صحيفة الكترونية اردنية شاملة

هبة رمضان… والدروس الإقتصادية المستفادة

قاد ونستون تشرتشل، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، بلاده في أحلك ظروفها وأقساها. قادها في خضم حرب عالمية ثانية طاحنة ومدمرة لم تبق ولم تذر. دمرت بلاده إقتصادا وحجرا ولكنها لم تنل من معنويات البشر. قادها برؤية ثاقبة صابرا حتى حقق النصر. ثم قاد وطنه بعدها واقتصاده شبه مدمر، ووجب عليه أن ينهض به من نقطة أقرب ما تكون إلى الصفر. بنية تحتية وفوقية مدمرة وشعب منهك وموارد محدودة. في ظل هذه الظروف بالغة القسوة قال تشرشل، والذي كان يعرف بقوة شكيمتة وسلاطة لسانه، قولته المشهورة: ” “إنما الحكومة التي تعتمد دوما على رفع الضرائب والرسوم على مواطنيها لحل مشاكلها والنهوض بالوطن، كأنما هي رجل يقف داخل “سطل” كبير (والمقصود به الوطن). يحاول الرجل  (الحكومة) جاهدا رفع السطل من يدي السطل الكبيرة (الشعب)… يسحب ويسحب يدي السطل للأعلى وبكل قوته… يضغط ويضغط… ولكن السطل لا يرتفع… فمهما حاول وبذل من جهد وضغط لرفع السطل،  فإما أن يثقب السطل (بمعنى يدمر الوطن)… أو يسقط الرجل (الحكومة)… ليس هنالك خيار ثالث”… على غرابة هذا التوصيف، فما أصدقه وأدقه من تشبيه وما أصلحه وأصحه من قول…

شهدت الساحة الأردنية خلال الشهر الفضيل حراكا شعبيا حضاريا ديموقراطيا واسعا. حراك إيجابي سلمي مبارك، صدح فيه المتظاهرون بطلباتهم العادلة وبشكل راق، وتم التعامل معهم من قبل قوات الأمن العام والدرك بنفس درجة السلمية والرقي. لم تك هبة موجهة ضد مشروع قانون أو حكومة وشخوصها فحسب، بل كانت صرخة مدوية أطلقها الشعب الطيب والعظيم بكافة فئاته وشرائحه بوجه نهج إقتصادي تبنته حكومات متعاقبة طوال أكثر من عقدين من الزمن. نهج اقتصادي استند أساسا على اللجوء دوما للحلول السهلة، والمتمثلة بجيب المواطن، وذلك لحل المشاكل المزمنة للحكومات المتعاقبة المتمثلة بالعجز السنوي المتكرر في الموانة العامة.

تحاكي هذه الهبة هبة نيسان عام 1989 عندما قامت الحكومة في ذلك الوقت برفع أسعار المحروقات فانتفض الشعب حينها في الجنوب أولا وامتدت انتفاضته لمدن عدة في المملكة، فأقال جلالة المغفور له الحسين الحكومة في ذلك الوقت، وبشكل قاس، وأعاد تشكيل بطانته من أناس يحظون بثقة شعبية واسعة وأعاد الحياة النيابية وفق قانون انتخاب عصري لم تكتب له الاستمرارية.  إلا أن مسلسل التحديات التي يواجهها الأردن لم تنته بذلك، فقد واجه الأردن خلال العقدين الماضيين تحديات إقتصادية خارجية جمة تمثلت بالأزمة المالية العالمية والحروب في المنطقة والتي نجم عنها تدفق موجات من النازحين واللاجئين من الأخوة العراقيين والسوريين  إلى المملكة، حتى بلغت نسبتهم ما يقارب ال 20% من سكان المملكة، لتجعل المملكة الأولى في العالم في استقبال اللاجئين، عددا إجماليا ونسبة لعدد السكان، بالاضافة إلى انقطاع الغاز المصري وارتفاع فاتورة المحروقات وانخفاض الدعم من الأشقاء وبشكل مستمر. كل ذلك دفع بالحكومات الأردنية المتعاقبة خلال العقدين الأخيرين إلى تبني برامج “للتصحيح الإقتصادي” بالتعاون مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في محاولة منها لمعالجة مشاكلها الآنية المتمثلة بالعجزالمزمن في موازناتها العامة السنوية. إرتكزت هذه الإصلاحات تاريخيا إلى ما يعرف ب”إجماع واشنطن”، وهي مجموعة من الإستراتيجيات والسياسات، مالية الطابع في معظمها، والتي قامت حكومة الولايات المتحدة بفرضها في أواخر الثمانينات من القرن الماضي على عدد من دول أمريكا الجنوبية والتي كانت تعاني من مشاكل إقتصادية. فتلقفها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بعدها ليجعلاها “وصفتهما السحرية الموحدة” من نوع “ألقياس الواحد المناسب للجميع” ليسعيا لفرضها على كافة الدول التي تأتيهما طالبة مد يد العون والمساعدة للخروج من ضوائقها الاقتصادية والمالية. ركزت برامج “التصحيح” هذه في جوهرها على “الإصلاحات” الضريبية” (رفع الضرائب) وخاصة فيما يتعلق بضريبتي المبيعات والدخل. فساهم التبني الأعمى لهذه السياسات والاستراتيجيات من قبل العديد من دول العالم بتعزيز الأمان المالي لها على المدى القصير، ولكنها لم تساهم في معالجة المشاكل الإقتصادية المزمنة التي تواجهها الدول من حيث تحفيز النمو الاقتصادي ومعالجة مشكلتي الفقر والبطالة ومعالجة العجز المزمن في الميزان التجاري. وهو ما كان متوقعا من قبل البعض وذلك لعدم أخذ هذه السياسات والاستراتيجيات لخصوصية الدول بعين الاعتبار ولا لحاجاتها التنموية بعيدة المدى أو لحل مشاكلها الحقيقية والجوهرية المزمنة… وكيف يمكنها أن تقوم بذلك وهي سياسات واستراتيجيات وضعت أصلا لزمان ومكان مختلفين.

