صحيفة الكترونية اردنية شاملة

كيف نضبط الأسواق بفاعلية؟

اكتسبت قضية “الرقابة على الأسواق والأسعار” أهمية متزايدة بدءأ من الأسبوع الماضي مع تزايد العبء الضريبي على عشرات السلع الغذائية الضرورية، علماً بأن مجموعة المواد الغذائية تستأثر بحصة كبيرة تبلغ ثلث موازنة الاسرة في الاردن على الأقل حسب مسح نفقات ودخل الاسرة. وهذه النسبة الوسطية تتزايد دوماً مع تدني دخل العائلة بسبب أولوية الغذاء لبقاء أي اسرة.

الرقابة على مختلف الأسواق، وعلى السلع والخدمات الأساسية على وجه الخصوص، هي وظيفة أساسية لاي اقتصاد قائم على الاسواق الحرة، الى جانب وظيفة حماية حقوق الملكية. وهي وظيفة تحمي الطبقات الفقيرة والوسطى ولا تتناقض مع فلسفة اقتصاد السوق، بل هي من أساسيات بقائه وازدهاره في الاجل الطويل، رغم أنها وظيفة ليست سهلة في الاقتصاد المعقد المعاصر. 

فحسب آخر تعداد رسمي للمشاريع الاقتصادية في الاردن، هنالك نحو 157 الف منشأة خاصة في كافة قطاعات الاقتصاد الاردني ومن مختلف الأحجام، ومعظمها يتوطن في قطاعي الصناعة وتجارة التجزئة. واذا اراد القطاع العام تخصيص موظف حكومي لكل 50 منشأة، نحتاج الى ما يفوق ثلاثة آلاف موظف رقابة وتفتيش بدوام كامل، جلهم في وزارة الصناعة والتجارة.

المسألة ليست محصورة فقط في المتابعة الحكومية القبلية والمسبقة لآلاف المنشآت، بل تتضمن أيضاً تكاليف مالية ومجتمعية جراء تنفيذ الأنظمة والتعليمات الرقابية. ففي عام 2017، تم ايقاف أو اغلاق ما يفوق 2500 مؤسسة غذائية مخالفة وتم تحويل 916 مؤسسة للقضاء حسب تقرير وكالة “بترا” هذا الشهر.

علماء الاقتصاد أدركوا المهمة الضخمة في الرقابة على مختلف الأسواق والمنشآت في الاقتصاد الصناعي المعاصر والمعقد، وخرجوا باستنتاج عام مفاده ضرورة تكميل الرقابة البيروقراطية المركزية برقابة لامركزية، والتي هي عموماً أكثر كفاءة وأقل كلفة على الاقتصاد والموازنة العامة في الأجل الطويل- اذا ما أُحسن تصميمها وتنفيذها. 

ويقصد بالرقابة اللامركزية: تعزيز قوى المنافسة في مختلف قطاعات الاقتصاد لضمان انضباط الأسواق من حيث الجودة والسعر. كما يؤكد عدد متزايد من الاقتصاديين أهمية تكميل الأسواق الحرة والمنافسة الفعالة بأخلاقيات السوق وقيم التعامل القائم على الثقة. وقد أثبتت الدراسات التجريبية المتوفرة أهمية المنافسة المحلية الفعالة في دعم كفاءة ومرونة الاقتصاد وليس فقط دورها الحيوي في حماية المستهلك وفي منع المغالاة في أسعار السلع والخدمات، وبالتالي الحد من الضغوط التضخمية وتحقيق النمو التشاركي Inclusive Growth.

وفي هذا المقال، سأشرح مثالاً عملياً على تعريف المفكر فوكوياما لبناء الدولة بأنه جهد متسق يرمي الى: “تقوية المؤسسات القائمة وبناء مؤسسات جديدة فاعلة وقادرة على البقاء والاكتفاء الذاتي”. فما هو التطوير المؤسسي والتشريعي اللازم لضمان المنافسة وبالتالي الرقابة الفاعلة على الأسواق في الأجل الطويل- بناء على هذا التعريف؟

