صحيفة الكترونية اردنية شاملة

الإصلاح المطلوب والمسؤولية القومية لنظامنا السياسي

إن أمتنا، ممزقة حتى الآن، إلى (22) دولة، تعتقد كل واحدة منها، أنها ذات سيادة، يجسدها ما تُظهره للعيان، من شكلٍ لعلمٍ ونشيدٍ، ودستورٍ تنبثق عنه سلطات، في حين أن مواطنها يدرك، أنها أسيرة لدى من يوفر لها الحماية، أو يقدم لها المال.

ومع طول عهد التمزق وكبت الحريات من أجل حكم الفرد والإستئثار بالسلطة على حساب الشعب المغيّب، تتابع الإنحدار والضعف، حتى وصلنا إلى الدرك الأسفل بين أمم العالم.

والدولة التي يتطلع إليها كل حريص من أبناء أمتنا، هي الدولة المدنية الديمقراطية، التي يسود فيها حكم الدستور والقانون لا حكم الأشخاص، ومصدر سلطات من يحكمها، هو الشعب الذي وجدت الدولة ووسائلها، من أجل حماية حقوقه وحرياته. أما القانون الذي ينبغي أن يسود حكمه، فهو الذي تتوافر فيه المشروعية الدستورية الفارضة للحق والحرية، دون أن يعبث بها فقه أو قضاء سلطاني، يفصلها حسب الرغبات، وتبعاً لمصالح المتعطشين لمتعة النفوذ، وانتفاخ الجيوب.

أما سريان القانون، على الحاكم والمحكوم على حد سواء، فهذا لا يتحقق، إلا إذا ساد مبدأ التوازن في الإلزام التبادلي، بين الشعب وبين الحكم. ذلك أنه في الوقت الذي تمكنت فيه السلطات عبر تاريخها، من إلزام الأفراد بالنصوص التي تحكمهم، فإن قدرة الأفراد، على إلزام السلطات بالنصوص التي تحكمها، دستورية كانت أم قانونية، لا يتجاوز عمرها في الديمقراطيات المعاصرة، قرنين ونيف من الزمان، في حين أنها في الوطن العربي، لا تزال في غاية الضعف، إن لم تكن غائبة أو مغيبة بفعل فاعل، وبالتالي، فإننا كشعوب عربية، لا زلنا نعيش في مرحلة خلل، في القدرة على فرض التوازن في مبدأ الإلزام التبادلي مع سلطة الحكم. وسبب ذلك، هو تمكن هذا الفاعل من التغييب القسري، لمضامين القواعد الست التالية، التي تقوم عليها الدساتير، وتوفّر الرقابات المؤثرة لضبط نهج الحكم وأدائه ومساره:

القاعدة الأولى:
أنه لا يستطيع الوقوف في وجه السلطة، لمنعها من الافتئات أو التغوّل، إلا سلطة مستقلة مثلها، ومن هنا فقد كان من الضروري، توزيع واجبات الدولة نحو شعبها، على ثلاث سلطات مستقلة، لضمان عدم استحواذ شخص واحد أو جهة واحدة عليها، وأن تكون الممارسة العملية لهذا الاستقلال، مجردة عن الهوى أو الخوف، أو استهداف خدمة الذات، مع رقابة فاعلة لمنع الانحراف.

القاعدة الثانية:
أن التوجه أو الرأي أو البرنامج الذي تنطلق منه الحكومات في ممارستها لدورها، لا يستطيع الرقابة عليه لتقييمه، وكشف حقيقته للشعب، إلا رأي برامجيّ آخر، جمعيّ التكوين منظم الطرح، ومن هنا كانت التعددية المؤسسية، في وجود الأحزاب السياسية، المتحررة من وصاية السلطة السياسية أو الأمنية عليها، ركناً أساسياً في أي حكم ديمقراطي حقيقي.

