صحيفة الكترونية اردنية شاملة

تركيا، روسيا … والانقلاب الفاشل

0

لقد قصدت أن أنتظر أسبوعين أو ثلاثة قبل أن أتكلم فى موضوع المصالحة التركية الروسية. قصدت من فترة التروّي هذه أن تكون الأمواج التي حدثت نتيجةً لإلقاء حجر محاولة الانقلاب في المياه التركية قد عانقت شطآنها وتجسدت آثارها ومحصلاتها. ولكن –وللمفارقة- فإن محاولة الانقلاب تلك وما رافقها من ملابسات وما تبعها من اكتشافات قد سرّع بخروج هذا الحديث إلى النور.
لابد لنا بدايةً أن ننتبه إلى أن جنوح تركيا للمصالحة مع روسيا وإسرائيل جاء لتحصين تركيا –داخلياً وخارجياً- من عواصف المنطقة التي لفحتها … هذا مفهوم … وأنه لا يمكن لطرف أن يحقق كامل مطالبه بالتفاوض إلا إذا كانت مفاوضات المنتصر مع المهزوم، ولا بأس فيما حققته تركيا بعد سنوات من مفاوضاتها مع إسرائيل … هذا مفهوم … وأنه من المقبول أن تقدم تركيا بعض التنازلات البسيطة في مسعاها للمصالحة مع روسيا … هذا أيضاً مفهوم … ولكن أن تنعطف تركيا 180 درجة في موقفها من قضية إسقاط الطائرة الروسية … فهذا غير مفهوم.
لقد كان الموقف التركي في مبتدأ الأزمة مع روسيا أن كافة الإجراءات والتدابير التي اتخذت قبل إسقاط الطائرة الروسية هي صحيحة لا غبار عليها، وأن تركيا قد كانت تدافع عن مجالها الجوي وسيادتها –وهذا حقها. أما الانعطافة في الموقف التركي قد كانت عند الاعتذار –أو حتى إبداء الأسف- عن إسقاط تلك الطائرة في رسالة وجهها إردوغان لبوتين. من الضروري أن نتفق على أن السياسية الدولية وإن كانت تنطوي على تغيير المواقف بما تقتضيه المصالح، فإنها بالتأكيد ليست تغيير الوقائع بما تمليه الأهواء.
إذن، هناك ما قد استجد وحوّل يقين تركيا بصواب موقفها إلى شك، وثقتها إلى تردد، وأنها قد تكبدت خسائر اقتصاية وسياسية فادحة بلا طائل –وقد أتجرأ وأقول- بلا وجه حق.
ولكن ما الذي تكشّف لتركيا؟ وما علاقة محاولة الانقلاب الفاشل بكل ما تقدم؟
إسمح لي عزيزي القارىء أن نتأمل أنت وأنا السيناريو التالي: لقد كانت تركيا على موعد مع تحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية طائلة نتيجة للاتفاقيات الاقتصادية الضخمة التي وقعتها مع روسيا في ديسمبر/كانون أول 2014، وأهمها على الإطلاق خط الغاز الروسي الذي سيعبر من تركيا في طريقه إلى أوروبا (خط السيل التركي).
كانت تركيا ستحصل على الغاز الطبيعي من روسيا بأسعار تفضيلية بالإضافة إلى رسوم عبور … هذا اقتصاياً … وكانت تركيا ستكتسب أهمية جيوستراتيجية خطيرة ستجعل روسيا تقبل بخطىً حثيثة وأوروبا تهرول لتخطب ود تركيا … هذا سياسياً.
كل هذه المكاسب وهذا النفوذ المتأتي من “السيل التركي” لم يكن ليرق للكيان الموازي وخصوم إردوغان، فكان لابد من نسف الاتفاقيات الروسية-التركية أو عرقلتها على أقل تقدير. فبدأ الكيان الموازي بالتخطيط لإسقاط طائرة روسية بغير حق لتحل الوقيعة محل الصداقة ما بين روسيا وتركيا … وقد كان.
ولا أدري أحقٌ رمي أمريكا بظلال الشك بالتواطؤ أو عدم الممانعة، أم في ذلك شيء من الشطط. ولكن دعنا عزيزي القارئ ونحن نتأمل هذا السيناريو أن لا ننسى حقيقة التأثير–ولا أريد أن أقول الاختراق- الأمريكي في القوات المسلحة التركية بحكم عضوية تركيا في حلف الناتو وقاعدة إنجرليك الجوية التي تستعملها أمريكا جنباً إلى جنب مع تركيا، فضلاً عن إقامة فتح الله غولن عرّاب الكيان الموازي في أمريكا.
وإن كانت أمريكا لا تعارض ما ستحققه حليفتها تركيا من “السيل التركي” من مكاسب، فإنها بالتأكيد سيقض مضجعها ما ستحققه روسيا اقتصادياً وسياسياً من هذا الخط.
فروسيا تريد “السيل التركي” كي تنعتق من أوكرانيا طريق الغاز الروسي الوحيد إلى أوروبا، وبالتالي حرمان أوكرانيا من الغاز الرخيص ورسوم العبور مما سيركّع أوكرانيا اقتصادياً ويعزز من هيمنة روسيا على سوق الطاقة الأوروبي. كل ذلك كان ليدعم روسيا ويعطيها نفساً أقوى وأطول في مواجهتها مع أمريكا وأوروبا.
وبرغم أن الكيان الموازي وأمريكا يضمران من الدوافع والرغبات، ويمتلكان من الوسائل والأدوات ما يجعل من السيناريو الذي تقدم ذكره أقرب لما قد كان، إلا أنك عزيزي قارئ قد تكون اعتبرت ما تقدم سقوط في براثن نظرية المؤامرة.
وهنا يأتي دور محاولة الانقلاب الفاشل وعلاقتها بهذا الحديث!
لقد تكشّف تورط العديد من كبار ضباط سلاح الجو التركي، أعلاهم قائد سلاح الجو وليس أدناهم القائد التركي لقاعدة إنجرليك الجوية –سلاح الجو الذي كان أداة تنفيذ هذا السيناريو. ولكن الأهم من هذا وذاك، الخبر الذي نشرته جريدة “حرييت” في عددها الصادر في 19 يوليو/تموز الجاري.
لقد نشرت الجريدة خبراً مفاده إلقاء القبض على الطيارين التركيين الضالعين بإسقاط الطائرة الروسية بسبب تورطهما بمحاولة الانقلاب الفاشلة.
هل ما زال عندك شك عزيزي القارئ كيف حدثت الوقيعة ما بين تركيا وروسيا، ولماذا كانت الانعطافة التركية ومن ثم المصالحة؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.