صحيفة الكترونية اردنية شاملة

النفط والدولار والديون

من يُحلّل المديونية عليه أن يقفَ عند سببها ومصدرها، فإن كان سببها تنموياً، رأسمالياً، مرتبطاً بمشاريع، ومصدرها ديونٌ مُيَسّرةٌ وليست تجارية، فإنَّ ذلك يعني مزيداً من النمو والتنمية، وبالتالي فهي ديون قابلة للسداد، مولدة للدخل، وللوظائف، وللتنمية. أمّا إن كان سببها تغطية عجز مالي مرتبط بنفقات جارية معظمها غيرُ مبررٍ، ومصدرها قروض تجارية من بنوك محلية، أو من السوق العالمي

ليس من السهل التنبُّؤ بمنحنيات الأسعار العالمية أو منعطفات النمو الاقتصادي لأي دولة، ناهيك عن إمكانية التنبُّؤ بالحالة العامة للاقتصاد العالمي. ولعلَّ الفيْصَلَ الأساسَ في ذلك، هو أنَّ العالم اليوم يُدارُ من قِبَل السياسيين غير المؤدلجين اقتصادياً، أكثر ممَّا يُدارُ من واضعي سياسة أو صانعي قرارٍ اقتصاديٍّ أو اجتماعيٍّ.

بيد أنَّ الإرهاصات العالمية اليوم تشير إلى ثلاث حقائق أساسية مؤثرة؛ الأولى، أن أسعار النفط، ومعظم المواد الخام الأساسية من الغاز الطبيعي حتى القهوة، يتمُّ تحديدها سياسياً وليس على أسس قوى العرض والطلب التي نُعَلِّمُها في الجامعات والمدارس.

والحقيقة الثانية، أنَّ منعطفات سعر العملة، وخاصة الدولار، تشير إلى أنَّ هناك استخدام سياسي كثيف للدولار، كأداة حرب تجارية عالمية وليس كأداة تسويات مالية، أو كمخزن للقيم، أو كوسيط للتبادل.

والحقيقة الثالثة والأخيرة، أنَّ المديونية العالمية في تصاعد مستمر، وأنَّ الديون باتت أحد سُبِلِ تحريك السياسة العالمية إيجاباً أو سلباً، ولعلَّها باتت أداةً جديدة من أدوات الحرب العالمية الجديدة. في ظل المعطيات السابقة، بات على الدول أن تصنع سياساتها بشيءٍ من الدهاء السياسي، وقليل من الحصافة الاقتصادية، وبات من يمكنه أن يدفع ثمناً سياسياً، يتحدَّد بمصالح الدول العُظمَى، ينعمُ باستقرارِ عملته، وارتفاع قدرته على الاقتراض، وتَحَسُّنِ مستويات معيشته في الزمن القصير والمتوسط على الأقل.

وبعيداً عن مزيد من السياسة، وعودةً إلى ما يُهمُّنا وهو الاقتصاد الأردني، فإنَّ التوقعات العالمية تقول إنَّ أسعار النفط لن تركن إلى مستويات الخمسين دولاراً التي وصلت إليها الآن، وأنها ستتوجّه إلى ما يزيد على 65 دولاراً خلال العام 2019. وهذا يتطلّب أن تتجرّأ الحكومة، بعقد اتفاقية تحوط، للحصول على النفط بالسعر الدارج اليوم بين 50 إلى 55 دولاراً، وهو أمر سيوفّر على الحكومة، في حال صدقت التوقعات، مبلغاً ضخماً قد يصل إلى مليار دولار، وهو ما يعني تخفيفَ عبءٍ كبيرٍ عن الموازنة من جهة، وتخفيفَ الحاجة إلى استنزاف بعض الاحتياطيات، وتحسينَ وضع الميزان التجاري، ولكنَّ المُهم أن يتجرأ أحدٌ فيتخذ القرار. ولعلَّ دراسةً لتوقُّعات أسعار النفط، وتوجُّهاته، ودراسةً للوضع السياسي العالمي، تعطي جرعةً شجاعةً لصاحب القرار  للتوجُّه إلى ذلك التحوُّط دون تخوُّف.

أمّا بالنسبة للدولار، فإنَّ المعطيات على أرض الواقع تشير إلى أنَّ هناك توجهاً، منذ فترة، وليس اليوم فقط، إلى استخدامه كأداة حرب تجارية، يتمُّ من خلالها التضييق على الدول التي يتمُّ فرض عقوبات عليها، ما يجعلها غيرُ قادرةٍ على تسوية حقوقها المالية في السوق العالمي، لأنَّ كلَّ تسوية مالية عالمية تتمُّ بالدولار، ويجب أن تمرَّ من نيويورك.

