صحيفة الكترونية اردنية شاملة

يوميات ابو عودة : وثائق من الماضي عن السياسة والرجال

فرغت من قراءة الألف وخمس صفحات التي احتواها كتاب ” يوميات عدنان ابو عودة ١٩٧٠- ١٩٨٨” مذكرات وشهادات . وهي – كما يصفها – أوراق كان قد كتبها في مدوناته عن اللقاءات والاحداث التي شارك فيها  خلال تلك الفترة الزمنية . ومن هنا تأتي أهميتها  كوثائق وطنية لسياسي عمل طويلاً في دوائر صنع القرار باعلى مستوياتها ، اي دائرة الملك الحسين رحمه الله  . وثائق تضع امام الباحثين في تاريخ ومسيرة المملكة الاردنية  جانباً لم يكن مرئياً من فكر ومواقف الملك الراحل  خلال حقبة زمنية هي الأهم والاخطر في حياة شعوب المنطقة . بما حفلت به من احداث تاريخية حملت معها تحولات عميقة لا زالت تؤثر بشكل كبير على مصير ومستقبل العرب كل العرب . من هذه الأحداث : مبادرة السادات والحل المصري المنفرد ، الحرب العراقية الإيرانية ، العلاقة الاردنية الفلسطينية ، قرار قمة الرباط ٧٤ ، وفك الارتباط مع الضفة المحتلة ، الدور الامريكي في ما سمي بعملية السلام من كارتر الى ريغان ، ومن بيغن الى بيريز والتجاذبات حولها بين القيادتين الاردنية والفلسطينية .
        هذه الأوراق او اليوميات والمذكرات ، يقدّم فيها عدنان ابو عودة نفسه كمستشار للملك ومفكر ومحلل سياسي في خدمة جلالته اكثر من كونه وزيراً في حكومته او بلاطه ، وهي – كما ارى – ثروة فكرية تقدم للنخب في مؤسسات الدولة وخارجها  نماذج التفكير والتحليل السياسي ، التي كانت قائمة في الدولة  ، في فهم الأحداث المتعلقة بالقضايا الإقليمية والدولية وتحديد المواقف منها ، من القضية الفلسطينية الى مسألة العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة . تقدم هذه الوثائق ايضا صورة لما كان عليه  رجال الدولة ، من رؤساء الحكومات وكبار موظفي الديوان الملكي ، ودورهم  في  صناعة القرارات  التي كانت تصدر عن الملك على شكل توجيهات او مواقف سياسية واعلامية .
          تُلقي أوراق ابو عودة ، بطريقة غير مسبوقة ، الضوء على شخصية الحسين وأسلوبه في القيادة وإدارة الأزمات  والتصدي لها خاصة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية ، و تجاه  ما سمي بعملية السلام وعلاقاته مع واشنطن  ونجاحاته في مواجهة الضغوط التي حاولت جره الى حلبة اتفاقية كامب ديفيد المصرية الاسرائيلية لإرغامه على التنازل والتفريط .
          يطلعنا ابو عودة على الحوارات الداخلية بين جلالته و اركان ادارته ، الحكومة والديوان الملكي والمخابرات حول المواقف التي يجب اتخاذها في القضايا المطروحة  والطريقة المثلى في التمسك بالحقوق وفق مبدأ  الارض مقابل السلام ، تظهر الأوراق موقف الملك – في تلك المرحلة – المناؤى للحلول المنفردة مع اسرائيل . ومن اقواله ” لا أمل في الحل السلمي ، لقد اختارت أميركا اسرائيل ولا يمكن ان تعيد الارض مقابل السلام ، ولا يمكن لي ان اقبل أقل من ذلك . وعليه ، فإنني لن أفاوض “. كان هذا هو قراره في عام ١٩٨٤ في ظل ضغوط إدارة ريغان التي كانت تحاول فرض تسوية للقضية الفلسطينية بعد اخراج المنظمة من لبنان .
         ويقيناً ( وهذا رأيي ) لو ان الفلسطينيين لم يقعوا في فخ الحلول المنفردة في اتفاقية أوسلو عام ٩٣ لما ذهب الملك الراحل الى وادي عربة منفرداً  .
        وهو ، اي الحسين – رحمه الله – لم يقبل الضغوط من قبل الكونغرس الامريكي عام ٨٤ الذي  حاول ربط المعونة العسكرية للأردن ( ٢٢٠مليون دولار )  بشروط لصالح اسرائيل ، ينقل عن جلالته قوله   ” انني اتساءل ، هل التسليح بهذا المبلغ يستحق الاهانة من الكونغرس ؟. اننا في الاردن لا نستطيع تحمل اذلالاً اخر من الكونغرس وانه لو حدث ذلك سنضطر  للرد بما يؤذي الادارة الامريكية “.
