صحيفة الكترونية اردنية شاملة

اللامركزية والتفكير خارج الصندوق

قد يستغرب البعض أن نسمع أنَّ مبادرة لتشغيل الشباب عبر سيارات طعام متحركة، “فود تركس” كما يسمّونها، تحوَّلت من تصنيفها كفكرة خارج الصندوق لتوظيف الشباب، إلى فرصة استثمارية حَصل عليها مَن زاوَدَ بمبلغ لا يستطيع أيُّ شاب أن يجمعه. فكرة سيارات الطعام “فود تركس” التي طرحتها الأمانة، رُوِّجَ لها كفرص لتشغيل الشباب، وانتهت إلى مصدر دخل للأمانة بما يقرب من نصف مليون دينار، عبر بيع نحو 35 موقع، والحصول على ما يزيد على 800 مُزاوِد، أكثر من نصفهم من الأفراد.

وعلينا الاعتراف هنا بأنَّ المشكلة ليست في الأمانة وإجراءاتها، وإنما في الترويج للفكرة ذاتها على أنها إحدى مبادرات تشغيل الشباب، ضمن المشاريع الصغيرة والمتوسطة، في الوقت الذي وصلت فيه المزاودة على أحد المواقع إلى نحو 35 ألف دينار، أي ما يوازي كلفة إنشاء وبناء وتشغيل مصنع صغير للطوب، أو للمخللات، أو للتغليف، أو حتى للصناعات اليدوية المختلفة، في أي من بلديات المملكة. وبين الصندوق والتفكير خارج الصندوق يحتار المرء أين هو الصندوق أصلاً. والصندوق إن كان يعني هنا دور مؤسَّسات الحكم المحلي في توليد الوظائف، فإنَّ الإجراء أخرج الصندوق عن مساره، في حين إنه إن كان يعني كيف نُحَصِّل أكبر قدر من العائد للبلدية من مشروع لا يُكلف شيئاً، فقد حققت الفكرة أكبر ممّا استهدفت، وبالتالي أصبحت فكرة خارج الصندوق؛ لأنها أوجدت مورد دخل مستدام للبلدية بعيداً عن الموارد التقليدية المعتادة. والشاهد من الحالتين أنَّ على من يتخذ قراراً بتنفيذ أمرٍ ما، فإنَّ عليه أولاً أن يحدِّد أبعاد الصندوق الذي يريد أن يعمل فيه. فإن كان الهدف من مثل هذه المبادرة، مثلاً، إيجاد فرص عمل للشباب، فإنَّ الأمر في الحكم على النجاح سيختلف تماماً عند المقارنة مع هدف آخر يتعلَّق بتحقيق دخل سهل الوصول إليه وغير تقليدي.

معيار النجاح مختلف، وإجراءات التنفيذ ستختلف حتماً. التفكير خارج الصندوق في حال وحدات الحكم المحلي، وتحديداً البلديات، في موضوع إيجاد وظائف لأبناء المناطق التي تقع ضمن فضائهم الجغرافي أمرٌ ذو أهمية قصوى، بل هو ضمن المهام الأساسية لمفهوم اللامركزية، بيد أنَّ ذلك يتطلَّب أن تقوم البلديات، عبر تفويض وصلاحيات كبيرة، بوضع خارطة استثمارية خاصة بالمناطق، وأن تضمن الإجراءات التي تجذب المستثمر الوطني والخارجي للتفكير بالاستثمار في المنطقة، وتوفِّر سبل قيام الشباب من الجنسين بإطلاق مشاريع خاصة بهم، عبر توفير حاضنات أعمال مجانية، أو برسوم رمزية لأبناء المنطقة.

البلديات يجب أن تُعامل كمناطق تنموية تستطيع أن تضع إجراءات، وتُقدِّم إعفاءات مدروسة، وتتمكَّن من القيام بمشاريع شراكة مع القطاع الخاص بشكل يكفل تحقيق أهداف التنمية في كلٍّ منها. الوصاية على البلديات وعلى القائمين عليها، يجب أن تكون من قِبَل جمهور الناخبين الذين يعيدون انتخاب من سينجح في خدمة المنطقة وخدمة أهدافها، وسيحجبون الثقة عن كلِّ من يُسيء استخدام المال العام. وتبقى الرقابة المركزية من الحكومة عبر أدوات الشفافية، والنزاهة، وقواعد الحاكمية الرشيدة، التي يجب أن يضعها المُشَرِّع ضمن قوانين الحكم المحلي، بما يسمح بعدم التجاوز، وعدم إجراء المنافع والتعيينات غير الشفافة، ويمنع الفساد في العمل، ويحاسب بشدة على التجاوزات مهما كانت. البلديات هي محور عمل الاقتصاد، وهي أساس تنشيط الدورة الاقتصادية، والصندوق الذي يجب أن تعمل ضمن إطاره هو الدور التنموي للبلدية، والدور الاقتصادي الاجتماعي، الذي يحقِّق التنمية للمقيمين في مناطق البلديات عبر الوظائف، والاستثمارات المشتركة، والفردية، وعبر العمل المجتمعي الذي يكافح جيوب الفقر، ويُحدد المحتاجين الحقيقيين، ويقدِّم الدعم الممكن، ويتعاون مع الحكومة المركزية في مكافحة الفقر وحالات العوز.

صندوق التفكير في العمل في البلديات صندوق اقتصادي اجتماعي تنموي بالدرجة الأولى، والعمل داخله يعني على الأقل تحقيق أهداف اقتصادية تنموية للقاطنين في تلك المناطق، والتفكير خارجه يعني تحقيق أهداف أبعد بكثير عمّا هو مأمول، والخروج بمبادرات مبتكرة في العمل البلدي. نحن لسنا أوَّل من أنشأ بلديات، فهناك حول العالم مفهوم متقدم في اللامركزية ودورها التنموي الاجتماعي الاقتصادي. علينا أن نعمد إلى دراسة ذلك، لنطوعه لفائدتنا، وبما يتواءم مع متطلباتنا، ومن ثمَّ نحدِّد الصندوق الذي يجب أن تعمل داخله مؤسَّسات اللامركزية، وبعدها نقرِّر كيف يمكن أن نخرج خار ج الصندوق، أو كيف نفكِّر خارج الإطار التقليدي.

التعليقات مغلقة.