صحيفة الكترونية اردنية شاملة

الحرب التجارية مغانم ومغارم وفرص

أعجبتني مقولة قرأتها في إحدى المقالات منذ فترة وجيزة، وهي نقلاً عن مثلٍ إفريقيٍّ قديم: “عندما تتقاتل الأفيال فإن الحشائش والأعشاب هي التي تعاني”، وهو مثلٌ يجسِّد ما نشهده اليوم في معترك الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية على مستوى الأفراد والشركات والدول. فاليوم تخوض الولايات المتحدة حرباً تجارياً غير محسوبة الأثر، لا في الجانب الاقتصادي ولا في الجانب السياسي أو الاجتماعي؛ فجميع دور البحث والدراسات تشير إلى الآثار الاقتصادية والاجتماعية السلبية للحرب التجارية القائمة اليوم بين الولايات المتحدة من جهة، والصين والدول الأوروبية من جهة ثانية. فقد رصدت بعض الدراسات أنَّ نحو 195 ألف وظيفة في مجال الحديد والصلب وصناعة السيارات ستزول بسبب ذلك القرار. والحقيقة أنَّه من المستغرب أنَّ ماكينة القرار الأمريكي تترك للرئيس الإصرار على قرار يمس الاقتصادي الوطني بهذا الشكل السافر دون أن تضع له ضوابط مناسبة. ولعلَّ ذلك يدلُّ على أنَّ الحزب الجمهوري الذي يتبع له الرئيس لم يدرس الآثار المتوقعة بشكل جيد، وأنه ترك للرئيس ومساعديه اتخاذ القرار الذي يظهر شعبوياً على أنه حماية للصناعات الأمريكية والاقتصاد الأمريكي، أما الحزب الديمقراطي فهو إما أنه صامت على ترقب وتأهب للانقضاض، وإما أنَّ مستشاريه يعتقدون خطأً، أنَّ القرار في صالح الاقتصاد الأمريكي. وفي كلا الحالين فإنَّ الاقتصاد الأمريكي هو الخاسر الأكبر، وأن الاقتصادات المتقدمة هي خاسرة لا محالة أيضاً، وعليه، فإنَّ المثل الإفريقي القديم يجب تعديله في هذه الحالة؛ لأنَّ الفيلة ستؤذي بعضها بعضاً، وبلا شك ستؤذي من حولها ما لم يحاولون البحث عن مهارب أو فرص بعيدة عن مغارم الصراع بين مراكز القوة، فالتجارة الدولية ولدت العديد من المصالح والمنافع لدول العالم كافة. فتشير التقارير الدولية إلى أن معطيات تحرير التجارة منذ العام 1947 سمحت بزيادة حجم التجارة الدولية من 24% من الناتج المحلي العالمي قبل تحرير التجارة إلى نحول 60% في وقتنا الحالي، وهذا يعني بالضرورة زيادة حجم الإنتاج العالمي وتوليد العديد من الوظائف، ناهيك عن الحصول على العديد من السلع والخدمات بأسعار تنافسية استفاد منها المستهلكون أكثر من غيرهم. كما تشير الدراسات إلى أنَّ نحو 85% من الرسوم الجمركية والعوائق التجارية المالية غير الجمركية تمَّ تفكيكه على مدى السنوات الثمانين الماضية، وخاصة بعد إقرار الاتفاقية العامة للتعرفات والتجارة (الجات) وتحولها إلى عهدة منظمة التجارة العالمية WTO. من الواضح أنَّ الرئاسة الأمريكية مقتنعة تماماً بإجراءات الحماية، وهي تعتقد أنَّ النتائج ستكون إيجابية للغاية، في حين أنَّ الدلائل ستكون غير ذلك تماماً، على الرغم من أنَّ نتائج النصف الأول لهذا العام تشير إلى أرقام إيجابية في نمو الوظائف والنمو الاقتصادي الكلي، وبنسب أفضل لم تشهدها أمريكا منذ العام 2014. وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أن المغارم قادمة لا محالة، وأنها لن تكون فقط في فقدان الوظائف المرتبطة بالصناعات المتأثرة أو بعمليات التجارة استيراداً وتصديراً، وإنما أيضا في فقدان نسبة كبيرة من القوة الشرائية الناتجة عن ارتفاع كلف شراء المواد البديلة المحلية التي تفوق في أسعارها أسعار السلع التي كان يتم استيرادها من الصين ومن أوروبا، وبأقل كثيراً من السلع المحلية، بل إنَّ تلك السلع ستبقى غير منافسة سعرياً للسلع المستوردة؛ ذلك أنَّ الجمارك الإضافية لن تؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة إلى مستويات أعلى من مثيلاتها المحلية، وعليه سيكون الخاسر الأكبر المستهلك الفرد الذي سيدفع مبالغ أكبر لشراء ذات السلع المستوردة التي كان يحصل عليها بسعر أقل قبل الحماية الجمركية. ومن ناحية أخرى، فإنَّ استمرار رفع أسعار الفائدة المحلية على الدولار سيترك أثراً كبيراً برفع قيمة الدولار أمام العملات الأجنبية، وبالتالي فسيؤدي استمرار تنافسية السلع المستوردة مقابل المحلية، ما قد يعني فقدان الأثر الحقيقي للسياسة التي يراد لها حماية المنتج المحلي. في خضم التناحر بين القوى الاقتصادية الكبرى، فإن الفرصة واسعة وواعدة أمام دول المنطقة العربية في السعي نحو جذب الاقتصاد الصيني إلى المنطقة استثماراً وتجارة؛ فالمنطقة العربية تماثل تقريبا في حجمها السكاني اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية، وهي متعطشة بشكل أكبر للمنتجات التقنية والسلع المُصنعة وغيرها من المنتجات الصينية، وذلك بفعل التركيبة السكانية الشابة من جهة، وبفعل التوجهات القائمة نحو استقرار المنطقة في العراق وسورية واليمن وليبيا من جهة أخرى. وهذا يعني احتياجات ضخمة في مجال إعادة الإعمار، وفي المجال الاستهلاكي والرأسمالي. الفطين من يدرس الوضع القائم والتطورات المحتملة، فيستغل فرصة إصرار الولايات المتحدة على الحرب التجارية، ويقفز فوق هذه الحواجز؛ ليجذب الاقتصاد الصيني إلى جانبه تجارة واستثماراً وتنمية، وإلا فسيكون كالحشائش الضعيفة في المثل الإفريقي. وأخيراً، فقد بادرت دولة الإمارات وبدأت بصنع علاقات استراتيجية مميزة مع الصين، بيد أن الباب ما زال مفتوحاً، وما زال يستوعب شركاء، ولعل الأردن تكون المحطة الثانية للقفز على حواجز القرار الأمريكي واغتنام فرصة مشروع “الحزام والطريق” التي توفرها الصين للجميع وتسعى إلى شراكتهم فيها. الموقع الجغرافي والتركيبة الاقتصادية للأردن تسمح له أن يلعب دوراً مكملاً لدور دولة الإمارات، فقربنا من السوق السوري والعراقي وانفتاحنا على الأسواق العربية كافة يؤهلنا إلى دور محوري يجب ألا نفوته. أملنا أن نلتقط الفرصة اليوم قبل الغد؛ فالفرص لا تأتي دوماً ولا تدوم أبداً.

التعليقات مغلقة.