تحمل الشعب الطيب لجوء الحكومات المتعاقبة للحلول السهلة والمتمثلة في علاج مشاكلها من خلال مد يدها في جيبه وعلى مر سنوات طوال. تحمل وتحمل حتى لم يستطع التحمل أكثر. فجاءت هبته المباركة في الشهر الفضيل لتوجه رسالة واضحة لا لبس فيها للحكومات المتعاقبة بضرورة تغيير نهجها الإقتصادي الذي أدمنت انتهاجه على مر السنون… هبة ورسالة انبثقت منها دروس إقتصادية كثيرة وعميقة لقنها شعب واع لحكوماته المتعاقبة. عشرة دروس إقتصادية رئيسة تعزز وتثبت كل منها دراسات وتقارير وإحصاءات كافة الجهات المحلية والدولية المعنية بالشأن الإقتصادي الأردني ومن أبرزها وزارة المالية والبنك المركزي الأردني وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومركز الدراسات الإستراتيجية التابع للجامعة الأردنية. جاءت الدروس الإقتصادية العشرة للهبة المباركة كما يلي:

الدرس الأول: ألهدف الرئيسي للحكومة هو “إسعاد الناس”…   إدارة الدولة بعقلية وذهنية “مدير عام موازنة” هي إدارة غير حكيمة:               

ألهدف الأسمى لأية حكومة ومرتكز عملها وغاية وجودها هي “إسعاد الناس”… هي ليست “سد العجز في الموازنة العامة”، فتلك عقلية وذهنية “مدير عام الموازنة العامة”،  ولا هي “تخفيض نسبة المديونية للناتج المحلي الإجمالي” وليس “تنفيذ الالتزامات مع المنظمات والمؤسسات التمويلية الدولية” ولا هي حتى “وضع الخطط التنموية وتنفيذها”… هي ببساطة “إسعاد الناس”… الآن وغدا وبعد غد… لا أكثر ولا أقل…  فإن تحقق هذا “الإسعاد” نجحت الحكومة، وإن لم يتحقق فشلت… فبالرغم من قيام العديد من الحكومات المتعاقبة بإعداد خطط استراتيجية تنموية تحت مسميات مختلفة (خطة التحول الاقتصادي والأجندة الوطنية ورؤية 2025 ومن ثم خطة التحفيز الاقتصادي إلخ)، وبالرغم من إشراك قطاعات واسعة من المجتمع في إعداد كل منها، وبالرغم من احتواء كل منها على أهداف ومؤشرات أداء إستراتيجية قابلة للقياس والمتابعة، وبالرغم من ترؤس عملية إعداد كل منها نائب لرئيس الوزراء أو وزير للتخطيط في حده الأدنى، وبالرغم من إطلاقها جميعا أمام جلالة الملك المعظم في احتفال مهيب ومن قبل رؤساء الحكومات والوزراء المعنيين في ذلك الوقت، إلا أن أي من هذه الخطط لم تضع “سعادة الناس” على المدى القصير والمتوسط والبعيد محورا ومرتكزا رئيسيا له. كما أن أي منها لم يكتب له استدامة التطبيق. فبمجرد إطلاقها يتم ركنها في الخزائن ولا يقوم أحد بمتابعة مدى تحقيق مؤشراتها ورفع التقارير الدورية بذلك لجلالة الملك المعظم أو حتى للحكومة نفسها (أو يتم رفع التقارير بها ولكن لا تكون “دقيقة”)، ولا يتم الاعلان والافصاح عن مستويات الالتزام بتطبيقها وبشكل دوري (شهري وربع ونصف سنوي وسنوي) . فتصبح جميعها حبرا على ورق بانتظار إعداد الخطط الاحقة وهكذا دواليك. وكأنما هي عملية مصطنعة قصيرة المدى هدفها الأساس إعطاء الانطباع لجلالة الملك والشعب بأن الحكومة لديها الرؤية المستقبلية الواضحة للوطن، بالإضافة لتلميع الذين قادوا عملية إعدادها أمام جلالته والشعب على حد سواء. لا أكثر ولا أقل…

الدرس الثاني: الضرائب…”القاتل المتسلسل” للاقتصاد، حقنة منشطة تشعر “بالنشوة المالية” على المدى القصير وتقتل “الجسد الإقتصادي” على المدى البعيد:

في ظل غياب الخطة التنموية الشاملة بعيدة المدى التي تلتزم الحكومات المتعاقبة بتنفيذها، لجأت هذه الحكومات للحلول السهلة قصيرة المدى والمتمثلة باللجوء إلى المنظمات التمويلية الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي من أجل منح الأردن القروض الكفيلة بسد العجزالمتكرر في موازناتها العامة السنوية. فكان هنالك اتفاق في أوسط التسعينيات ما بين الحكومة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي تم تجديده عام 2002 و2009 و2012 ومن ثم اتفاق موسع عام 2014. كافة هذه الاتفاقات انطوت على مجموعة من “الإصلاحات” أو “الالتزامات” التي وجب على الحكومة تنفيذها كشروط مسبقة للحصول على هذه القروض، ومن أبرز هذه “الالتزامات/ الاصلاحات” إعادة هيكلة منظومة الضرائب الوطنية والمتمثلة بكل من: ألضريبة العامة على السلع والخدمات (ضريبة المبيعات) والتي تشكل حوالي 70% من إجمالي التحصيلات الضريبية (والمقدرة ب 4.4 مليار دينار عام 2017)، ضريبة الدخل والأرباح والتي تشكل حوالي 22% من أجمالي التحصيلات، الرسوم الجمركية (7%) والرسوم على المعاملات المالية (المسقفات والأراضي) (2%).

إلتزم الأردن بتنفيذ هذه “الإصلاحات الضريبية” طوال عقدين من الزمن فألغى “ضريبة الاستهلاك” عام 1994 والبالغة 7% واستعاض عنها ب”ضريبة المبيعات” ورفعها ل 10% عام 1995 ورفعها مرة أخرى ل 16% عام 2014. أما بالنسبة لضريبة الدخل والأرباح (محور هبة رمضان) فقد شهدت زيادة مضطردة من خلال التعديلات التي تم إجراؤها عليها في الأعوام 2002 و2009 و2014 بحيث تم تخفيض الحد الخاضع للضريبة على الأفراد خلالها من 16 ألف دينار سنويا إلى 12 ألف (في قانون 2014) وتحديد حد الإعفاء للأسرة ب 24 ألف دينار سنويا (على افتراض معيلين إثنين لكل أسرة). بالرغم من مساهمة هذه الزيادات المتواصلة على الضرائب بأنواعها وتصنيفاتها المختلفة من زيادة التحصيلات الضريبية الإجمالية لكافة الضرائب من 2.1 مليار دينار عام 2006 إلى 4.4 مليار دينار عام 2017، إلا أنه من الأهمية ملاحظة ما يلي:

