صحيفة الكترونية اردنية شاملة

من ثمرات المطابع

 

الكون المادي بمجراته يتسم بالنظام والاطراد والترابط المبدع، فماذا عن المجتمع البشري المعاصر؟ لم كل هذه الأنانية والغطرسة والجشع، والفوضى والتفكك، والفساد والظلم، والجوع والبطالة، والأزمات المالية والاقتصادية والمعضلات الجماعية؟ هل يخضع مصير المجتمعات ونهضتها ونظامها لقوانين ثابتة أيضاً؟ أم هي خاضعة للمصادفة والى “ضلع الانسانية الأعوج”؟

الاجابة: ان المجتمع الانساني ونهضته واستدامته، كما هو الكون المذهل في ابداعه، تحكمه قوانين علمية عليا، رغم فشل العلوم الاجتماعية الوضعية المعاصرة في اكتشافها بالرغم من مرور أكثر من مئة عام على تأسيس معظم هذه العلوم.

لكن ما هو النموذج المعرفي الاستشرافي لحل تحديات ومشكلات المجتمعات العربية والدولية والذي يتجاوز جوانب الاخفاق المزمنة في كل من الأسواق الحرة (المذهب الليبرالي الفردي) والتدخل الحكومي البيروقراطي (المذهب المركزي الجماعي)؟ أو حسب تعبير الاقتصادي الأمريكي المشهور جامس بوكانان: “اذا فشلت كل من الأسواق والحكومات، ما هو البديل التنظيمي؟”.

هذا التساؤل الجوهري والمركزي حول الحوكمة العليا للمجتمعات البشرية أو حوكمة الحوكمة  Meta-Governance يقع في صلب كتاب صدر مؤخراً للدكتور جمال الحمصي، الاقتصادي والكاتب في صحيفة المقر، عنوانه: “علم القرآن التنموي: أعظم عشرة قوانين حاكمة لنهضة المجتمعات والدول”.

فانطلاقاً من توجهات مدرسة المنار برؤيتها المقاصدية، يؤسس هذا الكتاب لعلم القرآن التنموي  Development Quranology كعلم متعدد التخصصات والحقول العلمية. علم القرآن التنموي هو العلم الذي يؤصل ويستكشف شروط النهضة وأسرارها، والسنن والقوانين التنموية المطّردة والعالمية، استناداً الى قطعيات القرآن الكريم (أم الكتاب).

الكتاب أعلاه يؤصل ويرصد أبرز السنن الاجتماعية والمعرفية والوجودية الواردة في القرآن الكريم والحاكمة لتقدم المجتمعات وبناء الدول التنموية. فهو يحدد ويشرح أبرز عشرة قوانين وسنن موضوعية تسمح بالتنبؤ والتحكم وتتسم بالعالمية Universality والتأكدCertainty  بصورة تماثل القوانين الطبيعية. السنن والقوانين المدرجة في الكتاب والحاكمة لمصير الدول وتنمية المجتمعات الانسانية تم اشتقاقها بالاستناد الى علم مقترح جديد وغير تقليدي لانتاج المعرفة الاجتماعية الموضوعية مستمد من القرآن الكريم، واستناداً الى نظرية موضوعية للمعرفة Objective Epistemology.

تنبع أهمية هذا الكتاب من تأسيسه لعلم القرآن التنموي المستند الى معرفة موضوعية لتقدم المجتمعات وبناء الدول، وفي مجال أخفق فيه العلم التجريبي الحديث ممثلاً بالمنهج العلمي الوضعي (القائم على مبدأ وحدة منهجية العلوم الاجتماعية والطبيعية)، وممثلاً أيضاً بغيره من المدارس العلمية اللاحقة Post-Positivism مثل البنائية الاجتماعية والواقعية النقدية.

