صحيفة الكترونية اردنية شاملة

تنازلات قاسية لضمان العراق

لا يمكن النظر إلى التظاهرات العراقية من زاوية الأحزاب والقوى السياسية التي تحاول الدفاع عن نفسها أمام ما تعتبره «مؤامرة» متعددة الرؤوس للقضاء عليها، كما لا يمكن النظر إلى التظاهرات من زاوية متظاهرين غاضبين من فشل الدولة، وليسوا معنيين في الاساس بأدوات تحليل أسباب هذا الفشل ولا اقتراح حلول وبدائل.

ما يمكن ان يتفق عليه الجميع في هذه اللحظة هو أن الانغلاق السياسي المتفاقم، والعجز الاقتصادي المتراكم، والفساد المستشري، هي نتائج طبيعية لأخطاء تأسيسية في صميم العملية السياسية العراقية التي انطلقت بعد عام 2003، وتمت شرعنتها بدستور العام 2005، وخاضت منذ ذلك الحين أربع تجارب تمثيلية قادت جميعها إلى النتائج نفسها.

المواجهة الضرورية لا يجب أن تحمل طابعاً تبريرياً على ما تريد الأحزاب، ولا انتقامياً على ما يرغب بعض المحتجين، بل هي مواجهة على أساس اتفاق لوضع أسس عقد اجتماعي جديد يتم صوغه لإنقاذ العراق من الفوضى، ويتضمن حلولاً قاسية، وإجراءات مؤلمة، سيقدم الشعب العراقي من أجلها التنازلات، لضمان انتقال سليم من مرحلة إلى أخرى، ولكن ليس قبل أن تقدم الأحزاب تنازلات أكثر قسوة.

لا يمكن التظاهرات التي تبناها أهل جنوب العراق بمسؤولية وإحساس مرتفع بضرورة التغيير العميق والمثمر، أن تؤتي ثمارها من دون الذهاب إلى فرض خريطة طريق تضمن تغيير آليات العملية السياسية الحالية بأخرى أكثر ديناميكية خلال مهل زمنية ووفق آليات ممكنة التطبيق.

ما يمكن تلمسه من طبيعة التظاهرات الحالية، وسلسلة المطالب التي وضعها المتظاهرون، أن ثمة رفضاً شعبياً لاعتبار التظاهرات «مطلبية»، ورفضاً لافتراض أنها «ثورة جياع» كما أن هناك طروحات تسعى لإحداث نقلة سياسية واقتصادية شاملة مثل تغيير قواعد عمل الحكومات المحلية، وتغيير آليات الدولة في مجالات الاقتصاد والاستثمار، وتحديث قوانين إدارة الحياة السياسية، وتعديل الدستور، وتلك المطالب تكاد تكون فريدة من نوعها على مستوى تطور الوعي الشعبي بأسس الأزمة العراقية، ويمكن القول إنها «درة تاج» الحركات الاحتجاجية الشعبية منذ العام 2003، بتنوعاتها الجغرافية والمفاهيمية، وباضطراباتها المختلفة، وحتى بالأخطاء والارتكابات التي صاحبتها.

يجب القول إن الوسط السياسي العراقي الحالي ، كان تورط بأسلوب «الشركات الحزبية» بتسويف كل الفرص المتاحة لضمان التغيير عاماً بعد عام، وأصر على بناء وتحصين مصالحه الحزبية، واستثمر في الارتباك الشعبي، وارتياب أو غياب النخب القائدة، وأهدر ثروة العراق وإمكاناته البشرية وثقله الحضاري، وأنه بذلك وضع نفسه أمام استحقاقات الغضب الشعبي الحالية والمستقبلية، وعليه دفع الثمن المطلوب لتحقيق السلم الاجتماعي عبر ضمان انتقال سلس بين العملية السياسية الميتة سريرياً، وأخرى تفرض نفسها عبر مطالب الناس ووعيهم.

الأمر لم يعد يحتمل اجتماعاً برعاية رئيس الجمهورية لشرب الشاي وتبادل عبارات المجاملة، بل يستدعي اعترافاً سياسياً معلناً وجماعياً بالتغيير الذي طالب به الشعب العراقي، وجدول تطبيق وآليات علمية رصينة، بما يشمل في الدرجة الأساس تغييراً دستورياً واستفتاء شعبياً وانتخابات مبكرة ضمن سقف لا يتجاوز عامين من تاريخ عقد جلسة البرلمان الأولى، يؤسس عملية سياسية بقواعد وآليات وقوانين تتجاوز أخطاء الماضي.

إن أبواب ومديات التغيير مفتوحة وواسعة، وقد تمتد إلى طبيعة النظام السياسي وعجزه عن إنتاج آليات عمل منتجة، والدولة وبنيتها البيروقراطية المترهلة، ونمط الاقتصاد الأحادي الخطر، وإدارة مفهوم المواطنة ومعنى المساواة في الفرص والعلاقة مع الدولة.

نعم . الأمر صعب ومعقد، وقاس على مصالح الأحزاب والقوى الحالية التي صرفت أموالاً للوصول إلى برلمان تأمل بأن يكون منبراً لتقاسم الدولة، وهو مؤلم لشعب عليه انتظار سنوات قادمة لتلمس نتائج التغيير الذي فرضه واقعاً، لكنه ضروري، وبديله المزيد من الفوضى والصدام الدامي والمدمر بين جمهور غاضب وأعزل، وقوى حزبية تحتكر الدولة وسلاحها وقمعها وقوانينها.

جيران العراق والولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، والمنظمات الدولية المعنية والشركات العالمية الكبرى، مدعوون جميعاً إلى المساهمة في تدارك الفوضى العراقية، ونأمل بأنها باتت تدرك اليوم يقيناً أن ضعف العراق وفوضاه أكثر خطورة على المنطقة والعالم من قوته وتماسكه.

نقلا عن “الحياة” اللندنية

التعليقات مغلقة.