        يُظهر ابو عودة “عمق التفكير السياسي للملك ” كما يصفه ، تجاه المسائل الداخلية والقضية الفلسطينية  والعلاقات العربية الاردنية  . ولعل  اهم ما في هذه الأوراق على الصعيد المحلي اسلوبه في الادارة وصناعة القرار ، ستجد نفسك وانت تتابع القراءة  انك امام رؤساء حكومات  هُم فعلا رجال دستور واصحاب ولاية عامة في السلطة التنفيذية ،  مثل زيد الرفاعي ومضر بدران والشريف عبد الحميد واحمد عبيدات  ، وان مجلس وزرائهم يستمع ويناقش القضايا المتعلقة بالشؤون الخارجية ، وعلى سبيل المثال كان زيد الرفاعي كما ُتظهر الأوراق ، وبعض ما سمعت ممن شهدوا ذلك ، يفتتح جلسة الحكومة باطلاع الوزراء على اخر المستجدات فيما يتعلق بتحركات الملك في القضايا الخارجية . وتجد في ردة فعل مضر بدران الغاضبة وفِي تعليقه  على خبر  أذاعه صوت اسرائيل عن لقاء بين الملك ووزير الدفاع الصهيوني موشى دايان   ، ما يجسد دور رئيس الحكومة الدستوري في ان يعرف ويعلم ويشارك في القرار . وبسبب هذا الغضب يقدم الملك لفريقه شرحا كاملا وتفصيليا للقاءاته السرية مع الإسرائيليين  ويلخص نتائجها بقوله  ( لقد التقيت بكل زعماء اسرائيل واكدت لهم على موقفي الدائم الارض مقابل السلام ، انهم لا يريدون التنازل عن الارض ) . و في مناسبة اخرى ،كما جاء في الأوراق ، عن حوار في الديوان الملكي حضره ابو عودة  ورئيس الديوان مروان القاسم يتساءل الملك  ” ربما كان من الخطأ ابتداء ان نقبل بمواقف معتدلة ، وكان من المفروض ان نتشدد منذ البدء لنصل الى المعقول ” ويعلق ابو عودة ” خطأنا يا سيدي بدأ بالتنازل الكبير الذي أعطيناه لاسرائيل بقبول القرار ٢٤٢ اذ انتقلنا من مرحلة رفض كيانها الذي استمر حتى عام ١٩٦٧ الى مرحلة القبول بها في هذا القرار من دون أخذ تنازل مقابل التنازل الذي أعطيناه “.
       بعد هذا الاستعراض الذي لا يفي هذه اليوميات حقها من التحليل واستنباط الدروس والأفكار والمناهج السياسية أسجل بعض الملاحظات ( وبعضها نقدي ) على ما جاء فيها:
       الاولى : لم يقدم ابو السعيد في اوراقه ما كان متوقعاً منه عن احداث أيلول عام ٧٠ ، وان كان قد حاول ان يسد هذا النقص في مقابلته مع النٓاشرين في مقدمة الكتاب . وقد يكون عذره ، انه لم يكن قد بدأ آنذاك كتابة مايحدث معه في دفتر يومياته . كما ان عام ١٩٨٢ غاب عن هذه الأوراق على أهميته ، كخلفية لتفسير الأحداث التي قادت الى مصالحات وخصومات بين الاردن ومنظمة التحرير بين عامي ٨٣ و ٨٧ في ظل تناوب المشاريع الامريكية لحل القضية الفلسطينية التي أفاضت الأوراق في تناولها .  ففي هذا العام (٨٢) غزت اسرائيل لبنان وحاصرت بيروت وأخرجت المنظمة الفلسطينية وقواتها  منها ، تبع ذلك حصار القوات السورية لطرابلس وإخراج قوات المنظمة منها ومن البقاع اللبناني مما أحدث انقلاباً استراتيجياً في سلوك واهداف المنظمة .
