صحيفة الكترونية اردنية شاملة

في أولوية مراجعة دور السلطة والفصائل الفلسطينية.. بقلم باسم عثمان

تجديد الروح الوطنية والكفاحية للشباب الفلسطيني ومقارعته المحتل الإسرائيلي تُقابله حالة التردّي والانغلاق في بنية النظام السياسي الفلسطيني الرسمي، والبنية التنظيمية والبرنامجية للفصائل الفلسطينية بمشاربها الأيديولوجية والسياسية كافة. يشير إلى ذلك مقدار التحولات الداخلية السلبية التي حدثت في بنية السلطة الوطنية الفلسطينية، فالصراع على المناصب جعل السلطة مغيبة للكفاءات الوطنية والشبابية، خصوصا تقويض أسس العمل الجماعي التوافقي والوطني، مع ضعف الأداء السياسي والمجتمعي. وخيّب فشل كل برامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية منها آمال الفلسطينيين، وأفقدهم الثقة بقيادتهم الرسمية والفصائلية، حيث وصل التدمير الذاتي للمشروع الوطني الفلسطيني إلى ذروته، باستبدال مركزية الصراع مع الاحتلال ومشاريعه التهويدية إلى الصراع مع الذات الفلسطينية على “كعكة السلطة” تحت الاحتلال.

حالة الانقسام “السلطوية” وضعف بنية الفصائل والقوى السياسية الفلسطينية، وانحسار فعاليتها الجماهيرية، و”تسييس” مؤسسات منظمة التحرير والسلطة الوطنية القائمة، والغموض في المواقف السياسية الانتظارية والتسويفية الاستعراضية، أدى ذلك إلى الاغتراب السياسي والاجتماعي للجمهور الفلسطيني عن قضيته وحالته الوطنية، في ظل غياب الرؤية الوطنية الجامعة، وأدوات استنهاضه.

آليات التغيير وأدواتها وقواها في المجتمعات متغيرة ومختلفة، تبعا لظروفها الموضوعية والذاتية. لهذا، لا يمكن التعاطي معها وتعميمها كجملة واحدة “وصفة سحرية جاهزة”، ففي الحالة الفلسطينية، هناك ضرورة لقراءة الواقع والذات قراءة عميقة، لاستنباطها وتفعيلها، حيث يتداخل فيها الوطني والحياتي الخدماتي والتوزع الديمغرافي والجغرافي للفلسطينيين، في ظل تجمعات فلسطينية مختلفة الظروف والاحتياجات، ويجمعها فقط الهم الوطني العام إلى جانب تداخل التأثيرات الإقليمية والدولية على الواقع الفلسطيني.

أضف الى ذلك المحدّد لمصدر الشرعيات الوطنية والاجتماعية الفلسطينية، تاريخيا، شكل البعد الكفاحي والنضالي التحرّري أهم مصادر الشرعية الفلسطينية، مع الأخذ بالاعتبار أخيرا ارتفاع وتيرة تأثير البعد الحياتي والمعيشي الاقتصادي للتجمعات الفلسطينية على حساب البعد والهم الوطني العام. وهذا ما جعل التجمعات الفلسطينية تتطلع إلى ما يؤثر في مسار ظروفها المعيشية، ما أضعف، إلى حد كبير، من تأثير النخب القيادية الوطنية، والتي استمدت شرعيتها من البعد النضالي، لصالح شرعيات محلية أخرى، تؤثر في البعد المعيشي والحياتي والاقتصادي للناس.

في ظل هذا الوضع، تآكلت، إلى حد كبير، شرعيات الفصائل الفلسطينية القائمة على البعد النضالي. وبدا ذلك واضحا في انحسار الهالة القدسية لقوى اليسار الفلسطيني ومفاعيلها داخل المجتمع الفلسطيني. أما طرفا السلطة الفلسطينية الجغرافية، حركتا فتح وحماس، فالوضع مختلف كليا. حركة فتح هي تنظيم السلطة الحاكمة أو سلطة التنظيم الحاكم الذي ارتبط به جمهور واسع من الشعب الفلسطيني مصلحيا ومعيشيا وأمنيا، من خلال الوظائف السلطوية والخدمات وتهديد الحريات، وما إلى ذلك، على غرار ما تمثله السلطة الحمساوية في قطاع غزة. لذلك، لم تعد شرعية هذين الفصيلين (حركتا فتح وحماس)، كسلطة وطنية، تستمد من الشرعية النضالية أو البعد الوطني، وإنما شرعيات مصلحة ونظم أمنية واستخدام مسوغات وشعارات وطنية استعراضية.

