صحيفة الكترونية اردنية شاملة

كيف نحفز النمو الاقتصادي في الاردن -2

من السياسات المقترحة لتحفيز النمو الاقتصادي في الاردن، والذي لم يتجاوز 2.25% خلال السنوات الثلاثة الماضية: تعيين عدد من الأنشطة والقطاعات الفرعية ذات القيمة العالية، الصاعدة منها والغائبة محلياً، واستخدام مختلف أدوات السياسة الاقتصادية (الاستثمارية والتجارية والنقدية والمالية وغيرها) بغية تشجيع استثماراتها وتسهيل تصديرها ونموها ضمن ظروف التنافس الدولي الشديد. هذا النمط من السياسات لم يلقى الاهتمام الكافي للأسف من قبل الادارة الاقتصادية الاردنية خلال العقدين الماضيين.

اذ يعتبر التوافق الوطني على قائمة من الأنشطة والقطاعات الاقتصادية ذات الأولوية والتي تستحق الدعم من مختلف السياسات الحكومية جزءاً لا يتجزأ من التوجهات الاستراتيجية والسياسات الصناعية التي يجب ان تعتمدها أية ادارة اقتصادية فاعلة في أي اقتصاد ديناميكي.

هذا الاختيار الأستراتيجي لأنشطة واعدة وذات أولوية يعتبر توجهاً لازماً وليس ترفاً، لأن الدول تتفاوت في مواردها الفريدة وامكاناتها المتاحة وفي مزاياها النسبية. وهو ايضاً قرار استراتيجي لأي دولة نامية تسعى للازدهار الاقتصادي لعدة اعتبارات، ليس أقلها ندرة الموارد البشرية والمالية اللازمة لتوفير الرعاية والدعم لكافة القطاعات الاقتصادية من ناحية، وضرورة التنسيق وتحقيق دفعة قوية في تطوير قطاعات واعدة مجلياً ومزدهرة عالمياً، من ناحية أخرى. 

بل ليس من المرغوب لأي قطاع عام، حتى ولو كانت موازنته العامة تحقق فائضاً مستمراً، أن يوفر الدعم لكافة القطاعات والأنشطة في القطاع الخاص، فهذا يتطلب تكاليف ادارية عالية في مجال المتابعة والتقييم، كما انه يفتح الباب على مصراعيه لفرص الفساد والتكسب غير المشروع بين القطاعين. 

وللأسف، تخلو السياسة الصناعية الجديدة والمعتمدة حديثاً من قبل وزارة الصناعة والتجارة والتموين للأعوام 2017-2021 من اشارة لصناعات محددة مستهدفة وواعدة، تاركة الاختيار للمستقبل في اطار “إنشاء المرصد الصناعي وتحليل البيانات والاحصائيات الخاصة بالقطاع الصناعي” (ص 64). كما ان هذه القائمة حتى ولو أعدت ستنحصر في القطاعات الصناعية دون الخدمية ودون حصول الاجماع الوطني عليها.

كما لا تعتمد خطة تحفيز النمو الاقتصادي الاردني 2018-2022 اية أنشطة وصناعات واعدة ذات أولوية، سواء في القطاعات السلعية أو الخدمية، وركزت على تطوير بيئة الأعمال في مختلف قطاعات الاقتصاد الاردني، وكأنه لا توجد قيود جوهرية على التنفيذ والتمويل في اقتصادنا الوطني!.

وتجدر الاشارة الى ان سياسة اختيار أنشطة وصناعات واعدة وتسهيل نموها، أو ما يعرف فنياً بسياسة الاستهداف الصناعيIndustrial Targeting تعرضت عالمياً الى التضييق من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والى التحريم من قبل منظمة التجارة العالمية كذلك، باعتبارها تسيء الى تخصيص الموارد وتشوه الحوافز وتقيد التجارة الحرة. 

وأذكر جيداً حيثيات عرض ورقة بحثية في عام 2004 من اعداد كاتب هذا المقال حول “تقييم التنافسية الدولية لقطاع الصناعات التحويلية في الاردن” ضمن مؤتمر دولي حول الاقتصاد الاردني في مركز الدراسات الاستراتيجية التابع للجامعة الاردنية، وتم وقتئذ تقييم الورقة من قبل خبير في صندوق النقد الدولي. باختصار، تعرضت الورقة للمديح الصريح الا في مسألة توصية الاستهداف الصناعي لعدد من الصناعات التحويلية ذات الأولوية.