القاعدة الثالثة:
لقد ثبت في الفكر السياسي والدستوري، أن صاحب السلطة، يميل إلى التوسع في ممارسة سلطته، يستدرجه إلى ذلك، تحقيق متعة غريزية خفية لديه. وحيث أن هذا النوع من الغرائز غير قابل للإشباع، فإن ذلك يستتبع، تلقائية في تجاوز الحدود، والتغوّل والاستئثار، ومحاباة الذات، ما دامت الرقابة الفاعلة غائبة، ووسائل الردع مغيّبة. وقد استخلص هذا الفكر، أن غياب مساءلة من يتولى السلطة عند انحرافه أو تجاوزه، يشكل الخطوة الأولى على طريق العودة للسلطان المطلق، ومن هنا كان العلاج لذلك، فرض قاعدة تلازم السلطة والمسؤولية بشكلٍ مؤسسي صارم.

القاعدة الرابعة:
أن الشعب الذي يوصل حزب الأغلبية، أو ائتلاف الأغلبية إلى الحكم، ينبغي أن يعلم، كحق من حقوق هذا الشعب، كيفية ممارسة تلك الأغلبية أو الحكومة لصلاحياتها، ومدى سلامة سلوكها وتوجهاتها، ليقرر الشعب في الانتخابات اللاحقة، هل يعيد تلك الأغلبية للحكم، أو يختار غيرها ليصبح أغلبية، ومن يستطيع القيام بهذا الدور على نحوٍ فاعل لمصلحة الشعب، هو حزب أو تجمع الأقلية. وهذا الأمر يقتضي وجود نظام حزبي يستهدف حماية الحق والحرية ابتداءً، دون أن تشل فاعليته هواجس الشك والريبة والرغبة في التسلط، إضافة إلى نظام انتخابي ناضج، يُمكّن من صهر الانتماءات الفرعية في بوتقة تحفظ للمجتمع لُحمته وتماسكه، بحيث يحتضن ذلك، حريات حقيقية، لتمكين صاحب الرأي من أن يوصل للناس ما يجري، لممارسة حقهم بناءً على ذلك، في إبداء آرائهم وتوجهاتهم، كما يعتقدون دون خوف، ومن هنا كانت حرية الكلمة المقروءة والمسموعة والمرئية، ركناً أساسياً في أي حكم ديمقراطي سليم. وفي هذا المجال، فإن مسار تاريخ حكم الشعوب، يؤكد لنا، أن البشرية قد بذلت ملايين الضحايا، حتى وصلت إلى مرحلة لا يجوز فيها بأي حال، إصدار قوانين تصادر هذه الحرية، أو تنتقص منها، أو تفرغها من مضمونها.

القاعدة الخامسة:
إن مقدرات الدولة، من عقارات ومنقولات وأموال، هي في شرائع السماء والأرض، ملك للشعب وحده، وأن يد كل صاحب سلطة عليها، أو على أي منها في هذه الشرائع، هي يد أمين، فإن استغلها أو استأثر بأي جانب منها، أو سمح لغيره بهذا الاستئثار، يكون بالقطع قد خان الأمانة، وقارف جريمة تخضع للعقاب. ومن هنا فقد، فُرضت الرقابات على مالية الدولة ومقدراتها، ليعلم الشعب بتفصيلات ذلك، وكشف الفساد عند وجوده، ومعاقبة الفاسدين. فإن وصلنا إلى هذه الدرجة من الشفافية، وهي ليست صعبة عند وجود الإرادة، فسوف يتكرس الانتماء الحقيقي الذي يجعل المسؤول خادماً لشعبه، لا باحثاً عن متعة امتيازات وسلطات يستأسد بها على أبناء وطنه، وعندها سوف نسمع صوت المواطن وهو يعلن ترحيبه بقسوة معيشة الكفاف، لتجنب ذل انتظار المساعدات المغموسة بالإهانة!

القاعدة السادسة:
إن الحَكَم النهائي، الذي يقول الكلمة الفاصلة، في أي انحراف أو تجاوز، منسوب إلى من يمارس سلطة، هو القضاء المستقل وحده، الذي يجسده استقلال قضاته. ومن هنا تم فرض قاعدة “أن القضاة بعد تثبيتهم غير قابلين للعزل، إلا كعقوبة على انحراف، وأن تعيين رئيسهم ينبغي أن يتم بأسلوب مؤسسي لا يخضع للأهواء”، وذلك حتى لا يخشى سيف عدالتهم سطوة سلطان.

