صحيفة الكترونية اردنية شاملة

اصلاح الاعلام الاقتصادي وقانون التدافع والبقاء للأصلح

في إطار “النهج الجديد” للحكومة الجديدة، وفي خطوة ايجابية إذا نفذت، يتحدث مسؤولون عن خطة وطنية لإصلاح قطاع الاعلام تتضمن اعادة ترتيب البيت الداخلي لمؤسسات الاعلام الرسمي ليكون إعلاماً وطنياً لا إعلام حكومة. وفي ضوء التحديات الراهنة الملحة والمتعددة، وغلبة الجانب الاقتصادي عليها، فان اصلاح الاعلام لابد أن ينطبق أولاً على الاعلام الاقتصادي، سواء المقروء أو المسموع أو المرئي.
هنالك في واقع الحال حاجة ماسة لإصلاح وتطوير ومأسسة الاعلام الاقتصادي بشقيه الرسمي وغير الرسمي، مما يتطلب قيادات تشاركية وموارد مالية تحفيزية واطر تشريعية تيسيريه، تمنع الاحتكار الاعلامي وتشجع المنافسة. اذ يغلب للأسف حالياً على الاعلام الاقتصادي الرسمي وشبه الرسمي، غياب الانفتاح وضعف المهنية والتعددية والحيادية، الى جانب هيمنة التدخل الحكومي، سواء في مجال حرية الدخول الى سوق الأفكار دون معوقات بيروقراطية أو في مجال حصر الدعم الحكومي المالي بالأعلام الرسمي وممثليه.
ولولا الصحف والمواقع الالكترونية ومبادرات مؤسسيها وكتابها، لكان الوضع الاعلامي أسوأ حالاً ولساد منطق الرأي الواحد، ممثلاً بسياسات صندوق النقد والبنك الدوليين وتوجهات المانحين، في الاعلام الاقتصادي المحلي.
فالتشاركية في النهج الجديد، وتسريع وتائر التنمية والنمو الاقتصادي التشاركي، لابد أن تجد منصات وآليات لتطبيقها، حتى لا تبقى حبيسة في إطار المفاهيم والأمنيات والوثائق والاستراتيجيات. وباعتقادي ان إحدى أبرز منصات التشاركية هي الاعلام الاقتصادي الحر والمشجع، حيث لا يسيطر على الصحف الرسمية والاعلام شبه الرسمي نخبة مغلقة من المسؤولين والاعلاميين والكتّاب لهم كل التسهيلات والحوافز، في حين يواجه “الرأي الاقتصادي الآخر” مختلف المعوقات والمثبطات.
حالياً، يواجه الفرد، سواء أكان مبادراً أو مبدعاً، اطراً مؤسسية بيروقراطية وغير منفتحة في ميدان الاعلام الاقتصادي. والحقيقة الأساسية في اعلامنا الاقتصادي هي أن الوقائع الاقتصادية الراهنة قد أثبتت صحة جوانب متعددة في الرأي الاقتصادي الآخر، وبرهنت على عيوب متأصلة في الفكر الاقتصادي الرسمي.
ان إحدى السُنن الالهية التي أودعها الخالق عز وجل في المجتمعات البشرية كافة تلخصها الآية القرآنية الخالدة: “ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ” (البقرة 251). هذه السُنة الالهية تؤكد على أهمية “التدافع بين الفرقاء” والتعددية لتحقيق “الصالح العام” كبديل عن النموذج الاعلامي الاحادي الذي يظن ان الحكمة الخالصة والايثار المطلق بيد طرف واحد وحيد. والتدافع الاقتصادي بطبيعة الحال لا يلغي حماية خصوصيات الآخرين الشخصية وارساء اساسيات الوحدة الوطنية، لكنه يدعمهما بحماية الضعفاء ومكافحة الهدر والفساد وغياب الكفاءة والعدالة والتشاركية في الترتيبات والسياسات الاقتصادية.
المختص المعروف شارلز لندبلم C. Lindblom ذاع صيته في نظرية التخطيط وعلم السياسة وتحليل السياسات العامة خلال النصف الثاني من القرن الماضي بسبب اشهاره لنظرية أساسية في التنسيق المجتمعي واتخاذ القرارات الجماعية أسماها “التعديل المشترك للفرقاءPartisan Mutual Adjustment “، هي تعبير معاصر عن سُنّة التدافع الالهية لكن بعد نحو 1400 عام.
ووفقاً لهذه النظرية، فان السياسة العامة الأفضل هي تلك التي تتولد عن التدافع والحوار والشراكة بين الفرقاء وليس من خلال آلية مركزية لاتخاذ القرار. المبررات القوية لهذا النهج في صنع السياسات العامة عديدة وتشمل: ضعف القدرات التحليلية لمتخذ القرار وعدم عصمته عن الخطأ وعن الاهتمام بالمصلحة الذاتية.
والعديد من الدراسات الحديثة تؤكد أهمية المؤسسات التشاركية في منع الفساد والظلم والاستبداد، لعل آخرها كتاب “لماذا تفشل الأممWhy Nations Fail ؟” (2012) من تأليف عاصم أوغلو وروبنسون Acemoglu and Robinson. وتحديداً، يرى المؤلفان ان غياب المؤسسات التشاركية وهيمنة المؤسسات الاقصائية والاستغلالية وغير التشاركية هو السر في الاجابة على سؤال الكتاب الأساسي.

ويُقترح في هذا المجال تأسيس مكتب اعلامي مدعوم بمنصة الكترونية، يستقبل شكاوى المواطن الخاضع للإقصاء الاعلامي، ويضمن التشاركية والتميز وحشد الكفاءات الاقتصادية، عوضاً عن المحسوبية والشخصنة. فبدلاً من أسس العلاقات والمحسوبية، والانغلاق والانتقائية، والضجيج الاعلامي، والقرارات الاستنسابية للقيادات الاعلامية والمحررين المسؤولين، لابد من الاعتماد على المؤسساتية والقواعد التشاركية وعلى المهنية والحيادية. حيث تتنافس الآراء الاقتصادية المنشورة، ويبقى الأصلح منها في الأجل الطويل، “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً، وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ” (الرعد: 17).

التعليقات مغلقة.