صحيفة الكترونية اردنية شاملة

مطبخ الدعم اللوجستي للاقتصاد

في الخبر أنَّ جاري كون، كبير اقتصاديِّي البيت الأبيض والمستشار الاقتصادي للرئيس الأمريكي، استقال من منصبه على خلفية إقرار القيود الجمركية على استيراد الحديد والألمنيوم أخيراً في الولايات الأمريكية. وقد جاءت تلك الاستقالة لتسجل موقفاً يعبِّر عن احترام الرجل لفكره الاقتصادي ومعتقداته الفكرية المنبثقة عن مفهوم حرية الأسواق، والتنافسية والتصحيح التلقائي للأسواق، وما شابه من أفكار اقتصادية سادت منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي، وتربَّعت على عرش الفكر الاقتصادي إلى حين ظهور الأزمة المالية العالمية الحديثة في الربع الأخير من العام 2008. المهم في الأمر أنَّ هناك مستشاراً اقتصادياً على معرفة بعلم الاقتصاد وفكره ومتطلبات عمله، وأنه يُقدِّم النصح والمشورة، وأنه يحترم ما تعلمه وما اقتنع به من علمٍ اقتصاديٍّ. والمعروف أنَّ كبير الاقتصاديِّين في البيت الأبيض يرأس أيضاً ما يسمَّى بالمجلس الاقتصادي الوطني National Economic Council وهو مجلس يُعنى بشكل كبير في تقديم المشورة والنُصح في مجال صياغة السياسات الاقتصادية، والقضايا الاقتصادية الساخنة في الدولة، ويتشكَّل من رئيس وعدد من الاقتصاديين الخبراء من الجسم الأكاديمي والشركات المالية والاستثمارية، ومؤسسات المجتمع المدني المعنية بالشأن الاقتصادي، أو السياسات الاقتصادية سواء أكانت في مجالات التجارة والتبادل التجاري، أو الزراعة والسياسة الزراعية، أو الطاقة وسياساتها الاقتصادية، أو السياحة وما يتعلق بها من جانب اقتصادي أو حتى التأمينات الاجتماعية وما يؤثر فيها. وهو في النهاية مجلسٌ معنيٌّ بتقديم دراسات الأثر لأيِّ سياسة ترغب أن تنتهجها الدولة، وخاصة في مجال زيادة الضرائب أو تخفيضها، أو تقديم الدعم، أو فرض السياسات التجارية والجمركية، أو سياسات دعم وتسعير المحاصيل الزراعية وخاصة القمح، أو غيرها من السياسات التي تؤثر في معيشة المواطن من جهة، وعلى وضع وقوة ودور الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي من جهة أخرى. ومن هنا فلا يمكن للولايات المتحدة أن تُقدم على الدخول في اتفاقية تجارة حرة، أو فرض ضرائب أو جمارك جديدة، أو وقف اتفاقية للتبادل التجاري، أو أي من السياسات الاقتصادية دون السماع لرأي المجلس أو دون تكليف المجلس بالقيام بما يسمى بدراسة الأثر على مستوى المواطن وعلى مستوى الدولة. ويعدُّ ذلك المجلس جزءاً أصيلاً في تكوين البيت الأبيض والحكم في الولايات المتحدة إلى الدرجة التي تجعل من مدير ذلك المجلس يحصل على مسمى مساعد الرئيس للسياسات الاقتصادية ومدير المجلس الاقتصادي الوطني،
Assistant to the President for Economic Policy and Director of the National Economic Council
وفي الولايات المتحدة أيضاً مكتبٌ متخصص في التحليل الاقتصادي من واقع البيانات القومية تحت مسمَّى “مكتب التحليل الاقتصادي” Bureau of Economic Analysis وهو مكتب يهدف في الأساس إلى توضيح الصورة الاقتصادية للدولة، إن صحَّ التعبير، عبر تقديم البيانات والتحاليل الاقتصادية المُحدَّثة وفق أفضل الطرق وأكثرها فاعلية وشفافية. ويقوم على المكتب عدد كبير من المحللين والمختصين في الشأن الاقتصادي بقطاعاته المختلفة، بما يعطي قوة دافع حقيقية ومنصة معرفية تفاعليه تساعد صانع القرار على اتخاذ أي قرار اقتصادي. وتبقى قوة كلا المكتبين المشار إليهما في أنهما يقدِّمان النُّصح والمشورة، ولصاحب القرار أن يتخذ ما يراه مناسباً من قرارات يتحمَّل مسؤوليتها ويُحاسَبُ عليها.
الشاهد مِمَّا تقدَّم كله، أنَّ هناك أهمية قصوى لتوفير الخبراء الاقتصاديين ولسماع آرائهم، وعدم الخلط بين دور صانع القرار والمستشار المختص، ففي شتى علوم العالم هناك مختصون وخبراء ممن يجب سماع آرائهم المتخصصة. وكما أنَّ هناك خبراء في الهندسة المدنية والمعمارية، وفي السياسة والاجتماع، هناك مختصون في الاقتصاد وعلومه، وفي دراسات الأثر الاقتصادي والاجتماعي لا بدَّ من الاستفادة منهم، خاصة إن كان صانع القرار في أي مستوىً حكوميٍّ من خارج الاختصاص، ففي الوقت الذي لا يحقُّ لمهندس معماري أن يقرِّرَ مقاييس ومستويات مواد البناء، أو معايير استخدام الحديد في أعمدة أي مبنى؛ لأن ذلك من اختصاص المهندس المدني والمقاول، فإنَّ من المنطق أن نحترم علم الاقتصاد بفروعه المختلفة، وأن يتمَّ السماع لمشورة علم الاقتصاد من رجاله ومختصيه. إنَّ علم الاقتصاد، كغيره من العلوم، له مختصون وخبراء ورجالات فكر، وإنَّ المسؤول الحصيف هو من يلجأ إلى هؤلاء لسماع آرائهم قبل أن يُقْدِمَ على اتخاذ أي خطوة تتعلَّق بالسياسة الاقتصادية، التي بالضرورة تؤثر دوماً في مستويات معيشة البشر والدول. الدعم الاقتصادي اللوجستي، أو لِنَقُلْ: “المطبخ الاقتصادي” له مختصوه ومن الإنصاف السماع لهم والحصول على مشورتهم ودراساتهم قبل الولوج إلى أي قرار اقتصادي. “مطبخ الدعم اللوجستي للاقتصاد” سيسِّهل على الدولة اتخاذ قراراتها بشفافية وأريحية كبرى، وعند الإسقاط على الوضع الأردني، ففي اعتقادي أنَّ الجامعات الأردنية ومراكز الدراسات والبحوث وحتى مؤسَّسات المجتمع المدني، تكتنز علماء وخبراء اقتصاد يمكن الاعتماد عليهم في تشكيل مطبخ دعم اقتصادي لوجستي من الدرجة الأولى، وهو أمر سيساعد بالضرورة على اتخاذ قرارٍ مناسبٍ مُبكِّرٍ في العديد من القضايا، وعندها سيقِلُّ بشكلٍ كبيرٍ اضطرارُ الحكومات إلى إلغاء قرارات سابقة، أو إيقاف اتفاقيات قائمة، أو التراجع عن قرار بسبب عدم دراسة أثره في المجتمع وفي أصحاب العلاقة.

[email protected]

التعليقات مغلقة.