  • بلغت نسبة الزيادة في إجمالي الضرائب على أنواعها وتصنيفاتها المختلفة (مبيعات ودخل ورسوم جمركية ومعاملات مالية/ مسقفات) مع بدء الرفع في هذه الضرائب بين الأعوام و2006-2007 حوالي 18% (من 2.134 مليار دينار إلى 2.472 مليار  دينار)، إلا أن هذه النسبة أخذت بالإنخفاض المستمر طوال العشرة سنوات التي تلتها لتصل إلى 2% فقط بين الأعوام 2016-2017 (من 4.254 مليار دينار إلى 4.344 مليار دينار فقط).
  • نفس النمط لوحظ فيما يتعلق بالضريبة العامة على المبيعات (المساهم الأكبر في إجمالي التحصيلات الضريبية)، ففي حين إرتفعت حاصلات ضريبة المبيعات بين 1.239 مليار دينار عام 2006 إلى 1.480 مليار دينار عام 2007 (وبنسبة حوالي 20%)، ارتفعت هذه الحاصلات 3% فقط بين الأعوام 2016 و2017 (من 2.884 مليار الى 2.993 مليار دينارفقط). يعزى ذلك إلى ضعف القدرة الشرائية للمواطنين وانكماش الإقتصاد وبالتالي انحسار نمو التحصيلات الضريبية.
  • بالنسبة لضريبة الدخل، فإن تعديل ضريبة الدخل عام 2009 برفع نسبة الضريبة وتخفيض حد الإعفاءات لم يؤد إلى زيادة التحصيلات من هذه الضريبة، بل على العكس تماما، فقد انخفض أجمالي تحصيلات ضريبة الدخل من 765 مليون دينار عام 2009 إلى 625 مليون دينار عام 2010، واستمر بذلك المعدل المخفض لثلاثة سنوات بعدها (667 و688 و682 مليون دينار في الأعوام 2011 و2012و 2013 على التوالي) قبل أن يعود في عام 2014 لمستويات 2009 (766 مليون دينار في عام 2014). أي أن رفع نسبة ضريبة الدخل أدى إلى إنخفاض حجم التحصيل لها المباشر لأكثر من 100 مليون دينار سنويا (بنسبة 18%) ولمدة أربعة سنوات متتالية (حتى عام 2014) قبل أن يصل مستوى التحصيل للمستوى الذي كان عليه قبلها في عام 2009. يعزى ذلك إلى زيادة الحافز للمكلفين بمحاولة التهرب الضريبي كلما زادت نسبة ضريبة الدخل.

تدلل ألأرقام أعلاه بأنه وفي حين تساهم عملية زيادة الضرائب الإجمالية على زيادة إجمالي التحصيلات الضريبية على المدى القصير، “نشوة مالية” آنية، إلا أن نسبة هذه الزيادة تضمحل سنة بعد سنة نتيجة لضعف القدرة الشرائية والإستهلاكية للمواطن وزيادة نسبة التهرب الضريبي، مما يساهم في “قتل” الاقتصاد الوطني ببطء على المدى البعيد.

الدرس الثالث: ألنهج ثم ألنهج… في إعداد القوانين الإقتصادية: الشفافية والمشاركة:

إتسم نهج الحكومة السابقة في إعداد مسودة قانون ضريبة الدخل بالتخبط ومخالفته لأبسط قواعد الحوكمة الرشيدة الواجب توفرها عند أعداد أي مسودة قانون، وخاصة قانون إقتصادي على درجة عالية من الأهمية كقانون ضريبة الدخل. تمثل هذه النهج الخاطيء بسمات رئيسة كان من أبرزها عدم الشفافية وعدم المشاركة. فقد كان من الواضح أن كثيرا من مؤيدي ومعارضي مسودة قانون ضريبة الدخل الأخير (المسحوب) لم يقرأوه أويطلعوا على محتوياته. حتى أن  تقارير صحفية، لم يثبت مدى دقتها وصحتها، أشارت على لسان وزير المالية السابق إلى أن نائب رئيس الوزراء السابق للشؤون الاقتصادية هو من تبنى القانون الذي جاء بنسخة “مترجمة ” من خارج مجلس الوزراء، وأن السادة الوزراء لم يمنحوا القانون حقه دراسة وتمحيصا ومشاركة، حتى أن بعضهم أقره دون الإطلاع عليه. ومعلومات توضح بأن مسودة القانون وضعت استجابة لمتطلبات البنك الدولي وتقارير أخرى تشير إلى عكس ذلك. ووزير مالية يعلن في جلسة رسمية في مجلس النواب بأن عدم إقرار القانون سيؤدي إلى عدم تمكن الحكومة من صرف رواتب الموظفين نهاية الشهر الحالي. تصريح خطير ذو مساس مباشر بالأمن الاقتصادي الوطني وثبت لاحقا عدم صحته على الإطلاق. الأصل في الأمر أن تقوم الحكومة بمشاركة كافة الفئات المعنية وتبادل الرأي والمشورة معها عند إعداد مسودة أي  قانون، وخاصة واحد بأهمية قانون ضريبة الدخل الذي يمس كافة شرائح المجتمع. هذه المشاركة الفاعلة والهادفة إلى الوصول إلى محتوى توافقي يأخذ بعين الاعتبار مصالح ومتطلبات وإمال وتطلعات كافة الفئات المعنية والمتأثرة به، وبالتالي يزيد من تقبلها للقانون ويقلل من مقاومتها المستقبلية المحتملة له. ألغرف الصناعية والتجارية وجمعية حماية المستهلك والنقابات المهنية ومؤسسات المجتمع المدني والجامعات والمواطنون بشكل عام وجب مشاركتهم الفاعلة في إعداد مسودة القانون وبكافة الوسائل قبل اعتماده من قبل الحكومة ورفعه إلى مجلس النواب. ويمكن أن تشمل تلك الوسائل نشر أهداف ومبررات القانون وأبرز محتوياته ومسودته من خلال الموقع الإلكتروني لرئاسة الوزراء ووزارة المالية ووسائل الإعلام المختلفة ووسائل التواصل الاجتماعي وطلب استلام الملاحظات عليها، وكذلك عقد وإجراء ورش العمل المتخصصة واستطلاعات الرأي لكافة الفئات المعنية حوله. كل هذه الوسائل كانت ستعزز من وعي المجتمع بشكل عام بالقانون ومحنوياته وأثره عليهم وتزيد من تقبلهم للنسخة التوافقية التي سيتم التوصل إليها.

