صحيفة الكترونية اردنية شاملة

الحقيقة الضائعة بين المعلمين والنواب

في يوم الأربعاء الماضي نشرت وسائل الإعلام المحلية، فشل الاجتماع الذي عقد بين نقابة المعلمين وممثلي مجلس النواب، والتي كانت مقررة لبحث احتجاج المعلمين على ” نظام الخدمة المدنية الجديد ونظام البصمة “. وبدل أن يتوصل الطرفان إلى حل مناسب، وجدناهما قد حولا الاجتماع إلى مشاجرة وساحة للعراك أبطالها من الطرفين.

من المؤسف أن يحدث هذا الفعل بين أهل العلم وممثلي السلطة التشريعية، الذين يفترض بهم أن يكونوا على مستوى راقٍ من الثقافة، والتحلي بآداب السلوك ومهارة الحوار. فنتج عن ذلك الاجتماع تنفيذ إضراب جزئي في اليوم التالي لبعض المدارس حسب طلب النقابة، مع التهديد بتصعيد الموقف إذا لم تلبَ مطالبهم بالرجوع عن هذا النظام.

المعلمون والنواب جناحان هامان في مسيرة الدولة، فإذا صلحا صلحت مسيرة الأمة وتقدمت بين الأمم، وإذا فسدا تخلفت الأمة وانحدرت في مسيرتها إلى الحضيض. ففي هذا التصرف غير المسؤول الذي تضررت به مصالح الطلاب، وانكشف الغطاء ، وساءت به نظرة المواطنين لكلا المؤسستين، فضاعت الحقيقة بين الطرفين. لقد اطلعت من خلال وسائل الإعلام على بعض ما ورد في نظام خدمة لمعلمين، فوجدت أن في ظاهره نواح إيجابية سبقتنا إليها بعض دول العالم، ولكنها ليست  قابلة للتطبيق لدينا في الوقت الحاضر، بسبب غياب الشروط التي تتيح لها بالنجاح.

المعلم هو ركن أساسي في نهضة المجتمع، ويلعب دورا هاما في تنشئة الجيل الجديد، وتسليحه  بالعلم الذي هو سبيل الرقي والتقدم. فرسالة المعلم رسالة مقدسة مستمدة من ديننا الحنيف، الذي يحث على الأمانة، والصدق، والأخلاق الفاضلة، وشرف المهنة، وإتقان العمل، ولهذا فقد حظي المعلم بالتقدير والاحترام على مر العصور. إلا أن حكوماتنا المتعاقبة جعلت من المعلم والتعليم آخر اهتماماتها، وتسببت بإهانة الطرفين. ثم حولت مهنة التعليم إلى تجارة يمارسها الأثرياء بصورة جشعة، أساءت لرسالته المقدسة. ولكي نعرف كيف نجحت الدول التي اهتمت بالمعلم والتعليم، دعونا نستعرض باختصار ما فعلته بعض دول جنوب شرق آسيا، التي نهضت من الفقر والتخلف وأصبحت في طليعة الدول المتقدمة، بفضل هذه المتلازمة.

  1. سنغافورة : يقول أول رئيس وزراء لها السيد ( لي كون يو ) الذي تولى المسؤولية من عام 1959 – 1990 في مذكراته : ” أن الدول المتحضرة تبدأ نهضتها بالتعليم، وهذا ما بدأتُ به، عندما تسلمتُ الحكم في دولة فقيرة جدا. فقد أوليت الاقتصاد اهتماما أكثر من السياسة، والتعليم أكثر من نظام الحكم، فبنيت المدارس والجامعات، وأرسلت الشباب إلى الخارج لتلقي العلم، ومن ثم الاستفادة من دراستهم في تطوير الداخل السنغافوري “.
  2. اليابان : يؤمن اليابانيون وعلى رأسهم رئيس وزرائهم السابق ” ها ياتو أكيدا ” الذي تولى مسؤوليته عام 1960 – 1964 “، بأن العلم والعمل الجادّ هو السبيل إلى الرقي والتقدم “. فقام بالتركيز في هذا المجال على دعامتين أساسيتين هما : المعلم وأسلوب التعليم. فالمعلم يحظي بالاهتمام والتقدير من قبل المسؤولين والمواطنين، ويُمنح راتبا عاليا يوفر له حياة كريمة ومستقرة. ولا يحصل المعلمون على هذه الوظيفة، إلا بعد اختبارات قبول تحريرية وشفوية شاقّة. و في كل مراحل التعليم يجري نبذ الأساليب التلقينية، والتركيز على تطوير القدرات الذاتية والبحث وتنمية الإبداع والابتكار.
  3. كوريا الجنوبية : اعتمد رئيس الدولة السابق ” الجنرال بارك شونج هي ” الذي تولى الحكم عام 1963 – 1979 على الفلسفة الكونفوشيوستية التي تقول : أن التعليم هو المفتاح الوحيد للنجاح في الحاضر والمستقبل “. ولهذا قام بارك بالاعتماد على التعليم بنوعيه الأكاديمي والمهني. ثم اتبع سياسة ” التوجيه والإرشاد الطلابي ” من خلال مدرسين مختصين، بحيث يشترط أن يكون معلم الابتدائية، قد أكمل 4 سنوات من الدراسة في كلية التربية قبل ممارسة المهنة. كما يشترط بمدير المدرسة أن يكون قد أمضى 25 عاما في التدريس قبل تسلم وظيفته.

