صحيفة الكترونية اردنية شاملة

أزمة السير بين عقلانية الفرد وعقلانية المجتمع

لا نحتاج الى هيئة لتنظيم قطاع النقل الالكتروني، ولا نحتاج لاستراتيجية نقل عام توضع على رفوف المكتبات الخالية، بل نحتاج الى وزير نقل يسوق سيارته الخاصة القديمة -يومياً- في شوارع عمان الشرقية والغربية ليوصل اولاده الى مدارسهم وليذهب الى عمله صباحاً

من يسوق مركبته الشخصية يومياً في شوارع عمان، الرئيسية أو الفرعية، خلال السنوات العشرة الماضية، يدرك ان القدرة الاستيعابية والتنظيمية للشوارع والبنية التحتية قد بلغت حالياً أقصى طاقاتها أو شارفت.

وفي ضوء هذه الحقيقة المعيشية اليومية، وفي ضوء ارتفاع أسعار الطاقة محلياً رغم تراجعها دولياً، وفي ضوء تدني نوعية خدمات صيانة وادامة السيارات،ونظراً لزيادة تكاليف الحوادث المرورية (انظر مقال سابق للكاتب: حوادث السير في عام 2016: المشكلةوالحل)، ونظراً لارتفاع وتائر المخالفات وكلف الترخيص والتأمين السنوية، يعتبر قرار الفرد باقتناءمركبة شخصية وقرار العائلة بشراء سيارة خاصةاضافية، بالاقتراض أو نقداً، قرار “غير عقلاني من عدة اعتبارات. فهو قرار يضيف الى المعاناة الفرديةمتعددة الأبعاد ويضيف الى الأزمة المرورية الجماعيةعبئاً وكلفة نفسية وتنظيمية.

لكن ما يحصل هو عكس ذلك، اذ أصبح عدد المركبات العاملة في الاردن 1.5 مليون مركبة في مجتمع 45% من سكانه من الأطفال الذين يقل أعمارهم عن 19 عام، وبزيادة سنوية نسبتها 6.5% تقريباً (حسب دراسة لمنتدى الاستراتيجيات الاردني) أي ما يفوق ضعفي ونصف معدل النمو السكاني البالغ حالياً 2.5%.

قرار الفرد بشراء سيارة خاصة يجد تسويغاً قوياًمن منظور ذاتي وقصير الأجل، اذا لا بديل (ملائم)عن مركبة خاصة في كثير من الحالات، خصوصاً للاناث، سواء من حيث التوفر أو التكلفة أو النوعية.

فاذا ما عدنا إلى الدافع الذي يواجهه الفرد أمام غياب خيارات عامة وملائمة للنقل والذي لخصهفريد هيرش في كتابه “القيود الاجتماعية للنمو الاقتصادي” كما يلي:

“لماذا أتبنى (أنا) المعايير الأخلاقية المفيدة للنظام ]الليبرالي[، اذا لم يكن بالامكان جعل هذا النظام صالحاً بالنسبة لي على اساس المعايير الأخلاقية؟ صحيح انه يقال ان النظام عندئذ يعمل بنجاح بالنسبة للبشر ككل، بالمقارنة مع البدائل، لكني لست البشر ككل، فانا لست سوى نفسي” (Hirsch, 2005).

هذا الدافع يُظهر احدى ازمات النظام الليبرالي، الذي يفترض خطأً استقلال أو انسجام مصالح الأفراد، ويظهر لنا ان السعي المنفرد للمصلحة الذاتية سوف لن يؤدي إلى زيادة المصلحة الجماعية، بل سيؤثر بها سلبياً وبما ينعكس في النهاية على مصلحة الفرد. فما هو صالح للفرد قد يكون طالح للمجتمع والفرد معاً!.

لقد استطاع علم الاقتصاد بالتعاون مع غيره من التخصصات الاجتماعية الحديثة ومن أبرزها نظرية المباريات Game Theory تحديد العديد من الأوضاع الاجتماعية التي تتسم بتناقض واضح بين عقلانية الفرد وبين العقلانية المجتمعية، في اطار نموذج معروف يسمى نموذج معضلة السجناء Prisoners’ Dilemma Model.

هذا التناقض بين العقلانية الفردية والعقلانية الجماعية يبرز احد عيوب الليبرالية الاجتماعية، ويؤكد الحاجة الماسة، ليس الى مزيد من التقييدات والغرامات، بل الى حلول نقل عام ملحة وعاجلة ولا تنتظر التجربة والخطأ.

خيارات أخرى مكملة تتلخص في: ارساء ثقافة الشراكة الأخلاقية في المركبات Car Sharing دون قيود تنظيمية غير مبررة، وتنفيذ مشاريع السكك الحديدية الوطنية وبتمويل يعتمد نهج الشراكة بين القطاعين العام الخاص، وتعزيز البنية التحتية وثقافة استخدام الدراجات الهوائية كخيار يصب أيضاً في استراتيجية الصحة الوقائية في الاردن، وتسريع العمل ببرامج ومشاريع النقل العام (مثال: الباص غير السريع!) على أسس “الموازنة الموجهة بالنتائج”.

وباختصار، لا نحتاج الى هيئة لتنظيم قطاع النقل الالكتروني، ولا نحتاج لاستراتيجية نقل عام توضع على رفوف المكتبات الخالية، بل نحتاج الى وزير نقليسوق سيارته الخاصة القديمة يومياً في شوارع عمان الشرقية والغربية ليوصل اولاده الى مدارسهم وليذهب الى عمله صباحاً.

[email protected]

التعليقات مغلقة.