صحيفة الكترونية اردنية شاملة

تقييم البرامج التنموية في ظل الوصفات والموارد الدولية

يؤكد علم النفس المعرفي على قدرة الانسانالفريدة على حل مشكلاته الحادة ومعضلاته المزمنة على المستوى الفردي والمجتمعي دون حتى أن يبذل أية جهود اصلاحية متواصلة أو مساعي صادقة ومميزة على أرض الواقع.

لكن كيف يحدث هذا الفعل التخيلي؟! باختصار،هذه هي امكانيات البشر الرحبة في مجال الجدال والانكار والوهم والعناد وفلترة المعلومات وخداع النفس ومقاومة التغيير. هذه الظاهرة غير العقلانية ترتبط بما يطلق عليه الاقتصاديون بالاعتماد على المسار Path Dependence أي النزعة نحو العمل كالمعتاد حتى ولو كانت نتائج هذا العمل (العام أو الخاص) مأساوية في الأجل الطويل.

تقييم الأداء على المستوى المجتمعي والتنموي على وجه الخصوص هو ليس مجرد عمل تحليلي معقد بل هو أيضاً عمل معياري أخلاقي ومتعدد الأبعاد. ولن يتم اجراؤه هنا لحالة اقتصادنا ومجتمعنا -كما جرت عادة الخبراء الدوليين- مستخدماً مختلف المؤشرات الاحصائية، البسيطة منها والمعقدة، حول أداء القطاعات الانتاجية والمالية والخارجية والنقدية والاجتماعية والتنموية خلال الأشهر أو السنوات أو العقود الثلاثة الماضية.

أي لن اجري التقييم باستخدام معدلات النمووالانتاجية والتنافسية والبطالة والفقر، ونسب الطلاق والجرائم وانحراف الأحداث، ومستويات المديونية العامة والمديونية الخاصة والعجوزات الداخلية والخارجية والتضخم التراكمي، وغيرها الكثير.

لن يتم أستخدام اسلوب التقييم الفني متعدد التخصصات في مقالي هذا لأنه من النادر ان يتفق الجميع على نتائج التقييم الفني والمتخصص وعلى تفسيرها وتأويلها، حتى ولو اجرته أقوى شركة استشارية عالمية في عام 2017 وهي شركة ماكينزي المشهورة، ببساطة لأن لكل فرد وجماعة قراءتها ومعاييرها وأوزانها التقييمية الخاصة، ولأن الجميع ليس متواجداً عند نفس الموقع المعيشي وذات المزايا من الوضع الراهن. وكما أكد دايفيد هيوم، ومن قبله الامام الغزالي، فان القيم والتقييم لا يمكن اشتقاقها منطقياً من خلال الحقائق.

للتخلص من معضلة الانسان الأخلاقية وغياب حياديته وسيطرة أحكامه الشخصية ومصالحه في التقييم، ولازالة تأثير الموقع الفعلي للفردوالجماعة، يقترح البعض الاعتماد الأكبر علىاستطلاعات الرأي العام والاستفتاءات الشعبية ونهج التصويت. لكن لغايات التبسيط، سأشير الى مقترحأقل كلفة وأكثر سهولة وديمومة للفيلسوف الأمريكي “جون رولز” في نظريته للعدالة: الا وهو مقترح “الموقع الأصلي Original Position.

الموقع الأصلي هو آلية لتطوير عقد اجتماعي بين أفراد المجتمع يتفق الجميع على قواعده العامة دون ان يعلم أياً منهم أية معلومات حول: من ستكون اسرته وقبيلته وأصوله، ومهاراته وصحته وتعليمه، ووظيفته ودخله وثروته. عندها وفي ظل هذه الظروف سيتفق الجميع على الاولوية القصوى للاعتناء بأقل الناس حظاً: أفقر السكان وأقلهم صحة وتعليماًوثروة وجاهاً وسلطة، لان لكافة الأفراد احتمالاً متساوياً بأن يكون من ضمن هذه الشريحة الهشة والضعيفة والمحرومة لمدة تصل الى سبعين عاماً!

وفقاً لهذا التحليل المنطقي البسيط، فان أفضل المقيّمين للبرامج التنموية الدولية هم ليسوا خبراء ماكينزي ومجموعة بوسطن الاستشارية العالمية، وليسوا كذلك مستشاريو المؤسسات الدولية والاقليمية والوطنية (بمن فيهم البنك الدولي وشقيقه)، وليسواالنخب والمتنفذون والبيروقراطيون والاعلاميون، بلهم: الأضعف حالاً والأسوأ حظاً في أي مجتمع، مثل ذوي الاحتياجات الخاصة والفقراء المدقعين والأطفال المحرومين وكبار السن والنساء بلا معيل.

في مقالي القصير هذا، لن أتوسع في شرح أثر استدامة معدلات البطالة والفقر في مجتمعنا الذي نحب والتي وصلت حالياً الى 19% و20% على التوالي حسب آخر البيانات الرسمية ومضامينها على المشكلات الاجتماعية الحالية والمستقبليةكالطلاق والجريمة والانحراف والاغتراب والتفكك، بل سأنوه الى نتائج دراستين ميدانيتين لوضع الاطفال والمرأة في عام 2018.

المسوحات الميدانية تؤكد ان عدد الأطفال العاملين في الأردن قد تضاعف تقريباً منذ عام 2007ليتجاوز حالياً 69 ألف طفلٍ (دون ضمان اجتماعي بالطبع). دراسة حديثة أخرى أصدرها البنك الدوليهذا العام حول مساهمة المرأة في سوق العمل في الأردن أكدت أن العامل الرئيسي لعمل النساء في الأردن هو “الحاجة المالية”. إذ أجاب معظم المشاركين في الاستطلاع أن ارتفاع تكاليف المعيشة هو السبب الرئيسي في البحث عن عملللمرأة (والطفل أيضاً).

هذه هي بعض نتائج المزج بين “الليبرالية الاقتصاديةو “البيروقراطية المركزية” وبرامجها الاصلاحية الدولية في الوطن العربي. في المقابل، استطاعت ماليزيا وتركيا أن تحقق التنمية المستدامة والتشاركية دون الاعتماد المفرط على تمويل المؤسسات الدولية وعلى وصفاتها التنموية غير الملائمة.

لكن اذا فشلت كل من الأسواق والحكومات في المجتمعات المعقدة والكبيرة المعاصرة حسب رأي علم الاقتصاد درّة العلوم الاجتماعية فان السؤالان المركزيان هما: (1) ما هو الخيار التنظيمي لعلاج المشكلة الاقتصادية وتحقيق التنمية التشاركيةوالمستدامة بعيداً عن الليبرالية الفوضوية والمركزيةالمستبدة؟ و(2) كيف ندعم الأخلاق و”الخير المشتركالموضوعيكمكمل لآلية السوق الحرة والتدخل الحكومي البيروقراطي؟.

هذان السؤالان المركزيان هما ما يجب ان تركز عليه، بلا حدود، الطاقات الفكرية للامة، بما فيها المؤسسات والمراكز والجوائز البحثية العامة والخاصة وغير الربحية والدراسات الجامعية العليا،في العالم العربي خصوصاً، وبعيداً عن انكار الحقائق وبالتالي الهشاشة والحافة من جديد، وقريباً من الحوكمة التشاركية والنهضة غير التخيلية

التعليقات مغلقة.