صحيفة الكترونية اردنية شاملة

«الاسم فوق العنوان» بقلم: ابراهيم العريس

في تاريخ الفن السينمائي، لا شك في أن المخرج لعب دائماً ومنذ البداية دوراً أساسياً، وفي بعض الأحيان، الدور الأساسي في صنع الفيلم. لكن المشكلة كانت دائماً في اعتراف الآخرين بذلك الدور. فالفيلم وطوال سنوات عدة ظل يُنسب غالباً إلى منتجه، أي ذاك الذي يؤمن المال للإنفاق على الفيلم، ولاحقاً حين بدأ النجوم بفرض حضورهم صار الفيلم يُنسب إليهم… أما المخرج فظل في معظم الأحيان مقيماً في الظل، حتى أتى مؤرخو السينما كما أتى النقاد والكتّاب الجادون لإعادة الاعتبار إليه وجعله سيد العمل السينمائي من دون منازع ولا سيما بالنسبة إلى الأفلام الجادة والكبرى. ولئن كان هذا الواقع قد بات سائداً اليوم من الصعب أن يساجله سوى غلاة المكابرين، فإن ثمة مخرجا من بين الطبقة الوسطى في تراتبية العمل الإخراجي الأميركي هو فرانك كابرا، سيكون هو من ينشر «الإعلان» الأول والأهم عن ذلك التبدل الأساس في النظر إلى المخرج ودوره. وكان الإعلان في كتاب أصدره كابرا بعنوان شديد الدلالة واضح السياق هو «الإسم فوق العنوان».

في هذا الكتاب يروي كابرا سيرته كما سنرى بعد قليل، لكنه في الوقت ذاته يروي بلغة بسيطة لا تخلو من تلقائية واعتداد بالنفس والمهنة، كيف تحوّل المخرج من «جندي مجهول» بالكاد يذكر وجوده أحد إلا بين أهل المهنة، إلى صاحب إسم يوضع الآن فوق عنوان الفيلم على ملصقات هذا الأخير. بمعنى أن اسم المخرج صار هو العنصر الأبرز. بل حتى العنصر الأكثر جذباً للمتفرجين على اعتبار أن ملصق الفيلم ليس في نهاية الأمر سوى دعوة عامة لحضور عروضه في الصالات متضمناً من عناصر الجذب ما يغري المتفرجين. وبالتالي فإن اسم المخرج إذ بات يعلو العنوان، صار واحداً من عناصر الجذب الأساسية.

في كتابه، يروي لنا كابرا كيف حدثت تلك النقلة ولماذا. بل أكثر من ذلك يتحدث مطولاً عن دور يفترض هو نفسه أنه قد لعبه في سيرورة النقل كلها بوصفه «مخرجاً استثنائياً» وفق ما ينقل بنفسه عن المؤرخين والنقاد (!)، ولا سيما انطلاقاً مما يفصّل قوله حول علاقته بالسياسة الديموقراطية التي اتبعها الرئيس الأميركي روزفلت الذي «فتح المجال واسعاً أمام السينما كي تساهم في إنقاذ الإقتصاد، وبالتالي المجتمع الأميركي، مما أصابهما بسبب انهيار البورصة الشهير عام 1929 وما تبع ذلك من انهيار وكساد عامين.

صحيح أن كابرا لا يتوقف أكثر مما يجب عند هذه الأمور المهمة. بل يمر عليها مفرداً الجزء الأكبر من صفحات كتابه لسيرته وسيرة أفلامه، لكن توقّفه عندها لا يخلو من أهمية فائقة بالنظر الى ان الصفحات التي يكرسها لهذا الأمر، إنما هي الإعلان الأكثر وضوحاً ورسميّة عن الولادة الحقيقية للمخرج السينمائي، ولا سيما عن ولادة المخرج في ارتباطها مع ولادة العلاقة بين السلطات والسينما، إذ تتخذ هنا لمرة أولى سمة تتجاوز مسألة الرقابة التي كانت تعتبر العلاقة الوحيدة الواضحة بينهما.

فالحال أنه لم يكن من سمات السينما الأميركية، أن ترتبط أسماء بعض المبدعين فيها بتيارات أو شخصيات سياسية محددة، وإن كان من المعروف أن شخصية الرئيس التي تعكس وجود تيار شعبي عريض جاء به إلى السلطة وتحلَّق من حوله، تعكس توجهات عامة تطاول نوعيات الأفلام المحقّقة، كما تطاول بعض الفنون الأخرى. فمثلاً يمكننا أن نتحدث عن سينما تسير في خط الانفتاح الذي مثله كنيدي، وأخرى تسير في خط الانغلاق الذي مثله ريغان، من دون أن يعني هذا أن هناك سينمائياً يمكن أن ينسب إلى كنيدي أو إلى ريغان.

ومن هنا فإن كابرا، الأميركي ذا الأصل الإيطالي، يمكن أن يعتبر استثناء لهذه القاعدة، إذ إن أفلامه الرئيسية رُبطت على الدوام من قبل المؤرخين والنقاد، بالتيار الروزفلتي (نسبة الى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت)، واعتبرت التعبير السينمائي الحي والمنطقي عن ولادة الانسان الأميركي الجديد الذي كانت صفقة روزفلت الجديدة (نيو ديل) قد وعدت بولادته.