الدرس الرابع: … ثم النهج في إعداد القوانين الإقتصادية: الشمولية ودراسة الأثر:

طوال الثلاثة عقود الماضية تم تعديل القوانين الضرييبة المختلفة لأكثر من مرة. فتم تعديل قانون ضريبة المبيعات في الأعوام 1995 و2001 و2004. أما ضريبة الدخل فقد تم تعديلها في الأعوام 2002 و2009 و2014 ومسودة التعديل الأخير في عام 2018، هذا بالإضافة إلى التعديلات المستمرة (انخفاضا وارتفاعا) على الرسوم الجمركية وعلى المعاملات المالية الأخرى المرتبطة بالأراضي والعقارات. وفي كل مرة يتم التعديل على أي من هذه القوانين يتم الأستناد إلى التزامات الحكومة أمام الجهات الممولة الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) مبررا لهذه التعديلات ويتم تحديد خفض عجز الموازنة وتحقيق الأمان المالي هدفا رئيسيا لها. لم تقم اي من الحكومات السابقة وطوال عقود بدراسة منظومة الضرائب الوطنية (مبيعات، دخل وأرباح، رسوم جمركية، رسوم معاملات مالية- أراض ومسقفات وغيرها) ويشكل شمولي بحيث تقيس العبء الضريبي والطاقة الاستيعابية للمواطنين لإجمالي هذه الضرائب. وتقيس أثرها على عملية التنمية الاقتصادية والسلم والأمن المجتمعي بالإضافة إلى الأمان المالي وبشكل شمولي ومستدام. بل إقتصر قياس اثر تطبيق التعديلات الضريبية لكل منها على حدة وعلى الأثر المالي على الخزينة فحسب. كما هو الحال في ال 300 مليون دينار التي توقعتها الحكومة السابقة نتيجة لتعديلاتها المقترحة على قانون ضريبة الدخل (150 مليون دينار من تقليل التهرب الضريبي و150 مليون دينار من توسيع قاعدة المشمولين بالضريبة). ثمن بخس جدا مقابل الأثر السلبي الكبير على الأمن والسلم المجتمعي وعملية النمو والتحفيز الاقتصادي المستدام التي تسعى المملكة إلى تحقيقها.

ألدرس الخامس: مسودة قانون ضريبة الدخل (المسحوب): ضربة مزدوجة (مباشرة وغير مباشرة) للطبقتين الوسطى والفقيرة:

حددت مسودة قانون ضريبة الدخل (المسحوب) أربعة مبررات (أسباب موجبة) وأهداف تسعى لتحقيقها تضمنت:

  • مكافحة التهرب الضريبي.
  • تحسين إليات وإجراءات العملية الضريبية (الإقرار، التدقيق، الدفع، الإعتراض…إلخ)
  • تحقيق العدالة في توزيع الضرائب.
  • توسيع الشريحة الخاضعة والمشمولة للضريبة.

ولتحقيق هذه الأهداف، قامت الحكومة المستقيلة بإجراء تعديلات جوهرية على قانون 2014 شمل أبرزها:

  • تخفيض الإعفاءات للعائلات من 24 ألف دينار إلى 16 ألف دينار، والأفراد من 12 ألف دينار إلى 8 آلاف دينار.
  • إعفاء مقابل نفقات العلاج والتعليم والأجار وفوائد القروض بما لا يزيد عن 4 آلاف دينار.
  • تعديل عدد الشرائح الخاضعة للضريبة من 3 إلى 5 شرائح (5 آلاف دينار لكل شريحة بدلا من 7 آلاف وتزداد بمقدار 5% بين كل شريحة وشريحة بدلا من 7% ).
  • فرض ضريبة على الإيجارات والأرباح الرأس مالية، بالإضافة إلى زيادة ضريبة الدخل على البنوك والشركات المالية وشركات التأمين والاتصالت والتعدين والوساطة المالية وغيرها من الشركات بنسب تتراوح بين 20% إلى 40%.

ولو أن الحكومة السابقة اقتصرت على تحقيق الأهداف الثلاثة الأولى (مكافحة التهرب الضريبي وتحسين إجراءات التحصيل وضمان عدالة التوزيع الضريبي) وتجنبت موضوع توسيع القاعدة الضريبية للمكلفين، لم تك لتتجنب الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي واجهتها وأدت إلى سقوطها فحسب، لا بل لكانت لاقت استحسانا وتقبلا وتشجيعا ودعما واسعا من قبل كافة شرائح المجتمع. إلا أن قرارها غير الحكيم بتخفيض حد الإعفاء الضريبي للأسرة ذات الدخل السنوي من 24 ألف دينار إلى 16 ألف دينار وللفرد ذي الدخل السنوي من 12 ألف إلى 8 ألاف دينار، بالإضافة إلى إلغاء الاعفاءات الضريبية الممنوحة للأسرة والمقدرة بأربعة ألاف دينار بدل الإستشفاء والتعليم، عنى أن هذه الضريبة كانت ستشمل كافة الطبقة الوسطى وجزءا من الطبقة الفقيرة وتخضعهم لها. فحد الفقر في الأردن وفق تقديرات الحكومة هو 880 دينار شهريا للشخص الواحد (أي حوالي 10 ألاف دينار سنويا). فكيف يعقل أن تقر حكومة مسودة قانون ضريبة دخل تخضع وبشكل مباشر كافة شريحة الطبقة الوسطى لها بالإضافة لشريحة من الطبقة التي حددتها هي نفسها بكونها الفقيرة (من كان دخله السنوي بين 8 و10 آلاف دينار سنويا)؟؟؟!!!. وهذا ما لا يقبله عقل ومنطق ومخالف لأبسط قواعد ومفاهيم الحوكمة الاقتصادية. فالأصل في ضريبة الدخل والأرباح بأنها تستحق على ذوي الدخل المرتفع والذين يحققون أرباحا وتحصل منهم وبنسبة معقولة وذلك لتمكين الحكومة من تقديم الخدمات المناسبة للطبقتين الوسطى والفقيرة… لا أن تحصل هذه الضريبة من الطبقتين الوسطى وجزء من الطبقة الفقيرة كما كان منصوصا عليه في مسودة القانون. هذا مع العلم بأن غرفتي صناعة وتجارة الأردن يالإضافة إلى جمعية حماية المستهلك كانت قد اقترحت  18 ألف دينار دخل سنوي (1500 دينار شهريا) كحد ضريبي للفرد عند مناقشة قانون الضريبة عام 2014، وهو حد أكثر منطقية من الناحية الإقتصادية والاجتماعية لأنه يعفي الطبقة الفقيرة كاملة وجزءا من الطبقة المتوسطة من دفع ضريبة الدخل وهو ما يجب ويفترض أن يكون.