وبالعودة إلى ما يجري لدينا في هذا المجال، فقد أهملت الحكومات المتعاقبة منذ ستينات القرن الماضي، الاهتمام بالتعليم والمعلم، ولم تمنح المعلم راتبا مجزيا يحفظ كرامته ويغنيه في البحث عن عمل آخر. فكانت النتيجة أن تردى مستوى التعليم ونتج عنه جيل منزوع الثقافة، ولم يسهم في الابتكار وتطوير البلاد بصورة مقنعة. لقد نسي جهابذة الحكومة ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي :

قم للمعلــــم وفــــه التبـــــــــجيلا   * *     كاد المعلم أن يكون رسولا

أعلمْتَ أشـرف أو أجلّ من الذي    * *     يبني وينشئ أنفسا وعقولا

عندما كنت ملحقا دفاعيا في لندن في أوائل الثمانينات الماضية، طرحْتُ سؤالا على أحد المسؤولين البريطانيين، عمن يتقاضى أعلى الرواتب في بريطانيا. فأجابني بأنهما صنفان : المعلمين والجيش، فالأول يبني الأجيال والثاني يدافع عن الوطن، وكلنا كمواطنين بريطانيين على قناعة تامة، بأنهما يستحقان هذا التكريم بجدارة.

وبالنسبة لتطبيق نظام الخدمة المدنية للمعلمين، مع بقاء حالتهم كما هم عليه حاليا من تدنٍ في الرواتب وضعف في التأهيل، أعتقد أنه عمل غير صحيح ولا مناسب. إذ يجب أن يتم تعديل رواتبهم أولا فمن غير المعقول أن يتقاضى المعلم راتبا بحدود 500 دينار بينما خط الفقر يصل إلى 800 دينار.  ويجب  أن يُمنحوا الحوافز التي تشجعهم وتشجع غيرهم في الإقبال على مهنة التدريس، وبعدها يجري تطبيق نظام الخدمة عليهم بما يحمل من شروط والتزامات، تفيد الطلاب والمعلمين معا، وتنعكس بالتالي على مصلحة الوطن. فإدراك قيمة المعلم وتكريمه، يعتبر الحافز الذي يجعله يتفانى في عمله، ويخلق جيلا يحمل مسؤولية الوطن بكل إخلاص ومهنية.

وبالنسبة للاجتماع الفاشل بين النقابات وممثلي النواب، فأنني أعزو مسؤولية فشله وعدم التوصل إلى حل مناسب، إلى السادة ممثلي النواب في ذلك الاجتماع. فكان عليهم أن يستوعبوا الطرف الآخر من خلال حكمتهم وموقعهم في مجلس تشريعي للدولة، وأن لا يسمحوا بتحول الاجتماع إلى ساحة للشجار والعراك، واتهامات متبادلة بين الطرفين، أضاعت الحقيقة في عقر بيتهم مجلس النواب.

أما نظام البصمة الذي يُطلب من المعلمين التقيد به للتأكد من التزامهم بالدوام، فهو عمل  تنظيمي ولا ضير من إتباعه. ولكن من الأولى تطبيقه على النواب أنفسهم، الذين يتغيبون عن الجلسات  بغير عذر، ويتعمدون إفقاد النصاب القانوني للجلسات المهمة، أو الخروج من الجلسات إلى الغرفة الجانبية، لقضاء الوقت بالأحاديث والعلاقات الاجتماعية. وهذا ما يجب المحاسبة علية وحسم الرواتب عن كل ممارسة من هذا النوع.

التعليقات مغلقة.