ومع هذا لم يكن كابرا معروفاً قبل ذلك بمواقفه السياسية، بل إن بداياته كانت تحوم من حول السينما الهزلية الخالصة (تحقيق افلام من تمثيل الهزلي هاري لانغدون)، وكان يعتبر هو نفسه من الساذجين في مجال التعبير السياسي، وهو أمر يعترف به في الفصول الأولى من كتابه. بعد ذلك مع حلول أواسط سنوات الثلاثين، وفي وقت كانت فيه شهرة كابرا قد وصلت إلى الذروة في مجالين على الأقل: مجال الأفلام الهزلية ومجال التعبير المتشدد عن أخلاقية أميركية طهرانية، استخدم من أجله كابرا كل ترسانته الكاثوليكية ومقدرته الفائقة في إدارة الممثلين وإيصالهم إلى أقصى درجات الشفافية في التعبير عن التمسك بالقيم الأخلاقية السائدة، حتى لو ضحوا في سبيل ذلك برغباتهم وملذاتهم. في ذلك الوقت جاء روزفلت الى السلطة، حاملاً معه عنصرين أساسيين بدا في ذلك الحين ان اميركا في أمس الحاجة إليهما: أولهما الإيمان بأن الولايات المتحدة ستخرج من أزمتها الاقتصادية المستشرية بفضل تضافر جهود أبنائها وانفتاحها على العالم الخارجي، وثانيهما الإيمان بالدور الذي سيلعبه الأميركي المتوسط، الأميركي العادي في ذلك كله. كانت اندفاعة روزفلت هذه أساسية، وكان من الطبيعي ان يتلقفها نوعان من المبدعين في هوليوود: النوع الأول يمثل الفنانين من ذوي الفكر الليبرالي المنادي بأرجحية الدور البشري وبعنصر التقدم كعنصر فاعل في المجتمع، حتى أن كان أصحاب هذا الفكر لا يرون أن التقدم يتعين أن يكون له محتوى ايديولوجي معين، والنوع الثاني يمثله الفنانون من ذوي الاتجاهات اليسارية المختلفة التي كان ما يميزها عن النوع الأول، المحتوى الايديولوجي الذي تسبغه على التقدم. ما جمع النوعين، عند بدايات عهد روزفلت، كان الإيمان المشترك بحلم أميركي قادر على ان يقوم من سباته العميق ليصنع أميركا الجديدة، والايمان بدور الإنسان المتوسط كما أشرنا.

والحال أن أفلام كابرا الرئيسية في ذلك الحين عرفت كيف تعبر عن ذينك الإيمانيين، وهو بالتحديد ما يشكل الجوهر الرئيس لما يقوله كابرا في «الإسم فوق العنوان» الذي لخص فيه، الى جانب سيرته كمهاجر إيطالي في أميركا أيام عصرها الذهب في استقبال الآخرين ومنحهم – وفق ما يقول ويكرر – «تلك الفرص المدهشة التي، إضافة إلى جعلهم مواطنين يساهمون في بناء تلك الحضارة الجديدة، بشراً مختلفين عما كانت توفره لهم أوطانهم الأصلية». وكان فيلم «السيد ديدز يتوجه إلى المدينة» (1936) الذي يعتبر من أبرز ما في فيلموغرافيا هذا الفنان (وإن كان هو يفضل عليه تحفته الإنسانية الغريبة «إنها لحياة رائعة»)، فاتحة سلسلة من أفلام مشابهة وضعت الانسان المتوسط أمام مصيره، ولئن كان هذا الفيلم ينتمي إلى غاري لاركين، كاتب السيناريو اليساري الذي جعله في الوقت ذاته محضر اتهام لتوجهات الإنسان الرأسمالي، وأنشودة تغني التقدم والحرية والصفاء الأخلاقي (ما جعل كابرا يقول لنا إنه شعر بأن ثمة ورطة ما في الأفق!)، فإن أفلامه التالية والمشابهة راحت تتتالى لتقدم رؤية أكثر وضوحاً للحلم الاميركي: حلم الصعود في داخل المجتمع على سلم البراءة المظفرة في نهاية الأمر، حيث من «السيد سميث في مجلس الشيوخ» (1939) إلى «رجل الشارع» (1941) سارت أفلام كابرا في ذلك الحين على هَدْي خطوات روزفلت مترجمة توجهاته وآراءه وانفتاحه، صوراً على شاشة كان الجمهور يتلقفها بلهفة، لأنها كانت تقول له، إن أميركا إذا كانت قوية إلى هذا الحد، فلأنها الدولة الوحيدة في التاريخ التي صنعها أبناؤها البسطاء حقاً.

طبعاً لم تكن هذه «الثلاثية» كل أفلام فرانك كابرا، فهو حقق طوال مساره السينمائي بين 1922 و1961 وكما يروي لنا بنفسه (هو الذي تقاعد بعد ذلك حتى رحيله في العام 1991 مكللاً بآيات الفخر والمجد، في أوروبا أكثر مما في أميركا في أي حال)، أكثر من خمسين فيلماً تراوحت بين الكوميديا الاجتماعية، والأفلام الدعاوية (سلسلة «لماذا نحارب» التي انتجتها وزارة الدفاع الأميركية خلال الحرب العالمية الثانية بتوجيه من روزفلت نفسه لتبرير دخول أميركا الحرب ضد النازيين) والأفلام ذات الالتزام الأخلاقي. وكان كابرا يفخر دائماً بأنه كان واحداً من أوائل المخرجين الأميركيين الذين وضعوا اسمهم فوق عنوان الفيلم لا تحته، ومن هنا حمل كتاب مذكراته الرئيسي الذي نحن في صدد الحديث عنه هنا، عنوان «الاسم فوق العنوان».”الحياة”

التعليقات مغلقة.