بالإضافة إلى ذلك، فإن التجربة تثبت بأن زيادة الضريبة على الشركات فوق حد معين سيؤدي بها إلى تثبيت هامش أرباحها ونقل العبء الضريبي إلى المستهلك. ومثال ذلك قيام البنوك بتثبيت هامش ربحها ونقل أعباء الضريبة المفروضة على أرباح البنوك على المقترضين وذلك بعكس معدل الضريبة على معدل اسعار الفائدة على القروض الممنوحة للمتعاملين. فتتحول الضريبة المباشرة على البنوك إلى ضريبة غير مباشرة على المقترضين، مؤسسات وأفرادا وغالبيتهم من الطبقتين الوسطى والفقيرة، والذين سيعكسوها بشكل مباشر أيضا على المستهلك النهائي والذي سينتمي في أغلب الحال لتلك الطبقتين. ضربة مزدوجة للطبقتين الوسطى والفقيرة بفرض ضريبة مباشرة وغير مباشرة عليهما مما كان سيؤدي إلى انكماش الطبقة المتوسطة أكثر، وهي الطبقة المحركة للإقتصاد، واتساع الطبقة الفقيرة في الوطن. أمر يخالف كل التوجيهات الملكية السامية والمتواصلة للحكومات المتعاقبة ببذل أقصى الجهود لدعم هاتين الطبقتين ويخالف أبسط قواعد الحوكمة والإدارة الاقتصادية الرشيدة.

الدرس السادس: التهرب الضريبي… قضية الفساد رقم 1:

يؤمن الشعب بكافة شرائحه بأن الفساد، بأشكاله المختلفة المالية والإدارية والأخلاقية، يعد العائق الأكبر والأبرز في تحقيق العدالة والمساواة وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة في الوطن. وعند استعراض أبرز قضايا الفساد خلال العقود الأخيرة (ما ثبت منها أو ما يشاع عنها) سواء تلك المتعلقة بالفوسفات أو مشاريع الخصخصة الأخرى أوالتحول الاقتصادي أوالعطاءات الحكومية من الطرق والبنية التحتية أو سكن كريم أو غيرها، نجد أن قيمة أي منها لم يتجاوز ال 500 مليون دينار منفردا، وهو رقم ضخم لدولة مثل الأردن ولكنه يبقى أقل بكثير من حجم التهرب الضريبي السنوي في المملكة. حيث تشير دراسات وتقارير وزارة المالية أن حجم التهرب الضريبي بلغ 700 مليون دينار عام 2012 وأن هذا التهرب يزداد بنسبة تقدر بحوالي 10% سنويا. أي أن الأردن يخسر أكثر من 1.2 مليار دينار سنويا (وبازدياد مضطرد) نتيجة للتهرب الضريبي، وأن هذه “الطامة الكبرى” هي عملية مستمرة مستدامة سنويا ولا تتوقف، لا بل هي في ازدياد وتضخم مستمرسنويا، مما يضعها، حجما وقيمة واستمرارية، على رأس أولويات قضايا الفساد في المملكة. أسباب و”مبررات” التهرب الضريبي كثيرة ومتنوعة وتختلف باختلاف الشرائح المجتمعية. ففي حين يكون “الطمع” البحت وانعدام الانتماء الوطني والرغبة في تعظيم الأرباح الذاتية هو مبرر الشرائح الغنية من المجتمع ذات الدخل المرتفع، هذه الطبقة التي عادة ما يكون لديها القدرة على التأثير على متخذي القرار في موقع المسؤولية أوتقديم الرشوة للموظفين الحكوميين، يكون “الشعور بالظلم والتعدي على الحقوق وعدم العدالة في التوزيع الضريبي” بالإضافة إلى “عدم الوعي بالإجراءات الضريبية” هي المبررات عند الطبقتين الوسطى والفقيرة (والتي يفترض أصلا من أن تكون معفية من هذه الضرائب). ويتم التهرب الضريبي من خلال الضغط على المسؤوول والموظف الحكومي ورشوته أو من خلال قيام المكلف بمحاولة التحايل والخداع بتقديم كشوفات غير صحيحة تغفل وتنقص وتحذف دخلا أو إيرادا معينا، أومن خلال الاحتفاظ بدفاتر أو حسابات أو بينات وقيود صورية أو مزورة. بالرغم من كل الحجج والمبررات وكل وسائل وطرق التحايل، فإن قضية التهرب الضريبي تتصدر قضايا الفساد الوطنية ذات الأثر الأكبر على الإقتصاد الوطني ويجب التعامل معها على هذا الأساس.

الدرس ألسابع: صرخات “معناش”، “كفى”، “كفوا عن جيوبنا”، “ما عدنا نحتمل”… هي صرخات محقة ومثبتة علميا وعمليا:

صدح المتظاهرون خلال هبتهم المباركة وصرخوا بملء حناجرهم مطالبين الحكومات المتعاقبة بكف أيديها عن جيوبهم وأنهم ما عادوا يحتملون (معناش). كما صرخوا بوجه الظلم وعدم عدالة توزيع الدخول في المملكة، وأنه عبر سنوات طوال كان الغني يزداد غنا بينما الفقير يزداد فقرا. إدعى بعض مناصري ومروجي مسودة قانون الدخل (المسحوب) بأن هذا أمرا مبالغا فيه وأن حدود الضرائب في الأردن (ومنها ضريبة الدخل) تبقى اقل من العديد من دول العالم (دون الأخذ بعين الاعتبار الفروقات في مستوى الدخل) وأن من الأهداف الرئيسة لمسودة القانون كانت ضمان العدالة في توزيع الضريبة… فمن يقول الحقيقة؟؟!!

