الخطط والرؤى التنموية طويلة الأجل بلا منازع. 

وحسب تقرير عالمي معروف وشامل هو “تقرير النمو: استراتيجيات للنمو المستدام والتنمية التشاركية” (2008) المعد من قبل مجموعة من الخبراء برعاية البنك الدولي، فان النمو المستدام يمكن تعريفه بأنه النمو الحقيقي الذي يبلغ أو يفوق 7.0% سنوياً لمدة 25 سنة على الأقل!. أما النمو التشاركي فهو عادة ما يعرّف بأنه النمو الذي يساهم فيه ويشترك في ثماره مجمل ومختلف فئات السكان، والقادر على تخفيض نسبة الفقر وتعزيز تكافؤ الفرص، وعلى توفير فرص العمل الكريم، وتوسيع الطبقة الوسطى.

السؤال المركزي هو: كيف نحقق هذه الغاية الاقتصادية الأسمى المسماة “النمو المستدام والتشاركي”؟ وما هي السياسات الاقتصادية الاصلاحية الداعمة لهذا الهدف. بحث الاقتصاديون على مدى عقود في أسرار النمو المستدام وتقصي الشروط الضرورية والكافية والقابلة للتكرار لهذه الظاهرة طويلة الأجل، لكن المحصلة كانت اطاراً عاماً يضم آراء متعددة فيما يخص السياسات التفصيلية الداعمة للنمو. 

الرأي الراجح حاليا خصوصاً بعد الأزمات العالمية والاقليمية الحادة أنه لا توجد عموماً وصفة سحرية شاملة وفريدة للنمو تنطبق على كافة البلدان، وأن تشخيص النمو ودراسة محركاته ومعوقاته الأساسية يعتمد على نهج “دراسة كل حالة على حدة”، أي بدراسة كل اقتصاد دراسة متعمقة بظروفه وموارده وحجمه ومستواه التنموي وتاريخه ومؤسساته الرسمية وغير الرسمية. 

ففي دراسة شاملة للبنك الدولي حول “النمو الاقتصادي في التسعينيات: التعلّم من عقد من الاصلاحات” صدرت في عام 2005، أجرى خبراء البنك تحليلاً متعمقاً لتجارب الدول في تطبيق اصلاحات السوق كالخصخصة وتحرير الأسواق. وتوصلت الدراسة الى عدد من الاستنتاجات الهامة أبرزها: ان هنالك مسارات مختلفة لتحقيق ذات النمو المستدام، وأن سياسات اقتصادية مختلفة يمكن ان تقود الى نفس النتيجة، وأن نفس السياسة يمكن ان تؤدي الى نتائج متباينة، اعتماداً على الاطر المؤسسية للدولة واستراتيجيات النمو المتبناة. 

وعلى صعيد القطاع الصناعي تحديداً، فان أحدث تقريرين لجهات دولية متخصصة حول الانجازات والسياسات الصناعية حول العالم وهما تقرير “التنمية الصناعية” (2013) المعد من قبل منظمة الامم المتحدة للتنمية الصناعية وتقرير “المؤشر العالمي لتنافسية الصناعات التحويلية” (2013) المعد من قبل شركة ديلويت الاستشارية العالمية، هذين التقريرين قد أشارا بشكل مستقل الى فكرة رئيسية واحدة مفادها: صعوبة التوصل الى وصفة عالمية موحدة تضمن التفوق الصناعي وضرورة الاستفادة والتعلم من تجارب الماضي على الصعيد المحلي.

وبناء عليه، تكاد تجمع أحدث الأدبيات التنموية على فكرة مركزية تتعلق بصياغة الأجندة التنموية على المستوى الوطني وهي مصيدة الوصفات الجاهزة. فرغم وجود ملامح عامة عريضة ووظائف مشتركة ومحدودة لنجاحات الدول في تحقيق التنمية الاقتصادية، كنقل التقنية وتحسين الحوكمة وتشجيع التكوين الرأسمالي المنتج، فانه لا بديل عن الدراسة المتعمقة لخصوصيات الدولة والمكان والزمان عند صياغة السياسات والرؤى الاقتصادية، ولا بديل عن استراتيجية النمو القائمة على الشراكة ومتابعة وتقويم تنفيذها والتعلّم السريع والتفاعلي من تجارب الماضي على الصعيد المحلي. 

