صحيفة الكترونية اردنية شاملة

 الأردنيون ملّوا الحوارات لأنها أصبحت لعبة مملة

مرّ ما يكفي من فصول الحوار بين الدولة وحكوماتها من جهة، وبين المواطنين وقوى المجتمع المختلفة من جهة، والى حد يمكن معه القول، بان الدولة تعرف تماما، ان أرادت ان تعرف، ما يريده الأردنيون منها ان تفعل

إذا ما ذهبت الى المكتبة الوطنية وقلّبت أرشيف الصحافة الاردنية خلال العقدين الأخيرين ستجد أكواما من البيانات والمقالات والتصريحات الرسمية والحزبية والإعلامية التي تدعو للحوار بين الحكومات وبين قوى المجتمع المدني بأطيافه وألوانه.. مئات الندوات والشعارات نادت بالحوار من اجل إصلاح سياسي شامل يقود الى ديموقراطية حقيقية، وفصل بين السلطات، ومحاسبة ومراقبة تقطع دابر الفساد والفاسدين وتحقق لأبناء هذا الوطن تنمية سياسية واجتماعية واقتصادية تبني أعمدة دولة قوية ورجال حكم أقوياء.

لم تثمر هذه الحوارات بشيء من هذا كله ولو تصفحت إعداد صحيفة العرب اليوم في الارشيف (على سبيل المثال) من عام ١٩٩٧ الى ان أغلقت أبوابها لوجدت ان المجتمع، بنخبه وإعلامه وأحزابه وقواه الشعبية، يطالب منذ عقود بنفس الشعارات التي تسمعها اليوم على الدوار الرابع وفي المحافظات.

بالمقابل ستجد ان القاسم المشترك الذي لم يتغير ويتبدل رغم مرور هذه السنوات الطويلة، هو ان الدعوة للحوار كانت أيضاً، تخرج عن الحكومات والنواب في كل مرة أثيرت بها قضية أشغلت الأردنيين وقلبت أحوالهم ومزاجهم العام، أما النتيجة لكل هذه الدعوات والحوارات، فكانت واحده، وهي (لا شيء،) والسبب غياب الإرادة الرسمية في التغيير. بل انه وفي كل حوار جرى، كانت الحكومات تسعى الى إقناع الأردنيين بان قراراتها وقوانينها وسياساتها هي الأفضل والأصوب من منطلق القاعدة السياسية السائدة (دعهم يقولون ما يشاءون ونحن نفعل ما نشاء).

اليوم، بلغت لعبة الحوار مداها، أصبحت مملة لا تقنع أحدا هنا في العاصمة، ولا في أي مكان بالمحافظات، والمسألة لا تحتاج الى بحث وتدقيق، فما جرى للوفود الوزارية التي ذهبت الى الشمال والجنوب والوسط كانت رسالة حاسمة قاطعة بان الأردنيين لا يريدون إضاعة الوقت على (قلتو وقلنا) ما يريدونه، تغيير النهج جملة وتفصيلا.

لو ان الأردنيين يلمسون تغييرا في النهج يصاحب ما تسمعه آذانهم من تطمينات ووعود، لدخلت السكينة الى قلوبهم وأعطوا هذه الحكومة الفرصة التي تريدها. والسؤال: ما هو النهج السابق والقائم الذي تطالب القوى الشعبية والسياسية بتغييره؟

وما هو النهج المطلوب الذي يعيد الثقة بين أهل الحكم وبين الشارع؟

اختلفت وتختلف التوصيفات والاجتهادات في ماهية النهج الراهن في إدارة شؤون البلاد وفِي النهج المطلوب شعبياً ليحل محاله. وهنا اكتفي بتقديم وجهة نظري الخاصة في المسألتين وهي:

١- في توصيف النهج القائم: أرى انه بدأ بعد استقالة حكومة عون الخصاونة في عام ٢٠١٢ ولا يزال مستمراً حتى اليوم، وقد انطلق من قاعدة (رفض مخرجات لجنة الحوار الوطني للإصلاح السياسي التي شكلت قبل ٧ سنوات بإرادة ملكية، برئاسة طاهر المصري وفِي ذروة مظاهرات الربيع الأردني،) كان أهم قراراتها عصرنة ودمقرطة قانون الانتخابات. لقد حسمت الدولة آنذاك أمرها برفض تغيير نهج السنوات العشرة الأولى من هذا القرن، وتمسكت بالصوت الواحد، فأدارت بذلك ظهرها للمطالَب الشعبية بالإصلاح التي رُفعت شعاراتها في الربيع الأردني.