وقد بدأت العديد من الدول التي تخضع للمقاطعة، أو تتوقّع المقاطعة أو تخشى منها، إلى البحث واللجوء إلى اكتناز عملات دولية أخرى، وبدأت بعض الدول الكبرى تبحث عن طرح أدوات تسوية جديدة. الصين إحدى هذه الدول التي بدأت تُفكّر، بل وتطرح آلية تسوية جديدة هي “البترو يوان” بدلاً من “البترو دولار”، أي إنها ستسعى قريباً إلى التحوُّل إلى وسيلة تسويات جديدة، خاصة أنَّ تجارتها مع معظم دول العالم ستسمح، مستقبلاً، بتسويات مباشرة دون المرور بمحطة نيويورك. الشاهد اقتصادياً، أننا بحاجة إلى التفكير استراتجياً بالموضوع، وأن نعود، نحن والعديد من دول العالم، إلى التفكير بتثبيت العملة المحلية إلى سلة عملات، بدلاً من التثبيت والربط المباشر بالدولار، ليس المطلوب اليوم، أو في الأجل القصير، أن نقوم بذلك.

فالدولار سيبقى الوسيلة الرئيسة للتسويات العالمية خلال العقد القادم على الأقل، ولكن قناعتي أنَّ ذلك لن يتخطّى ذلك العقد، أو العقد الذي يليه على أقصى تقدير، دون وجود بدائل عالمية أخرى. أمّا المديونية، فإنها معضلة القرن لشتى دول العالم التي ترزح تحت مديونية عالمية إجمالية تصل إلى نحو 250 تريليون دولار، أكثر من 75% منها مستقرة في العالم المتقدم، وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا واليابان. وفي الوقت الذي تزيد فيه المديونية على حجم الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنحو ثلاثة أضعاف، فإنَّ من يُحلّل المديونية عليه أن يقفَ عند سببها ومصدرها، فإن كان سببها تنموياً، رأسمالياً، مرتبطاً بمشاريع، ومصدرها ديونٌ مُيَسّرةٌ وليست تجارية، فإنَّ ذلك يعني مزيداً من النمو والتنمية، وبالتالي فهي ديون قابلة للسداد، مولدة للدخل، وللوظائف، وللتنمية. أمّا إن كان سببها تغطية عجز مالي مرتبط بنفقات جارية معظمها غيرُ مبررٍ، ومصدرها قروض تجارية من بنوك محلية، أو من السوق العالمي.

فهذه مديونية مُرهِقَة، يصعب سدادها بدون تدخُّلِ كفيلٍ أو دفعِ ثمنٍ سياسيٍّ أو اجتماعيٍّ، أو اقتصاديٍّ. ومن المؤسف أنَّ مديونيتنا تندرج تحت التصنيف الأخير. ومخرجنا منها، إمّا الاستعانة بكفيل، صديق، يدفعها، ويجنِّبُنا الثمن السياسي المُرَّ، وإمّا أن نفكّر خارج الصندوق، فنلجأ إلى حلول ابتكارية تؤدي إلى حقن الاقتصاد بأموال لمشاريع كُبرى يسهم فيها المستثمر الأجنبي والمحلي، ويدفع نقداً.

ومن ذلك مشاريع الطرق، والمواصلات، والطاقة، والتكنولوجيا المتطورة، وتطوير المناطق الاقتصادية المتخصصة، وسكك الحديد العابرة للمحافظات وللدول. وبغير ذلك لن نتمكّن من سداد المديونية إلا بدفع ثمنٍ لا نرغب فيه بالتأكيد. وفي الختام، فإنَّ قضية النفط، والدولار، والمديونية، لا يحلها مقالٌ، أو رأيٌ واحد، بل تحتاج إلى فريق عمل متخصص، يتحاور، ويصل إلى ورقة سياسات موضوعية، يتمُّ رفعها للحكومة، ولعلَّ الحكومة تلجأ إلى تشكيل ذلك الفريق اليوم، ولْيَكُنْ نواة مكتب اقتصادي متخصص يتبع رئيس الحكومة بشكل دائم، ولا يتغيَّر بتغيُّر أو تغيير الحكومات.

 

[email protected]

 

التعليقات مغلقة.