    الملاحظة الثانية : توقف ابو عودة عن نشر اوراقه بعد عام  ١٩٨٨ الذي وضعه كنهاية زمنية لهذه الأوراق ، مع انه شغل خلال السنوات الممتدة من ٨٨- ٩٢ منصب مستشار الملك ورئيس الديوان الملكي ، وهي التي شهدت تحولات خطيرة مثل الحرب الامريكية الاولى على العراق بعد احتلاله للكويت وانعقاد مؤتمر مدريد للسلام  . واذا كان قد اظهر في المقابلة بمقدمة الكتاب انه غير راضٍ عن اتفاق واشنطن بين الاردن وإسرائيل الذي وقع عام ٩٣ ، فان اجلاء رأيه عن تلك السنوات التي شهدت اتفاقية أوسلو ومهدت لوادي عربة( كان سيكون لو فعل ، ونأمل ان يفعل ذلك مستقبلا ً) بمثابة مراجعة منه للسياسات التي شارك في صنعها في إطار ما سمى بعملية السلام منذ عام ١٩٧٧.
    الملاحظة الثالثة : فيما يخص العلاقة مع الضفة الغربية المحتلة ومع الشعب الفلسطيني والمنظمة . تضهر سياسات الدولة الاردنية حولها  ، حسب هذه الأوراق ، حالة من اللاستقرار والتناقض خلال السنوات الممتدة من ١٩٧١ الى ١٩٧٤ ومن ١٩٨٣ الى ١٩٨٧ . خلال الفترة الاولى ،  بعد احداث أيلول ، اقدمت الدولة على تشكيل حزب الاتحاد الوطني ، ثم روابط القرى بالضفة المحتلة ، بما اظهر  تمسكا بالوحدة الاردنية الفلسطينية ،اي وحدة الضفتين ، وهو ما تجسد أيضاً  بطرح مشروع المملكة المتحدة عام ٧٢ . لكن هذه المواقف سرعان ما تبدلت بالموافقة على قرارات قمة الرباط ٧٤ التي اعترفت بالمنظمة ممثلا شرعيا وحيداً .
التناقض الاخر : انه في الوقت الذي كان فيه الاردن يسعى لاقناع المنظمة بقبول القرار ٢٤٢ تمهيدا لعقد مؤتمر دولي اقترحته إدارة ريغان  كان الملك ومستشاريه وفِي مقدمتهم ابو عوده قد اظهروا  في عام ٨٤ اليأس من عملية السلام ومن الدور الامريكي المنحاز لاسرائيل ، الى حد اعتبار القبول العربي بالقرار المذكور خطأ لانه قدم تنازلات لاسرائيل بدون مقابل . ويتعمق هذا التناقض بسعي الاردن في عامي  ٨٦  و ٨٧ لخلق بديل فلسطيني من الضفة للتفاوض  امام عناد عرفات ورفضه للقرار ٢٤٢ والصيغة المطروحة للمؤتمر الدولي آنذاك  .
    ويستمر التناقض نهاية عام ٨٧ عندما اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الاولى حيث اقدم  الاردن على إصدار ” قرار فك الارتباط مع الضفة الغربية المحتلة ” ٠ فإذا كانت القيادة الاردنية كما عبر ابو السعيد عن ذلك في اوراقه مقتنعة بان  قرار قمة الرباط عام ٧٤  بان ” المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ” قد جاء بوحي من كيسنجر ، فان قرار فك الارتباط يأتي لترسيخ هذا القرار و بعد عامين ( ٨٦ و٨٧ ) حافلتين بمحاولات الاردن ايجاد قيادة بديلة للمنظمة والاعتماد على قيادة من الضفة وغزة يقف الاردن خلفها . وهذا مؤشر على عدم الثبات والاستقرار في هذه السياسات . اما اذا كانت الحجة لفك الارتباط ، ان الانتفاضة أظهرت ولاء الفلسطينيين للمنظمة ، فماذا عن الملايين من الأردنيين من أصل فلسطيني بما فيهم اللاجئين والنازحين ؟ الا يعتبر وجودهم كجزء من الدولة الاردنية  مبررا للتمسك بحتمية الشراكة الاردنية الفلسطينيية في الحل وتصوراته ( الشراكة بالتمسك بالدور وليس بالتمثيل ) والاصرار على استخدام مسألة التمثيل بمواجهة الاحتلال فقط وفي مسألة تقرير المصير في الضفة وغزة .  وتبلور هذا التناقض عام ١٩٩٢عندما  لم يمنع قرار فك الارتباط الاردن مرة اخرى من قبول صيغة الوفد المشترك مع المنظمة في مؤتمر مدريد . واعتقد ان الاستراتيجية الاردنية تجاه القضية تميزت بالتقلب وبعدم الاستقرار وضياع الهدف منذ قمة الرباط .