إن السبب الرئيسي لمعاناة الشعوب في دول أمتنا، هو حرص السياسي، على الاستحواذ على الحكم والانفراد بالسلطة، للحصول على متع ومزايا شخصية، تدفعه إلى التوسع في أخذ المزيد من تلك السلطة، تحت تبريرات شتّى. لكنه إذا تم إحكام الرقابات على هذا السياسي، وخاصة عن طريق أقلية مؤسسية برلمانية (حزب معارضة) لضبط إغراءات موقعه، من وصوله إلى المزايا والمنافع الشخصية، التي تجعله يُغلّب متعة ممارسة السلطة على واجب أداء الخدمة، فسوف ينفتح الباب على مصراعيه، للوصول إلى الدولة النموذج، وهذه هي الدولة العادلة التي تضحي الشعوب والأمم من أجل بلوغها.

وفي ضوء ما سبق نقول، ما دام أن نظامنا السياسي يستمد شرعيته من طروحات ثورة عربية قامت لتحقيق دولة الأمة، فإن استمراره يظل مرتبطاً بتلك الشرعية لا ينفكّ عنها. وإذا كان تكريس الإستئثار بالسلطة الذي تعاني منه الأمة، وما يلقاه من رعاية دولية وإقليمية لبقاء حدود سايكس بيكو ومنع قيام وحدة الأمة، فإن طبيعة الشرعية التي يستند إليها نظامنا السياسي، تجعله مسؤولاً عن جعل الأردن دولة النموذج والقدوة لأمته، من خلال إصلاح حقيقي شامل ينطلق من القواعد الست السابقة، وعندها لن يبق أي عذرٍ لأبناء الأمة، في السكوت على الواقع الظالم، والانطلاق إلى الاقتداء بالنموذج الأردني في دولهم، كخطوة متقدمة على طريق الوصول إلى الدولة العربية التي تنقذ الأمة من الدرك الأسفل الذي وصلت إليه.

أما عن الإصلاح الشامل، الذي يحمل نظامنا مسؤوليته القومية، فهو الذي يبدأ بالإصلاح السياسي، لأن هذا السياسي هو الذي يضع نصوص القوانين، ويصدر قرارات الشأن الاقتصادي والتعليمي، وغير ذلك من القرارات المتعلقة بنهج الحكم وخطوات أدائه، بما في ذلك واجبه في ضبط الممارسات التي تتغول على الحقوق والحريات. وهذا يستوجب ابتداءً، استعادة مؤسساتنا الدستورية لحقها في ممارسة سلطاتها المستقلة كاملة غير منقوصة، بعد أن أُفرغ دورها الدستوري في الحكم من مضمونه، وإلغاء التعديلات الدستورية التي أخرجت النظام السياسي في الأردن، من عائلته البرلمانية، واكتفت برقابة دستورية صورية عاجزة عن حماية مبدأ المشروعية، وضمان صحة القوانين وسلامتها، لتكون المحصّلة تحوّلنا إلى دولة الشخص الواحد.

إنني أهيب بكل غيور على مصلحة الأردن والأردنيين، أن يكون مطلبه الإصلاح السياسي الحقيقي، ليصبح الأردن دولة النموذج التي يتطلع إلى مثلها أبناء الأمة. أما خارطة الطريق التفصيلية لعناصر هذا الإصلاح، فقد كانت محلّ دراسة وبحثٍ معمّق ونقاشاتٍ وحواراتٍ مطولة على مدى سنواتٍ مضت، وذلك في ضوء تجارب الأنظمة الديمقراطية المعاصرة ومعاناتها خلال مسار تطورها عبر القرون. وما تم التوصل إليه من اجتهاد أصبح موضوعاً لكتابٍ نُشر في الأردن بعنوان “المتطلبات الدستورية والقانونية لإصلاح سياسي حقيقي/لماذا… وكيف”.

وهذه العناصر التفصيلية للإصلاح المطلوب، تشكل الآن الأسس والمبادئ التي ينطلق منها حزبنا “حزب الشراكة والإنقاذ”.

 

التعليقات مغلقة.