تعد مؤشرات “ألطاقة الضريبية” و “العبء الضريبي” من اهم المؤشرات الإقتصادية التي يتم من خلاله قياس كفاءة وفاعلية النظام الضريبي في الدول. بحيث ترتبط هذه المؤشرات بثالوث التنمية المستدامة: ألتنمية الإقتصادية والعدالة الإجتماعية والأمن المالي. يقيس هذان المؤشران مدى قدرة المكلفين على دفع الضرائب وتحمل رفعها، وبحيث يؤدي ذلك إلى زيادة التحصيلات الضريبية دون تخفيض في مستوى أداء الإقتصاد الكلي عن المستوى المرغوب.  تقيس هذا المؤشرات مجموع ما يتكبده المجتمع (وكل فرد فيه) من ضرائب خلال فترة زمنية محددة. يقيسها بشكل إجمالي (العبء الضريبي الإجمالي) من خلال احتساب إجمالي الضرائب منسوبة إلى إجمالي الناتج المحلي الإجمالي. كما يقيسها بشكل فردي (العبء الضريبي الفردي) من خلال مجموع الضرائب التي يدفعها الفرد إلى نصيب الفرد في الناتج المحلي الاجمالي. أظهرت دراسة للبنك الدولي في عام 2017 بأن مجموع الضرائب والرسوم المختلفة التي يدفعها المواطن الأردني في المتوسط تبلغ 25 ضريبة ورسما، وأن هذا الرقم، عددا وقيمة، يعتبر مرتفعا عالميا (أعلى من المتوسط العالمي وأقل من منطقة اليورو ذات الدخول المرتفعة)، مما يعمل على الإخلال بمبدأي “ألملاءمة واليقين” وهما من أهم مباديء “ألعدالة الضريبية”، وذلك يدلل على أن ألطاقة الاستيعابية الضريبية للمواطن الأردني وصلت حدودها القصوى التي لا يستطيع التحمل بعدها وأن الواقع الضريبي على المكلفين في الأردن أصبح ثقيلا عليهم مما يجعلهم عاجزين عن الدفع أو يدفعهم إلى تجنب الضريبة والتهرب منها. إضافة لذلك، فقد أثبتت الدراسة أن هذا “الثقل/ الإجهاد الضريبي” على المواطن الأردني ومؤسسات الأعمال فيه قد تجاوز الحد الأمثل في “منحنى لافر” وهو الحد الذي يبدأ بعده حصول تناقص في التحصيلات الضريبية المباشرة نتيجة لرفع هذه الضرائب (حوالي 30% كإجمالي الضرائب المفروضة). وعليه، وإضافة للإثر السلبي متوسط وبعيد المدى بانكماش الإقتصاد، فإن رفع الضرائب بعد هذا المستوى تؤدي إلى تناقص التحصيلات الضريبية على المدى القصير.

الدرس الثامن: “الفقير يزداد فقرا… والغني يزداد غنا”…. حقيقة أيضا:

يضاف إلى حقيقة أن العبء والإرهاق والإجهاد الضريبي في الأردن قد تجاوز كل الحدود التي يستطيع المواطن الأردني تحملها استنادا لكل الأسس والمعايير العالمية، ولحقيقة أن مزيدا من الضرائب ستؤدي إلى مزيد من انكماش الاقتصاد ألأردني (من خلال ضعف الاستهلاك) وإلى الانتقاص من التحصيلات الضريبية المباشرة للحكومة (من خلال زيادة التهرب الضريبي وعدم القدرة على سداد المستحقات الضريبية)، فإن التعديلات الضريبية على مدى العقدين السابقين، وعلى عكس ما جاءت به إدعاءات الحكومات المتعاقبة المتكررة بأن هدفها من إجراء هكذا “إصلاحات” ضريبية كان “تحقيق العدالة المجتمعية من خلال إعادة توزيع الضرائب بشكل يضمن عدالة هذا التوزيع”، فعلى أرض الواقع، ساهمت هذه الزيادات المتكررة وغير المدروسة شموليا للضرائب فعليا في زيادة اتساع الفجوة بين الأغنياء الفقراء وما تزال. عالميا، يتم احتساب مدى العدالة في توزيع الدخل القومي للدولة وبشكل منهجي علمي من خلال ما يعرف ب “معامل جيني”، حيث يقيس المعامل/ المؤشر نسبة إستحواذ عدد محدود من أفراد المجتمع على ثرواته ودخله القومي. يقاس المؤشر على مسطرة قياس من 0 إلى 1 ، فكلما ارتفعت قيمة هذا المؤشر وقربت من ال 1 كان ذلك دلالة على سوء عدالة التوزيع في دخول المجتمع . فإذا كان المعامل صفرا فذلك يدل على أن توزيع الدخل القومي بين أفراد وشرائح المجتمع المختلفة عادلا. أما إذا كان “معامل جيني” مساويا لواحد فهذا يدلل على أن توزيع الدخل القومي بين شرائح وأفراد المجتمع هو في أسوأ أحواله بحيث يسيطر عدد محدود جدا من أفراده على الغالبية العظمى من ثروتة بينما تعيش الغالبية العظمى من المجتمع في فقر متقع. قام مركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية في عام 2018 بإجراء دراسة شاملة لمستويات الدخول في الأردن وكيفية توزيعها ومدى التفاوت في هذا التوزيع والتطور/ التراجع في عدالة توزيع الثروة خلال العقد الأخير، وتم استخدام “معامل جيني” المعتمد عالميا لإجراء هذه الدراسة. تبين من الدراسة أن “معامل جيني” ارتفع بين 0.30 عام 2010 إلى 0.41 عام 2017 للأفراد، وارتفع من 0.33 عام 2010 إلى 0.45 عام 2017 للأسر مما يدلل على ازدياد سوء توزيع الدخل والثروة في الأردن، وإلى أن النظام الضريبي المطبق وتعديلاته خلال العقدين السابقين، وعلى عكس إدعاءات الحكومات المتعاقبة، قد ساهم وبشكل مباشر في زيادة سوء توزيع الدخل بين فئات المجتمع الغنية والفقيرة (أفرادا وأسرا) بحيث ساهمت هذه القوانين الضريبية وتعديلاتها في زيادة غنى الغني وزيادة فقر الفقير. ألدراسة تثبت الحاجة الماسة لتعديل قانون ضريبة الدخل من أجل تحقيق العدالة “المفقودة” حتى الآن في توزيع الدخل، على أن ذلك يجب أن يتم من خلال رفع الضريبة على الفئات العليا من الدخل فحسب ودون المساس بالطبقتين الوسطى والفقيرة ودون  تخفيض حدود الإعفاءات الضريبية المفروضة على هذه الفئات.