وهنا لابد من التنويه الى مسألة تناقض مواقف المؤسسات الدولية في مجال الدعم والاعانات الحكومية، وتحديداً تناقض الموقف تجاه دعم الاستهلاك مقابل دعم الانتاج. فالبنك الدولي يشدد على تحديث منظومة دعم الاستهلاك في الاردن وحصره بالمستحقين دون غيرهم، أي استهداف الدعم لمستحقينه دون غيرهم. فلماذا لا يطبق مفهوم “الاستهداف” على المنتجين والأنشطة أيضاً وحصره في المستحقين فقط؟ لماذا الاصرار على الدعم المعمم للمنتجين وعلى الدعم النقدي المخصص للمستهلكين؟

لكن البنك الدولي في أحدث النماذج التنموية وهو «الاقتصاد الهيكلي الجديد» (2012) يقر ضمنياً بأهمية التركيز على تطوير بعض الصناعات والعناقيد بشرط عدم المبالغة في تحدي مبدأ «المزايا النسبية». فحسب هذا النموذج الجديد، ينبغي تشجيع صناعات مختارة بغية تعزيز التحول الهيكلي في الاقتصادات النامية لكن بما لا يتحدى بشكل جوهري مبدأ «المزايا النسبية» أو اشارات السوق وحوافزه. كما ان القواعد الدولية تعطي فرصاً ومجالاً مسموحاً لتوفير الدعم للمشاريع الصغيرة والمتوسطة.

السؤال الأساسي الآن: كيف نحدد الصناعات والقطاعات الواعدة والمستهدفة؟ ليس الهدف هنا استعراض الطرق الفنية للاختيار، بل آلية الاختيار من منظور مؤسسي. هذا يتم من خلال لجنة فنية من الوزارات والمؤسسات الاقتصادية الريادية من القطاعين العام والخاص برئاسة وزارة سيادية جديدة ومقترحة للاقتصاد الوطني كخلف قانوني لوزارة التخطيط. هذه اللجنة تقدم مقترحاتها وتوصياتها المدعومة بالأدلة والمسوغات المتاحة الى الفريق الاقتصادي المركزي أو “العقل الاقتصادي” في المملكة للموافقة أو الرفض أو التعديل أو طلب المراجعة. 

ولا تنحصر قائمة المؤسسات المعنية في اللجنة الفنية بوزارة الصناعة والتجارة ووزارة الزراعة على أهميتهما، بل أيضاً وزارة المالية والبنك المركزي والمؤسسة الاردنية لتطوير المشاريع وهيئة الاستثمار وغيرها.

وبطبيعة الحال، فان الأنشطة والقطاعات الواعدة ستكون مستهدفة ضمن سقف زمني محدد (ثلاث سنوات مثلاً) يتم بعدها المراجعة والتقييم النهائي ومن ثم اختيار قائمة جديدة من الصناعات والقطاعات المستهدفة.

والخلاصة ان مبدأ الاستهداف القطاعي يخفف من تشتت الجهود التنموية وتبعثرها، كما انه يأخذ بالحسبان قيدي الموازنة العامة ومـــوارد «المـتابعة والتقييم» ولا يتجاهل حقيقة تمايز القطاعات في الأداء الفعلي والكامن. فالسؤال الأهم هو ليس حول جدوى الاستهداف القطاعي وانما حول أفضل السبل لتطبيقه بغية تحقيق الدفعة القوية اللازمة للرؤية التنموية.

وأصبح من الجلي في ظل الظروف الخارجية المضطربة ان تبني نهج “العمل كالمعتاد” لا يقود الا الى تراكم التحديات وزيادة عبئها المستقبلي. مما يبرز الحاجة الى ادارة مركزية وتشاركية للملف الاقتصادي وتطوير سياسات استهداف قطاعات وأنشطة مختارة ذات أولوية كمكمل وليس كبديل لسياسات تطوير بيئة الأعمال العامة. 

التعليقات مغلقة.