ومنذ حكومة عبد الله النسور سارت الدولة على نهج تحميل الشعب كلفة السياسات المالية والاقتصادية الباهظة بين عامي ٢٠٠٢و٢٠٠٨ (الخصخصة المنفلتة من أي رقابة، برنامج التحول الاقتصادي والاجتماعي، بيع الشركات الكبرى، تجريد الاقتصاد الوطني من موارده الأساسية، صفقات الفساد)، وفعلت ذلك تحت شعارات (الإصلاح السياسي والاقتصادي) التي تتناقض تماما مع مطالب التغيير الشعبية ومع قرارات لجنة الحوار الوطني. وتدرجت في خطواتها لتنفيذه ضاربة عرض الحائط بالانتقادات الواسعة… منذ عام ٢٠١٢ قام هذا النهج الحكومي على قاعدة تحميل الأردنيين تكلفة قرارات الليبرالية المتوحشة في بداية القرن وتكلفة الفساد والمديونية.

اهم مرتكزات هذا المسار كانت: التعديلات الدستورية، قرارات زيادات الضرائب ورفع الدعم عن مختلف السلع والخدمات، بدون أي اعتبار للكلفة الاجتماعية والمعيشية الباهظة التي نزلت على الطبقتين الوسطى والفقيرة، واعتبرت الدولة ان انتخابات اللامركزية هي نهاية مطاف الإصلاح وخاتمته، أي النقطة الأخيرة على السطر في مسيرة نهجها. ولقد سمعت مسؤولا يتساءل قائلا (عن أي إصلاح تتحدثون، الإصلاح تم، وانتهت خطواته باللامركزية.)

(من المتناقضات الصارخة في مسألة هذا النهج انه تزامن، في جميع مراحله، مع نشر جلالة الملك أوراقه النقاشية خلال السنوات الأخيرة، وكأن الحكومات كانت تقرأ ما في هذه الأوراق من أفكار حول الديموقراطية والحريات والتنمية ليس من اجل إدارة حوار وطني منتج لتنفيذ ما فيها، إنما لتجنب تطبيقها والحرص على إقرار السياسات النقيضة لها!!!). 

٢- وفِي توصيف النهج المطلوب شعبيا، من فئات سياسية واجتماعية واسعة، انه يقوم على قاعدة القناعة بان النهج القائم ثبت فشله سياسيا واقتصاديا وماليا واجتماعيا، وانه المسؤول عما تمر به البلاد من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية.

لقد أصبحت المسائل واضحة إذا ما أريد إخراج البلد من أزماته الراهنة، المركبة، وهي في نظري تبدأ:

–  باعتراف رسمي بفشل النهج القائم.

– الإعلان عن خطة رسمية متكاملة الجوانب، تتبنى نهجاً جديدا، بمعالم سياسية واقتصادية واجتماعية وإعلامية واضحة..  وهنا أقول: يكفي ان تتبنى   الدولة والحكومة نهجا، يستند الى العمل على تنفيذ نصف ما ورد في الأوراق النقاشية الملكية على الأقل، فمن شأن ذلك ان حدث، فتح مسار جديد يقود الى إصلاح حقيقي في جميع السلطات، يعيد للشعب دوره بالمشاركة في مصيره الوطني.

ان جوهر حالة انعدام الثقة بين الحكومة والمواطنين ليس مصدره فقط، تسونامي الضرائب والمديونية، إنما الشعور العام السائد والمتزايد بان القرارات العامة محتكرة من قبل نخبة انسلخت عن المجتمع وباتت في مواجهته.

باختصار: الأردنيون ملّوا الحوارات غير المجدية، وأكثر، لقد أصبحت لعبة مملة. بالمقابل لقد مرّ ما يكفي من فصول الحوار بين الدولة وحكوماتها من جهة، وبين المواطنين وقوى المجتمع المختلفة من جهة، والى حد يمكن معه القول، بان الدولة تعرف تماما، ان أرادت ان تعرف، ما يريده الأردنيون منها ان تفعله، وتعرف تماماً ماهية القرارات والسياسات المطلوبة، الكفيلة بوضع نهج جديد يغير الاتجاه ويسير بالبلاد نحو حالة وطنية تنهي الانهيارات الحاصلة في الثقة وحتى في الولاء بين الأردنيين وبين دولتهم ونظامهم.

التعليقات مغلقة.