صحيفة الكترونية اردنية شاملة

فك شيفرة الفيديو المشؤوم

0

غط الأردنيين في حالة من الوجوم العميق –كأن على رؤوسهم الطير- وهم يشاهدون سحابة سوداء تجتاح قلوبهم وتُذهب عقولهم، حاملةً في جنباتها رائحة الدم وأصوات الظلام… وبالتأكيد انطفاء أي أمل بعودة الطيار الأردني معاذ الكساسبة.
بدأت فصول المأساة في مساء يوم الثلاثاء بإعلان التلفزيون الأردني خبر إعدام الطيار معاذ بعد نشر تنظيم الدولة الإسلامية فيديو بعنوان “شفاء الصدور” يظهر إعدام الأخير حرقاً … ولقد أحرق هذا الفيديو المشؤوم صدور الأردنيين أكثر مما حرق أي شيء آخر.
وأكاد أزعم أن هذا الفيديو يشكل نقطة تحول تفصله عن كل ما سبقه في أرشيف هذا التنظيم، وفيه من الرسائل ما يحتاج إلى كثير من التفكيك والتمحيص، والقليل من العواطف، وإليكم أسبابي في ذلك.
أعتقد أن أي ناقد سينمائي سيصنف هذا الفيديو بأنه فيلم سينمائي مكتمل الأركان من حيث البدء بتحضير المشاهد لما ستؤول إليه نهايته، والتدرج في تطور أحداثه حتى الوصول إلى الذروة المتمثلة بمشهد الإعدام. بصمات كاتب سيناريو ومخرج سينمائي على درجة عالية من الحرفية واضحة بصورة فاضحة في كافة مشاهد هذا الفيديو، وهناك جهد حثيث في بناء “قضية” ضد الأردن والطيار معاذ الكساسبة على وجه التحديد.
الكاميرات المستخدمة في التصوير ذات تقنية عالية جداً، والمؤثرات الصوتية والمرئية تفوق – بسنوات ضوئية- مثيلاتها في الكثير من التلفزيونات الرسمية في دول المنطقة.
أما إعترافات الطيار المزعومة فهي ليست أكثر من قراءة لما كتبه له التنظيم –وهو ليس بالأمر المستغرب في هكذا حالات، وأغلب الظن أنها هي ذات “الإعترافات” التي نشرها التنظيم في مجلته “دابق” في مقابلة مع الطيار … ولكن مع اختلاف واحد مثير.
إن الدول المشاركة في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، وطبيعة تلك المشاركة التي وردت في هذه “الإعترافات” تكاد تكون معلنة ومعلومة للجميع، إلا أن زج إسم تركيا من ضمن الدول المشاركة هو تطور خطير ووراءه ما وراءه، خصوصاً إذا علمنا أن تركيا رفضت رسمياً المشاركة في التحالف. أتصور أن تركيا على موعد مع ما تخبئه لها الأيام القادمة.
ثم هناك المشهد التمثيلي الذي يُظهر الطيار معاذ وهو يستعرض –بندم- مشاهد الحرق والدمار الذي حل بما قصفته طائرات التحالف وكأن المخرج –أو المؤلف- أراد أن يوحي للمشاهد بأنه استحق ما سيقع عليه من عقاب. إلا أن المدهش هو استخدام هذا المقطع لتقنية تركيب الصور على خلفية خضراء (Green Screen) بصورة واضحة تؤكد الشكوك القديمة بهذا الخصوص فيما يتعلق بفيديوهات التنظيم السابقة.
أما مشهد الإعدام نفسه -الذي لا أريد الخوض في تفاصيله- فإني أزعم أنه ليس مشهد الإعدام الفعلي. فالمخرج استطاع من خلال تقطيع المشاهد واستخدام كاميرات من عدة زوايا أن يخفي وجه المعدَم وأن يوحي للمشاهد بأن من في المشهد هو الطيار معاذ. نعم، قد تكون هناك عملية إعدام فعلاً، ولكنه بالتأكيد لم يكن هذا المشهد هو الأخير في حياته.
وما لم أستطع فهمه هو القرار بالإعدام حرقاً برغم ما فيه من مخالفة للشرع ومخالفة لأساليب التنظيم في الإعدام. أما ما جاء من إيحاء في الفيديو من أن الطيار قد عوقب بما عاقب به المناطق المقصوفة هو تعمية عن الحقيقة. هل كان المقصود هو الإمعان في استفزاز الأردن؟ قد يكون، ولكني لا أظن ذلك.
مربط الفرس هنا هو إعلان الأردن أن الإعدام قد تم في الثالث من الشهر المنصرم، ولمن لا يذكر، كان ذلك بعد يوم واحد من عملية تحرير الطيار معاذ التي باءت بالفشل. فبعد أن تم رصد مكان الطيار إثر نقله من مكان احتجازه، قام التحالف بتنفيذ 13 غارة جوية استهدف فيها الفرقة 17 شمالي الرقة ومنطقة الفروسية شمال غرب المدينة، توطئة لهبوط مروحيتين لتحرير الطيار الأسير. هل من الممكن أن يكون الطيار قد استشهد في هذا القصف، وأُريد اختيار فبركة عملية إعدام تترك نفس آثار الموت نتيجة القصف في حال اكتشاف جثة الطيار؟ أم هل أعدمه التنظيم خوفاً من نجاح التحالف في تحريره مستقبلاً؟
وفي النهاية، يختتم الفيديو فصوله المظلمة والنكدة بعرض أسماء وصور وأماكن سكن الطيارين الأردنيين المشاركين في التحالف، في دعوة واضحة لمعتنقي فكر التنظيم لتصفيتهم مقابل مكافأة مالية. إن لم يكن هذا إعلان حرب على الأردن فلا أدري ما هو!
كل ما سردت، وكل ما أوضحت، قام به تنظيم محارَب ومحاصَر يتعرض للقصف ليل نهار، أعضاءه ثلة “متخلفة” و”بدائية” لكنها تمتلك من التقنيات والكاميرات والاستوديوهات ما يمكنها من إنتاج هذا “الفيلم السينمائي”، ناهيك عن الصمود في وجه تحالف العالم ضده … أترك لكم الحكم في ذلك!
خاتمة القول، الأردن ما قبل الإعدام ليس هو الأردن ما بعده، فالشعب الأردني لم يكن يشعر بأنه في خضم حرب، والتي كانت بالنسبة له مجرد أخبار غير محسوسة على شاشات التلفزيون. أما الآن، فقد أصبحت الحرب محسوسة وملموسة لديه، يراها وتراه … أذكروا تاريخ هذا اليوم واذكروا الساعة السابعة منه … فالأردن لم يعد بعده كما كان قبله.
حمى الله الأردن، ورحم الله الشهيد، وألهم الله ذويه الصبر والسلوان.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.