صحيفة الكترونية اردنية شاملة

جدلية الخبز والخباز: المهنية والخبرة

في التراث الشعبي مثلٌ يقول “أعطِ الخباز خبزه ولو أكل نصفه”، وهو مثلٌ يُجسد جدلية حقيقية عنوانها المهنية في العمل، فلكل عمل أو مهنة مُختصٌ يتوجبُ السماع إليه والأخذ برأيه، فليس كلُّ من أمسك بفرشاة أصبح “فني طراشة”، وليس كلُّ من فتح مقدمة سيارة غدا ميكانيكيًّا، ومن غير المعقول أن نعتبر كلَّ من حمل عدة شغلٍ مهنيًّا في شغله. لكلِّ مهنةٍ مختصٌّ، ولكلِّ عملٍ خبيرٌ، ولكلِّ علمٍ عُلماءُ درسوا مكنوناته وعرفوا نظرياته وكيفية الاستفادة منه. ويمكن للشخص أن يَرِثَ مورادَ وإمكاناتٍ ماليَّةً وماديَّةً كبيرةً، ولكن يتحتَّم عليه أن يلجأ إلى المختصين لإدارة ثروته لتعظيم النفع منها، وإلا ضاعت ثروته وتبدَّدت إمكاناته، وتحول من وفير المال إلى فقير الموارد والمكاسب معاً. بهذه المقدمة قد يقتنع البعض أنَّ الاقتصاد علمٌ متخصصٌ له نظرياته وله مختصيه، ولا يكفي أن تأخذ مادة اقتصاد في أحد السنوات، أو أن تدير منشأة ورثتها عن الأجداد والآباء، أو أن تصبح على رأس مؤسَّسة أو منصب ذي طابعٍ اقتصاديٍّ لتعتبر نفسك خبيراً في علم الاقتصاد تستطيع اتخاذ القرارات التي تريد.

فهناك في علم الاقتصاد، الكثير من النظريات والتحليلات والمكنونات التي تحتاج بالفعل إلى تدخُّلٍ اقتصاديٍّ بدرجاتٍ مختلفة؛ منها التشخيص، ومنها الجراحة ومنها البتر. وهناك تحليلات كمية حصل بعض علمائها على جوائز نوبل في الاقتصاد، بفضل الوصول إليها وتحقيق بعض الربط بين عمل الاقتصاد والعلوم الاجتماعية أو العلوم البحتة الأخرى. ومن هنا ارتبط علم الاقتصاد بعلم الاجتماع، لتحديد الآثار الاجتماعية لبعض الظواهر، وارتبط بعلم الرياضيات والإحصاء للوصول إلى بعض التحليلات الرقمية والنماذج الكلية التي تسمح بتحديد قوة العلاقات بين المتغيرات الاقتصادية ومدى استقرار تلك العلاقات، ونوعية الارتباط سلباً كان أم إيجاباً، وحساسية أو مرونة ارتباط العوامل بعضها ببعض، وتحديد المتغيرات التابعة والمتغيرات المستقلة المؤثرة في أي متغير تابع، كعلاقة السعر بالكمية وزخم تلك العلاقة من حيث الاتجاه الإيجابي أو السلبي، ومن حيث قوة الاستجابة للتغيرات؛ أي أثر وحساسية الكمية المباعة لأي تغير يحدث في السعر.

يضاف إلى ذلك كله دور الدراسات القياسية في تحديد أثر الارتباط وأثر اتخاذ القرارات في المستوى الاقتصادي والاجتماعي في أي اقتصاد، وهذا يشمل قرارات زيادة الأسعار، ورفع الدعم، وفرض الضرائب، وغيرها من الآثار الاقتصادية والاجتماعية التي لا بد من مراعاتها. ولا يعني كلُّ ما سبق أن يتوزع المختصين وعلماء وخبراء الاقتصاد على رأس المؤسسات أو في قمة إدراتها، بل هي إشارة إلى ضرورة مراعاة المهنية عند اتخاذ قرارات ذات بعد اقتصادي أو عند إجراء مفاوضات اقتصادية حول برامج تصحيح أو برامج إقراض مع المؤسَّسات الدولية.

