صحيفة الكترونية اردنية شاملة

آفاق التحفيز عبر الموازنات

لما كانت النفقات هي الثابت الوحيد في الموازنات، في حين أن الإيرادات تعتمد في الوصول إليها على تحقُّق الفرضيات التي بُنِيَتْ عليها الموازنات، فإنَّ التحليل السليم للموازنات يُحتِمُ التركيز على بنود النفقات، ما يعني التركيز على أهمية بند النفقة من جهة، والقدرة على ترشيده وضبطه والمحاسبة عليه من جهة ثانية، وعلى إمكانية تمويله ذاتياً، من جهة ثالثة.

النفقات في الموازنات ذات دلائل متعددة، ففي مجال النفقات الجارية، هناك نفقات لا مناص منها ولا مجال لتغيرها بشكل جوهري، وهنا تقع بنود الأجور العامة، والتقاعد، والمصروفات المتكررة لإدامة عمل الحكومات في مجال تقديم خدماتها الأساسية، كالتعليم والصحة والنقل وخدمات البنية التحتية بشكل عام.

بيد أنَّ هناك بنوداً في النفقات الجارية يجب وضعها ضمن آليات الترشيد، والحاكمية الرشيدة، والضبط، والمساءلة، والشعور بما تواجهه الدولة من تحديات، وهنا تأتي نفقات السفر والانتقال، والنفقات النثرية المختلفة، ونفقات تسيير العمل اليومي الإضافية، وبند النفقات الأخرى، والذي يصل أحياناً إلى نِسبٍ تفوق بنوداً عديدة في الموازنات. ثمَّ يأتي بعد ذلك كله النفقات الرأسمالية، وهي في الحقيقة نفقات هدفها الإسهام في بناء البنية التحتية للبلاد، وتحريك الاستثمار، والإسهام في تحسين البيئة الاقتصادية الكلية للدولة.

ويقع ضمن ذلك مشاريع الطرق، ومشاريع التنمية في المحافظات، ومشاريع بناء وصيانة المدارس، وبناء وصيانة المستشفيات، وبعض المشاريع الاستثمارية التي يقع على رأسها مشاريع الشراكة مع القطاع الخاص. المشكلة الدائمة في النفقات الرأسمالية، أنَّ بعض المحاسبين استطاعوا إقناع أصحاب القرار  في الدول، عبر آليات ومناهج وطرق المحاسبة والإجراءات والعمليات المحاسبية، على إخفاء جزءٍ مهمٍ من النفقات الجارية في غياهب مشروعات النفقات الرأسمالية، حتى بات بعض المشاريع يسيطر عليه بندان أساسيان؛ بند أجور ورواتب من هم محسوبون على المشاريع، بالرغم من أنَّ الكثير منهم يتم تعيينه على المشروع ويعمل في أمكان أخرى، وأحيانا لا يعمل أبداً، والبند الآخر بند السيارات، والتي تعدُّ أصولاً حقيقية في مفهوم المحاسبة، ولكنها أصول تولد نفقات جارية كبرى من وقود وسائقين وخدمات صيانة وقطع غيار وغيرها، ويقوم العديد من الجهات في شتى دول العالم النامي، بشراء السيارات على موازنة المشروعات، ثمَّ يتمُّ استخدامها خارج المشاريع، في حين تبقى نفقاتها مُحَمّلة على المشاريع. الشاهد من ذلك كله أنَّ تحليل الموازنات العامة يتطلَّب نوعاً من المراجعة الفنية والمالية الدقيقة بحيث يستطع الفرد أن يقف على حقيقة الخطة المالية القادمة للحكومات.

الموازنة القادمة في الأردن توحي بما لا يدع مجالاً للشك أنَّ هناك توجهات تنموية حقيقية يُعبّر عنها بند النفقات الرأسمالية، وهي نفقات يمكن تفصيلها ودراستها بشكل أوسع من قبل أصحاب الاختصاص بما يساعد على التحقق منها. وقد أوضحت الحكومة أنها ستعسى إلى تحقيق بنود مشروع النهضة الذي أعلنته عبر الشراكات الحقيقية مع القطاع الخاص، وفق أساليب شراكة تُحفّز القطاع الخاص إلى الدخول في مشاريع بناء المدارس، وإعادة تأهيل المستشفيات، على أساس الإيجارة طويلة الأمد.

ولعلَّ ذلك من أفضل طرق جذب القطاع الخاص المحلي والأجنبي إلى طاولة الاستثمار المشترك مع الحكومات، وهو أمر قابل للتطبيق إذا ما أُعِدَّتْ له الدراسات الواضحة حول الكلفة والعائد، وتمَّ مراقبته بشكل جيد من قبل الحكومات. ولعلَّ ضعف موارد الدولة من الإيرادات العامة، وتجاوز الخطوط المقبولة لفرض المزيد من الضرائب، يُحفّز الحكومة بشكل أكبر إلى إدخال القطاع الخاص في شراكات نوعية في مجالات البنية التحتية، وخاصة في مجال الطرق والمواصلات. هناك حاجة حقيقية لتطوير بنية الطرق وخاصة الطرق الرئيسة بين العاصمة والمحافظات، والطرق التي تربط البلاد بالدول المجاورة، ولعلَّ الحكومة تقوم بدراسة محورية حول الشراكة مع جهات عالمية لتأهيل هذه الطرق وفق معايير تحفيزية، وفترات استرداد طويلة الأمد، وعلى أساس التأجير التمويلي الممتد، وضمن رسوم مرور محددة ومقبولة تُفرض أساساً على مستخدمي الطرق من المؤسسات العامة والخاصة، وسيارات النقل العام، والعمومي، وسيارات النقل والمتنقلين بين الحدود.

وعلى صعيد آخر، فإنَّ الاستثمار في وسائل المواصلات المختلفة، من سكك حديدية خفيفة بين المحافظات، وباصات سريعة، وسكك حديدية لنقل البضائع مع الدول المجاورة، من أكثر المشاريع جذباً للمستثمر الأجنبي، وخاصة من الصين ومن روسيا، وحتى تركيا وبعض الدول الأوروبية، وهم مستثمرون جادون ولن يوقعونا في دوامة الفترات والمسؤوليات التي أوصلت مشروع الباص السريع في عمان إلى ما وصل إليه، حتى بات لدى البعض حلمٌ وطُرفةٌ في آن واحد. الموازنة لا تستطيع أن تغطي كلَّ ما تحتاج إليه الدولة من مشاريع تحفيزية، ولذلك فهي سبيل واحد نحو تحفيز الاقتصاد، ولا بدَّ أن تتبعها خطة تحفيزية حقيقية، ذات معايير قياس محددة، وسبل تمويل واضحة، ومُحَفِّزات واضحة تجذب القطاع الخاص المحلي والأجنبي وتفتح شهيتهما نحو الاستثمار الجاد والمُجدي.

التعليقات مغلقة.