الدرس التاسع: ألتحدي: “آتوني بالبديل إن استطعتم!!!”… الرد:”البدائل كثيرة لعلكم تفقهون”:

“لا يوجد بديل… آتوني بالبديل إن استطعتم”… هكذا يتحدى عادة المسؤولون الحكوميون ومناصروهم، من مؤيدي إستراتيجيات وسياسات “إجماع واشنطن” والمتمثلة بالتركيز على “الاصلاحات” الضريبية (ألرفع المستمر للضرائب والأسعار)، معارضي سياساتها وقراراتها. وهذا التحدي الصلف بحد ذاته يحتوي على مفارقات كثيرة. فالمسؤولية الرئيسية لأية سلطة تنفيذية، وليس للشعب، تنطوي على إيجاد الحلول الملائمة لتحقيق رفاه الشعوب، وتطبيق هذه الحلول بنجاعة بما يحقق الأهداف المرجوة منها. كما أن ألشعوب ليست هي  المتسببة والمسؤولة عن المشاكل التي تقع فيها الأوطان حتى تكون المسؤولة عن حلها، بل كانت هي الحكومات المتعاقبة. وعليه فليس من المنطق بأن تتحمل الشعوب وزر إيجاد الحلول لضلالة حكوماتها. بل هو واجب الحكومة بأن تخرج الأوطان من الحفرة العميقة التي وضعته فيها. يضاف إلى ذلك كله بأن ألحلول متوفرة وبكثرة. منها ما كان على مستوى النهج الاقتصادي الشمولي بشكل عام ومنها ما كان على مستوى منظومة الضرائب الوطنية بشموليتها أو على مستوى ضريبة الدخل على وجه الخصوص.

ففيما يتعلق بالنهج الإقتصادي الشمولي، يبدأ الحل بتغيير الثقافة الاقتصادية التي كانت سائدة لدى الحكومات المتعاقبة خلال العقدين الأخيرين بأن الهدف الأساس لأي حكومة هو تحقيق ألأمان المالي قصير المدى فقط (معالجة العجز في الموازنة العامة وتخفيض نسبة المديونية إلى الناتج المحلي الإجمالي فقط) ودون النظر لمنظومة الأمن الاقتصادي والاجتماعي المستدام  بشموليتها إضافة للإمن المالي. ألهدف الأساس لأية حكومة يجب أن يكون تحقيق سعادة ورفاه الشعب من خلال تعزيز النمو الإقتصادي المستدام في المملكة. فالتركيز أساسا على معالجة العجز في الموازنة وتخفيض المديونية فقط وذلك باللجوء إلى فرض الضرائب المتواصلة لا يحقق شيئا سوى إفقار الشعب واتعاسه. لا ضير ولا ضرر في تحمل مزيد من المديونية على المدى القصير إذا وجهت هذه المديونية في تحقيق التنمية المستدامة على المدى البعيد. فإن تغيرت هذه الثقافة الإقتصادية لهذه الحكومة والحكومات التي ستجيء من بعدها، يتم إعداد “خطة النهضة التنموية الشاملة”، والتي طالب خطاب العرش الشامي حكومة الرئيس الجديد بإعدادها. خطة شمولية تضع “سعادة الناس” غايتها وهدفها الأسمى، على المدى القصير والمتوسط والبعيد. خطة كفيلة بتحقيق المواءمة والتوازن بين التنمية الإقتصادية والاجتماعية المستدامة مع تحقيق الأمان المالي قصير المدى. لتستند خطة النهضة التنموية الشاملة هذه إلى كافة الخطط التنموية السابقة ويتم إعدادها بمشاركة كافة القطاعات الاقتصادية ومؤسسات المجتمع المدني والجامعات والمعنيين. ويتم متابعة تطبيقها دوريا من خلال مؤشرات أداء واضحة ومحددة، ويتم رفع مستويات تحقيق هذه المؤشرات بشكل دوري لجلالة الملك المعظم وإعلانها للناس. تستند هذه الخطة التنموية الشاملة على مفاهيم استشراف المستقبل والابداع والابتكار والثورة الصناعية الرابعة، وتركز في محورها على مبادرات استراتيجية محددة لزيادة النضج الاقتصادي للمملكة في القطاعات الاقتصادية الواعدة كقطاع الطاقة المتجددة وقطاعات الصناعات الاستخراجية والتحويلية ذات الميز التنافسية والنسبية العالية، وتحديدا التركيز على الموارد الطبيعية الثمينة غير المستخرجة والمستغلة للآن كالصخر الزيتي والسيليكا والنحاس واليورانيوم وغيرها، والتي يمكن أن تشكل نفط الأردن في المستقبل القريب إذا ما تم استغلالها بالشكل الصحيح. خطة تعتمد في جوهرها على رأس المال البشري الكفؤ والمؤهل وتميز الأداء الحكومي كمحرك رئيس ومحوري لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة والمستدامة.

وفيما يتعلق بمنظومة الضرائب، فقد أقر رئيس الحكومة الجديد بضرورة إجراء مراجعة شاملة لها بشموليتها (وجعل ذلك أحد المبررات الرئيسة وراء سحب مسودة قانون ضريبة الدخل التي كانت الحكومة السابقة قد رفعتها لمجلس النواب)، بحيث تشمل هذه المراجعة كافة الضرائب والرسوم على المواطن ومؤسسات الأعمال (المبيعات، الدخل والأرباح، الجمارك، الأراضي والمسقفات وغيرها)، مع التأكيد على أهمية دراسة الأثر الشمولي لأي تعديل على هذه المنظومة أو أي مكون من مكوناتها. هكذا دراسة يجب أن تغطي الأثر على التنمية الاقتصادية المستدامة والأمن الاجتماعي بشمولية وغير محصورة بالأثر المالي قصير المدى على الخزينة فقط.  يجب أن تتم المراجعة الشاملة بمشاركة واسعة لكافة القطاعات الاقتصادية وكافة المعنيين، وأن يكون ذلك نبراسا ومنهاج عمل لكافة المراجعات والتحديثات والتعديلات المستقبلية على هذه المنظومة.