هذه الخلاصة الهامة تؤكد على أهمية المعرفة والحوكمة المحلية أكثر من أهمية السعي الحثيث بلا طائل أحياناً لما يسمى ب “أفضل الممارسات الدولية” سواء أكانت بدعم مالي أجنبي أم بدونه. فما يخدم الاقتصاديات الصناعية قد لا يفيد الدول النامية، وما ينطبق على الاقتصاديات الكبيرة قد لا يناسب الدول الصغيرة، وما يلائم اقتصاديات ذات موارد بشرية وفيرة قد يفسد اقتصاديات غنية في الموارد الطبيعية، وما يخدم اقتصاديات تعتمد اقتصادها على المؤسسات الرسمية القوية قد يضر باقتصاديات ضعيفة في مؤسساتها الرسمية .. وهكذا. 

قد يكون للخبرات الدولية دور في تعيين أدوات السياسة المتاحة وفي التعريف بالممارسات والاتجاهات والسياسات العالمية المتبناة في الدول الاخرى، لكن الوصفة الشاملة والاختيارات الاستراتيجية وتحديد الأولويات الوطنية مصدرها الأساسي هو الخبرات والحكمة المحلية. 

ولابد من التأكيد على أهمية أن “يملك” المجتمع برنامجه للاصلاح الاقتصادي، وأهمية تحديد الأولويات بدقة مع أخذ وجهات النظر المجتمعية وآراء القطاع الخاص بعين الاعتبار. وأخيراً يجب التأكيد على أهمية تعزيز ودعم آليات التنظيم الذاتي في الاقتصاد، كتعزيز المنافسة الفاعلة في الاقتصاد وآليات “التعديل المشترك للفرقاء”، وأهمية تشجيع منصات حوار السياسات في صياغة آليات جديدة للنمو التشاركي. 

وعلى المستوى الفني، يقترح اعداد تشخيص معمق ومحدّث للمعيقات الأساسية للنمو المستدام والتشاركي في الاقتصاد Growth Diagnostics مع الاستعانة بمسح ميداني دوري يرصد رضى القطاع الخاص عن بيئة الأعمال وتطورات هذا الرضى. وميزة هذا النهج انه يجمع بين “دراسة الحالة” ووجهات نظر قطاع الأعمال بدلا من التعميمات المكتبية الجاهزة. كما يقترح تفعيل فئة المستشارين المحليين والاستعانة بالخبرات المحلية المهاجرة لتعزيز الادارات البيروقراطية التي تدمن نهج “العمل كالمعتاد” أو تفتخر باعادة اختراع العجلة واعادة تدوير الوصفات الجاهزة. 

ففي هذه المرحلة نحتاج وبالحاح الى تفكير خلاّق وحوار جماعي خارج اطار “الصندوق” وخارج “اصولية السوق” و”اصولية الدولة”، وهي مهمة ليست يسيرة وتتطلب شراكة الجميع، بعيداً عن الجمود المؤسسي ومبدأ “مقاس واحد يناسب جميع الدول” في السياسات التنموية. 

ان أحدى المتطلبات الجوهرية هي تحديد هوية السياسات التنموية الموصى بها لتحقيق النمو التشاركي والتنمية الشاملة والمستدامة، وذلك بعد فشل النموذج الاشتراكي اثر تفكك الاتحاد السوفييتي وبعد اخفاقات النموذج الليبرالي في أعقاب الأزمة المالية والاقتصادية العالمية والتحولات العربية. وحسب تعبير المفكر في الاقتصاد السياسي جامس بوكانان: “اذا فشلت كل من الأسواق والحكومات، ما هو البديل التنظيمي؟” أنه رأس المال الاجتماعي والأخلاقي… وللحديث بقية.

التعليقات مغلقة.