ان اكتشاف هذه القوانين الموضوعية للنهضة الحضارية كان دوماً طموح العلوم الاجتماعية منذ تأسيسها في عصر التنوير الغربي، ويشكل غاية عليا للمذهب الوضعي Positivism في العلوم الاجتماعية المعاصرة. لكن المذهب الوضعي لم يفِ بوعده (بل وبدائله العلمية أيضاً) في ظل العقلانية المقيدة للانسان وبسبب صعوبة اجراء التجارب المنضبطة وفي ضوء التعقيد والتنوع المجتمعي المتزايد، مما خلق عجزاً مستداماً في العقلانية البشرية في الدول ذات الرؤية أو النظرة العلمانية للوجود والحياة والتقدم.

يستند الكتاب الى منهجية تأصيلية، تبحث في التنمية التشاركية والمستدامة كمشكلة واقعية أساسية في العالم العربي والاسلامي على وجه الخصوص، وتنطلق من القرآن كاطار مرجعي أساسي (الا يعلم من خلق؟) و(ولا ينبئك مثل خبير) دون تجاهل الفكر الانساني الأداتي (أنتم أعلم بأمور دنياكم) والخبرات الاجتماعية والانسانية (لتعارفوا). الكتاب يستأنس بحقول علمية متعددة، بما فيها أدبيات التنمية ودراساتها، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد، وعلم السياسة، ونظرية المباريات Game Theory والنظرية العامة للنظم، وفلسفة الأخلاق، وادبيات الحوكمة العامة وبناء الدولة، وأيضاً فلسفة العلوم الاجتماعية ونظرية المعرفة.

ويحاول الكتاب ان يقترح أجوبة جديدة ومتسقة ومتكاملة حول طبيعة المجتمع الانساني وسبل تغييره، ودواعي هلاكه وفشله، وأسباب فساده وموانع هذا الفساد، وأسباب تقدمه الجوهري وسعادته ورفاهيته، ودعائم نظامه العام واستقراره وجذور وحدته وتعايش جماعاته، ودور العقل (الخيّر والماكر) والمقدس (الحقيقي والزائف) في المجتمع، وامكانيات تطوير المعرفة المتاحة.

الكتاب ينطلق من المسلمة القائلة بأن للمجتمعات الانسانية سنناً تحكم تقدمها كما أن للكون (أو العالم المادي) قوانين تتسم بالاطراد والنظام والترابط الهيكلي. وأما القوانين العشرة فهي: (1) مسؤولية الانسان (2) التغيير الاجتماعي (3) السعادة البشرية (4) الهلاك والعقاب المجتمعي (5) التدافع المشترك (6) عضوية المجتمع (7) النزاع الكامن وضرورة الخير المشترك (8) عقم المكر (9) العقلانية المقيدة (10) التعلّم بالتقوى.

من منظور معياري، تشكل هذه القوانين والسنن الموضوعية مُدخلاً أساسياً لاحداث نهضة مجتمعية مميزة ومستدامة بما تمثله من عناصر استراتيجية في أي دستور عقلاني للدول وللحوكمة العامة الرشيدة Good Governance. كما تشكل مرشداً لمؤسسات وسياسات الدول والمجتمعات الساعية للنجاح والرفاهية والراغبة في التعامل مع الفوضى والتعقيد المتزايدين (في العالمين العربي والاسلامي وفي العالم ككل).

ويؤكد الكتاب على مبدأ التكامل المعرفي بين كتابين: كتاب الله المسطور (القرآن الكريم) الذي يشكل الهداية الربانية للبشرية (ان هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) في مجال اكتشاف السنن الاجتماعية الكبرى والمعرفة الأخلاقية الأساسية من ناحية، وكتاب الكون المنظور من خلال العلم التجريبي والعقل التفسيري (وعلّم آدم الأسماء كلها وعلّمه ما لم يعلم) لاكتشاف القوانين العلمية التي تحكم العالم الطبيعي الفيزيائي والاجتماعي الجزئي من ناحية أخرى. ويرى الكتاب أن كلا الكتابين (المنهجين) ضروري لتقدم المجتمعات العقلانية وبناء الدولة التنموية والمستقرة.

الكتاب تم نشره من قبل جمعية المحافظة على القرآن الكريم في الاردن وقام بتقديمه د. أحمد نوفل الأكاديمي والمتخصص في الدراسات القرآنية، وهو كتاب موجز ومركّز ومؤلف من 131 صفحة.

 

التعليقات مغلقة.