أما فيما يتعلق بالخيارات المتاحة بقانون ضريبة الدخل على وجه الخصوص، وأثره قصير ومتوسط المدى على الأمن المالي وإيرادات الخزينة (ألإهتمام التقليدي الآني للحكومات)، فقد قام مركز الدراسات الاستراتيجية التابع للجامعة الأردنية بإجراء دراسة شاملة حول الموضوع عام 2018 (دراسة “تقييم للواقع والبدائل المحتملة لقانون ضريبة الدخل”). ركزت الدراسة على أربعة متغيرات في قانون ضريبة الدخل وهي: ألحد الأدنى للإعفاء (للإفراد والأسر)، عدد الشرائح الخاضعة للضريبة، نطاق كل شريحة، نسبة ضريبة الدخل المفروضة على كل شريحة، ونسب الضرائب المفروضة على الشركات. قامت الدراسة بإعداد عشرة سيناريوهات مختلفة بتثبيت بعض هذه المتغيرات، كما هي محددة في قانون عام 2014 المعمول بها حاليا وعدم تعديلها (مثل الحد الأدنى للإعفاء أو نسبة الضريبة المفروضة على الشرائح الدنيا بما لا يمس الطبقتين الفقيرة والمتوسطة)، وتعديل متغيرات أخرى (مثل عدد الشرائح أو نسبة الضريبة المفروضة على شرائح ذوي الدخل المرتفع والشركات). معظم هذه السيناريوهات كان لها أثر مالي مباشر على الخزينة أكثر من ذلك الأثر الذي كان متوقعا من تطبيق مسودة قانون ضريبة الدخل المسحوب. فمثلا سيناريو تغيير حد الإعفاء من 12 ألف إلى 10 ألاف  فقط (حد الفقر في الأردن) وليس إلى 8 الاف كما كانت تقترح مسودة القانون المسحوب، مع أبقاء عدد الشرائح لثلاثة شرائح كما في قانون 2014 (وعدم نعديلها لخمسة كما في مسودة القانون المسحوب) وتعديل نسبة الضريبة ل23% بدلا من 20% للشريحة الثالثة من ذوي الدخل المرتفع، كان سيحقق إيرادا للحكومة بمقدار 495 مليون دينار بدلا من 300 مليون دينار كما كان متوقعا نتيجة لتطبيق مسودة القانون المسحوب. أما سيناريو تغيير حد الإعفاء ل  10الاف فقط (وليس 8 آلاف) مع تغيير عدد الشرائح لخمسة (كما في مسودة القانون المسحوب) وتثبيت نسبة الضريبة على الشرائح الأولى والثانية (الطبقة الوسطى) ورفعها على الشرائح العليا فقط (بحد أقصى 25% لأعلى شريحة دخل) كان سيحقق إيرادا مباشرا للخزينة بمقدار 577 مليون دينار (أيضا بدلا من 300 مليون)، هذا ناهيك عن تعديل نسب الضريبة على الشركات. كل هذه السيناريوهات كان سيكون لها مردود مالي مباشر على الخزينة أكثر من مردود القانون المسحوب ودون المساس بالطبقتين الوسطى والفقيرة، وعلى عكس كل إدعاءات الحكومة السابقة بعدم توفر البدائل.

الدرس العاشر (ألأخير والأهم): ملك من ورائه شعبه، لا يمكن الضغط عليه… فعندما يصدح الشعب يستمع الجميع دون استثناء…:

درس بسيط… ولكنه يحتاج إلى تئكرة وتأكيد… صدح الشعب… فاستجاب ملك بحكمته فألغى بداية قرارا لحكومته برفع أسعار المحروقات، ومنثم أقالها لتعنتها وعدم قدرتها على الاتصال والتواصل الفعال مع شعبه، وعين رئيسا ذا قاعدة شعبية عالية (أو على الأقل كانت كذلك لحين صدور تشكيل حكومته)، لتلجأ حكومته الحالية ببداية عهدها باتخاذ القرارات الكفيلة بالحصول على ثقة الشعب ورضاه (سحب مسودة قانون ضريبة الدخل، والتكفل بعلاج مرضى السرطان، وإعادة النظربالرسوم الجمركية على السيارات الهجينة- الهايبرد وغيرها من القرارات)، وذلك على الرغم من أن غالبية أعضائها كانوا أعضاء في الحكومة السابقة (ومن بينهم الرئيس نفسه)، ويشكلون الأغلبية فيها أيضا، وكانوا قد اتخذوا أنفسهم وقبل اشهر قليلة  قرارات معاكسة تماما للقرارات التي يتخذونها اليوم. مستوى وتعريف جديد لمصطلح “الإنقلاب في المواقف”، وأزمة في المنظومة الأخلاقية  للبعض تمس المصداقية في صميمها وموقف سيتذكره التاريخ لهم لا يحسدون عليه. ومؤسسات نقد وتمويل دولية كانت مواقفها قمة في التشدد مع الحكومات السابقة، ممارسة أقصى الضغوط عليها لتحقيق الأمن المالي قصير المدى بغض النظر عن التوابع على الأمن الاجتماعي والاقتصادي قصير وبعيد المدى، تطالب الآن نفسها بتخفيف الضغوط على الأردن وأن المساعدات الدولية المقدمة له يجب أن تتم على شكل منح أو قروض ميسرة، بالإضافة إلى جدولة الديون السابقة عليه وفق جدول زمني ميسر. وأشقاء لم يقصروا أبدا في دعمهم للأردن، ولكنهم خلال السنوات الأخيرة، وبسبب تحديات داخلية وخارجية كبيرة يواجهونها (انخفاض أسعار النفط عالميا والحروب الإقليمية والمتطلبات التنموية الداخلية لديهم وغيرها)، أدت جميعها إلى تقنين مساعداتهم للأردن، يعودون اليوم لتقديم المساعدات له والتي ستساهم وبدرجات متفاوتة في تخفيف أعبائه. حتى أعداء الوطن وقوى عالمية كانت وما تزال تحاول وضع الضغوط الهائلة على قيادة الوطن لحملها على قبول ما لا يمكن قبوله، إلا أنها اليوم تنزل من عليائها، فتعيد التواصل مع الوطن وقيادته وتقوم بمحاورته والتفاوض معه على أساس الندية والاحترام … فهي تدرك تماما بأن ملكا من خلفه شعبه، لا يمكن الضغط عليه… أبرز دروس الهبة المباركة… وفوائدها…

هبة مباركة وعشرة دروس اقتصادية مدعمة بالأرقام والإحصائيات… إذا اتعظت الحكومة الحالية بها، ومن سيخلفها من حكومات، وعملت بما تجبلها هذه الدروس عليهم من حكمة ومعرفة، عبر الوطن بذلك ألأمواج المتلاطمة الداخلية والخارجية التي تعصف به إلى بر الأمان… وحقق رؤية قائده وطموحات شعبه الطيب بالمستقبل الأفضل والعيش الكريم بإذن الله…

حفظ الله الأردن عزيزا وقويا ومنيعا… وحماه شعبا وأرضا وقيادة…

التعليقات مغلقة.