في الاقتصادات الكبرى هناك مستشارون متخصصون في الشأن الاقتصادي يحتلون أهم المواقع بالقرب من صنَّاع القرار، فهم ليسوا وزراء وليسوا أصحاب قرار، ولكنهم مخزن أفكار صانع القرار في الشأن الاقتصادي، ففي رئاسة الحكومة البريطاينة “10 داوننغ ستريت” تجد مستشاراً اقتصاديًّا هو عالمُ اقتصادٍ كمِّي يساعد في صياغة القرارت الاقتصادية وفي دراسة وتتبع آثارها، وقد تسنَّى لي يوماً ما مقابلة ذلك المختص العالِم في الشأن الاقتصادي الكمِّي منذ نحو 15 عاماً. وفي البيت الأبيض هناك منصب رسمي يُسمَّى “مساعد الرئيس للشؤون الاقتصادية”، وهو مستشار اقتصادي وأحد أهم علماء الاقتصاد في الجامعات الأمريكية وهو يرأس مجلساً أو مكتباً اقتصاديًّا يضمُّ 5 من أهم علماء وخبراء الاقتصاد الذين يتناسب فكرهم الاقتصادي والحزب الحاكم. وفي مصر لا يتم التفاوض مع البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي إلا بوجود مستشارين اقتصاديين متخصصين من أساتذة الاقتصاد الذين يتمُّ تعينهم أيضاً مستشارين لرئيس الحكومة ولوزراء الفريق الاقتصادي، وأذكر هنا أنَّ مستشار رئيس الحكومة في نهاية عقد الثمانينيات كان يُدَرِّسُنا أحد المواد الاقتصادية الكمية في الجامعة الأمريكية في القاهرة كطلاب ماجستير، ويتحدث عن دوره كمستشار لرئيس الحكومة ودروه في المفاوضات مع المؤسَّسات الدولية وغيرها من الأدوار، هذا ناهيك عن المستشارين المعينين في كل وزارة ذات بعد اقتصادي، ومعظهم من القامات الاقتصادية والخبراء المختصين في علم الاقتصاد والعديد منهم يُشهد له في الإنجازات على مستوى الدولة. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة هناك دائرة تنمية اقتصادية في كلِّ إمارة من الإمارات السبع، وفي كلٍّ من هذه الدوائر مختصون وعلماء وخبراء اقتصاد في مجالات متعددة، ومن دولٍ وخلفياتٍ اقتصادية متعددة يتم السماع إلى رأيهم وتحليلاتهم على مدار العام. والشاهد هنا أنَّ رئيس الحكومة أو الوزير المعني قد يكون ذا خلفية علمية أو أدبية أو اجتماعية، ولكنه غير مختص في الشأن الاقتصادي، بيد أنَّ مصلحة الدولة وخدمة الناس تُحتِّم دوماً اللجوء إلى أصحاب الاختصاص والاستفادة من علمهم. وفي الختام فإنَّ الدلائل على الأرض تقول: إن في الأردن إمكاناتٌ ماديةٌ وموارد اقتصادية لا تتوافر للعديد من الاقتصادات من حولنا، ولكن المشكلة في عدم اللجوء إلى أصحاب الاختصاص لمعرفة الطريقة السليمة لإدارة تلك الموارد. وعلى صعيدٍ آخر فنحن بحاجة إلى حلول اقتصادية آنية ومستقبلية للتعامل مع تشوُّهات عجز الموازنة وتضخم المديونية، وهي حلول يتطلب اجتراحها سياسات قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل، وتحتاج إلى دراسة فنية اقتصادية تحدد أثر كل منها. تضميد الجروح لا يمنع النزف واللجوء إلى المُسكنات يخفف الألم، ولكنه لا يعالج التشوَّه. الحلول السريعة ستعطي إيحاءات آنية بأنَّ الوضع جيِّد، ولكن المستقبل لا يحتمل مسكِّنات ولا يخدمه التضميد. الاستقرار النقدي والمالي وتحسُّن الأوضاع الاقتصادية يتطلَّب خطة إنقاذ اقتصادي وطني تعمل جنباً إلى جنب مع خطة التحفيز الاقتصادي للوصول إلى اقتصادٍ صحيٍّ متين ومتماسك. خطة تُصاغ بمهنية اقتصادية عالية، وبتشاركية وجلسات عصف ذهني اقتصادي وعبر التشاور مع الجهات المختص المهنية والعلمية. وعودة على بدء، فأن يحرق الخباز نصف الخبز، أفضل من أن يذهب فقر العلم وفقر الإدارة بالفرن وبالخبز وبالطحين. من الضروري أن نقتنع بأنَّ المهنية مطلوبة في كل مجال، وأنَّ رجال الأعمال أو عُلماء الطب والهندسة والرياضيات والمحاسبة، مهما كان تميزهم فإنهم يحتاجون إلى جانبهم خبراء ومستشارين يدعمون قرارهم ويساندونهم بالمعلومة والرأي والمشورة كل حسب تخصصه.

والله من وراء القصد، وكل عام وأنتم بخير بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك،،،

[email protected]

التعليقات مغلقة.