بناء مؤسسات المنافسة في الاقتصاد القائم على السوق هي مسؤولية الدولة التنموية وتدخل ضمن اطار ما يعرف بحوكمة الأسواق Market Governance. وفي الأدبيات الاقتصادية المعاصرة، يمكن حوكمة السوق اما من خلال هيئة تنظيمية متخصصة (كهيئة تنظيم قطاع الاتصالات)، أو من خلال مؤسسة وسياسة وطنية للمنافسة تراقب مختلف الأسواق والقطاعات، أو كلا الخيارين معاً. في اقتصاد صغير وذي موازنة عامة تتعرض لضغوط متزايدة مثل حالة اقتصادنا الوطني، فان تأسيس عدد كبير من الهيئات التنظيمية المستقلة والقطاعية يبدو غير مبرر. هذا يفترض أن تُعطي مؤسسة المنافسة أولوية في الدعم والرعاية كهيئة مركزية للرقابة على الأسواق. 

ولهذا أوصت وثيقة الأجندة الوطنية 2006-2015 بدراسة انشاء هيئة عامة ومستقلة للمنافسة خارج وزارة الصناعة والتجارة والتموين (تخلف مديرية المنافسة في الوزارة) للعمل على تفعيل وتطوير قانون المنافسة الاردني، وهي مبادرة يؤيدها الكاتب دون تحفظ، ولم تلق الاهتمام حتى تاريخه. 

وعملية بناء “مؤسسات المنافسة” هي مسؤولية استراتيجية وليست باليسيرة في آن واحد. هذا صحيح تماماً بعد الأزمات الاقتصادية العالمية والاقليمية وخصوصاً في حالة الاقتصادات الصغيرة. ففي اقتصادات السوق الصغيرة فان ضيق حجم السوق المحلي قد لا يسمح بتواجد العديد من المؤسسات الخاصة والكبيرة التي تتنافس بفاعلية فيما بينها وتتمتع أيضاً بوفورات الحجم الكبير في آن واحد. هنا تحرير التجارة الخارجية قد يفيد لكن ضمن حدود. وبالتالي تتطلب هذه الوظيفة موارد بشرية ومالية وصلاحيات تشريعية وادارية مستقلة قوية، سيما وانها رقابة عامة وكلية وليست قطاعية أو تختص بسوق محدد. 

نحن في الاردن تفوقنا على معظم الدول العربية في توقيت اصدار تشريع وطني للمنافسة. لكن في المقابل، تم اصدار وتنفيذ القانون بعد نحو عقد ونصف من بدء برامج الاصلاح الهيكلي بالتعاون مع البنك الدولي. وبرأيي، فان اصدار هذا القانون كان ينبغي أن يتم في عام 1989 مع بدء تحرير الاقتصاد والأسواق في الاردن. اذ صدر أول قانون للمنافسة في الاردن في عام 2002 كقانون مؤقت بدعم من برنامج “اجادة” الاوروبي ليتم في عام 2004 اصداره كقانون دائم وتنفيذ احكامه. فأولويات الاصلاح الهيكلي كانت تفرض وجود آليات الرقابة على الأسواق قبل تحريرها.

ولا أعلم سبب التأخر في اصدار هذا القانون في ظل برامج التصحيح الاقتصادي والاصلاح الهيكلي، ولماذا لم يشترطه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ضمن برامج اقراضهم المتعددة خلال الفترة 1989-2001؟!

حالياً، الوضع الراهن لقانون المنافسة يعاني من تحديات في التنفيذ وفي الموارد المتاحة. وبناء على هذه المحددات، يرتكز التطبيق الحالي للقانون بصورة أساسية على مبدأ ردود الأفعال أو الاستجابة المتقطعة للشكاوى من ممارسات مخالفة لقانون المنافسة. ويبدو ان هذا الوضع لا يُحدث في المحصلة فرقاً جوهرياً في هيكل الأسواق المحلية وبالتالي حوكمتها. ولا زلنا بانتظار تقرير المنافسة لعام 2016 والذي من مهامه متابعة وضع المنافسة في الاقتصاد الاردني بكافة قطاعاته بشكل سنوي يُفترض من خلال مؤشرات احصائية وكمية. كما لا تزال مسودة قانون حماية المستهلك قيد الاعداد والتحضير بانتظار اقراره السريع.

التعليقات مغلقة.