      لقد تركزت الاستراتيجية الصهيونية والأمريكية طوال العقود الماضية على تصور حل القضية على حساب الاردن عبر صياغات مختلفة ،  وكان ذلك يفرض  بناء استراتيجية اردنية – فلسطينية طوال تلك الفترة ترتكز على حق العودة وتقرير المصير باعتبار ذلك جزءا من المصالح الوطنية الاردنية التي لا تقبل المساومة ، بحيث تُفهم الشراكة الاردنية مع الفلسطينيين سندا لهم في استرداد حقوقهم الوطنية وفِي مقدمتها حق العودة ، غير ان ما حدث هو رسم سياسات مرحلية وغير مستقرة من الطرفين .
    الملاحظة الرابعة : في اكثر من موقع في الأوراق يشير ابو السعيد  الى ما اسماه بالتيار الإقليمي الأردني والى مسألة حجب الوظائف عن اردنيين من أصل فلسطيني التي ظهرت في سياسة الدولة وبين بعض النخب بعد قرار قمة الرباط حول الممثل الشرعي والوحيد .وحسب معرفتي واطلاعي فان ( مقاومة أردنة الفلسطينيين في الاردن  ) كان شعارا علنياً لمنظمة التحرير منذ قمة الرباط وحتى نهاية السبعينيات . وان ذلك كان إفرازاً طبيعيا ، وردة فعل منطقية من قبل تيارات ظهرت بين الطرفين الأردني والفلسطيني  بعد  الصدام المسلح على الارض في عامي ٧٠ و ٧١ ، ثم الصدام والقطيعة السياسية بعد قرار الرباط .
     لا اريد الخوض اكثر في هذه المسألة ، التي أصبحت من الماضي . و كنت قد انخرطت في حوار حولها  مع تيارات إقليمية فلسطينية خلال تواجدي في بيروت في الأعوام الممتدة من ١٩٧٧ الى ١٩٨١   . واكتفي  بالاشارة الى ان السياسة الاردنية في العلاقة مع الأردنيين من أصل فلسطيني ، هي رغم الشوائب والنواقص ، تحافظ على بيئة اجتماعية ووطنية ترسخ عوامل الوحدة وتحاصر الإقليمية من اي جهة أتت .
     وفِي رأيي ، الذي  أتمسك به منذ وقت طويل ، ان الاردن حافظ ويحافظ على هوية المجتمع الفلسطيني داخل الاردن وينمي هويته الفلسطينية ، وهذا موقف وطني وقومي ونضالي ، فالأردنيون من أصل فلسطيني لهم جمعياتهم ودواوينهم يُنظمون فيها انتماءاتهم الاجتماعية لموطنهم الأصلي ، يلتصقون من خلالها بالمدن والقرى والعائلات والعشائر التي جاءوا منها وينتمون اليها ، بما يحافظ على أواصرهم  وتراثهم وعاداتهم الأصلية والأصيلة ، وهذا الواقع المجتمعي ( الفلسطيني ) داخل الاردن ، الذي يركز على منابع الثقافة والهوية وعلى حق العودة مع الالتصاق بالوطن المحتل والسليب ، يعني ان الأردنيين من أصل فلسطيني ومن بينهم اللاجئين والنازحين هم بالأساس ( وهذا لا ينتقص من مواطنتهم الاردنية ) جزء من الشعب الفلسطيني في الوطن المحتل . هذه مسألة مهمة يجب عدم  التفريط بها في مواجهة ادعاءات وسياسات صهيونية قديمة وقائمة ، معلنة ومكتوبة ، تزعم بان الفلسطينيين في الضفة والجليل وغزة هم اقلية عربيه قومية في اسرائيل اليهودية وان وطنهم الأصلي في الاردن .
     اختم بهذه الملاحظات ، التي هي وغيرها ، قد تساهم في شد الانتباه لقراءة هذه اليوميات لرجل من رجال الدولة الاردنية  شهد وشارك في كتابة اهم فصول تاريخ الاردن  على المستويين الوطني والاقليمي . لقد  عرف عن ابو السعيد صدقه وصراحته وإخلاصه لوطنه وعمق تحليلاته السياسية للأحداث والتطورات . وهو  في كل ما يقول ويكتب وما يعلن من مواقف يتمسك  بمبادئه وقناعاته التي  لم تغيرها الضغوط عليه ولا الاتهامات . لم يقف ضد وطنه الأصلي فلسطين في أيلول٧٠ لإيمانه بانه يدافع ”  عن شرعية الحكم في الدولة الاردنية التي أصبحت ضعيفة ومهددة “. ولم يشغله شيء اكثر من تعزيز دور الاردن وقوة نظامه  لان في  ذلك ضمانة  لاسترداد الحقوق الفلسطينية .

التعليقات مغلقة.