الرؤية الوطنية الجامعة والبعد الكفاحي سيبقيان ما بقيت قضية التحرّر الوطني، وكمعطى أساسي لأي عملية تغيير في الحالة الفلسطينية. ولا يمكن لأي قوة سياسية، أو اجتماعية، أن تتجاوز هذا المعطى، وأن تحقق تقدما في التغيير والشرعية في الحالة الفلسطينية، إذا أسقطت من أجندتها ورؤيتها السياسية شعار وحدة الحقوق الفلسطينية ترجمة عملية ووطنية وأخلاقية على وحدة القضية الوطنية الفلسطينية جملة وتفصيلا. وهذا المعطى، أي البعد الوطني، قد يكون أهم عامل محبط للتغيير في الوقت نفسه، لأن بعض القوى الفلسطينية السائدة قد تتمسّك بهذا المعطى استعراضيا وإعلاميا، لترمي قوى التغيير المفترضة (فلسطينيا) بتهم تمسّ تمسكهم بالبعد الوطني الجامع، والذي لا يتوافق، برأيهم، مع “واقع المتغيرات الإقليمية والدولية”، بهدف الإبقاء على قيادتها وشرعيتها وسلطتها للحالة الفلسطينية.

وفي المحصلة، هناك ضرورة ملحة لرؤية وطنية جامعة، تتجاوز خصوصية الجغرافيا الفلسطينية برنامجيا وآليات عمل خاصة، وتوحدها على اختلاف خصوصيتها وطنيا، من خلال وحدة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، تكريسا وتجسيدا لوحدة القضية الوطنية الفلسطينية. وبدون ذلك، لن يستجيب الشعب الفلسطيني لاستراتيجيات التغيير المطروحة، والتي تتجاوز حجر الأساس لكل تغيير شرعي فلسطيني قادم (وحدة القضية من خلال وحدة حقوقها).

ولم تعد تنطلي على الشعب الفلسطيني الأفكار والبرامج الشعبوية، وكذلك القوالب الأيديولوجية، فقد سادت منظومة قيم قائمة على المكاسب الفردية والاستئثار والهيمنة، وصولا إلى الفساد الإداري والمالي، وأصبحت هذه القيم تحكم سلوكيات الأغلبية من النخب القيادية الفلسطينية. وأكثر من ذلك إدراك الاحتلال ذلك جيدا، فاستخدم هذا الوضع ووظفه بطريقة أو بأخرى، للتأثير على التوجهات السياسية، و”ردة الفعل” لتلك النخب في مركز القرار الفلسطيني و”مطبخه السياسي”.

امتلاك الوعي الكافي لإحداث التغيير لا يحقق التغيير، على الرغم من أهمية هذا الوعي، ومن دون أن يقترن هذا الوعي بالإرادة والاستعداد لدفع الثمن الذي يستلزمه هذا العمل، سيبقى  الوعي بالتغيير ترفا فكريا لا أكثر ولا أقل، وهذا حال كل الفصائل الفلسطينية. “إسرائيل” هي المتضرّر الأول من أي تغيير في البنية والفكر السياسي الفلسطينيين، حيث وصلت الحالة الفلسطينية، سياسيا وتنظيميا، إلى مستوىً من الانغلاق والتأزم، بما يحقق المصالح الإسرائيلية. وتسارع وتيرة التهويد والاستيطان غير المسبوق، من دون ردات فعل من الكيانات الرسمية الفلسطينية، سياسية أو ميدانية، أكبر دليل. ولهذا سيكون العاملان، الإسرائيلي والأميركي، حاضرين في كبح أي تغيير مرتقب في الحالة الفلسطينية الراهنة. والتغيير السياسي حتمي، عندما يصبح ضرورة اجتماعية، اختمرت الظروف لتحقيقها، أما الأدوات فإن القوى المستفيدة من التغيير حتما ستبدعها. ولذلك، لا بد للفلسطينيين من الانتقال، وبإرادة سياسية ووطنية عالية، إلى مرحلة جديدة ونوعية، مرحلة ما بعد “أوسلو”، بعد طي استحقاقاته، وأن يحتكموا إلى قوة الجمهور الفلسطيني وإرادته السياسية، أولا وأخيرا.

الفلسطينيون أحوج ما يكونون للقيام بمراجعة نقدية وطنية شاملة لكل السياسات والبرامج والتحالفات الداخلية والخارجية، والضغط على “طرفي نكبة فلسطين الثانية”، من الانقساميين والانتهازيين، للعودة إلى رشدهم الوطني، وتغليب مصلحة القضية الوطنية وحقوقها على أجنداتهم الليبرالية والسلطوية الفئوية، ونحو تغيير جذري في وظيفة السلطة وبنيتها وأدائها، وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير ودمقرطة مؤسساتها، وإبراز حالتها الجديدة في تعاملها مع متطلبات الوضع الجديد وترتيباته، وروافع الاستنهاض الجماهيري والمجتمعي والمدني، تمهيدا للانتقال إلى دولة فلسطين تحت الاحتلال، وبما يضمن الحفاظ على مكتسباتنا السياسية والوطنية الناجزة، والتجديد في طبيعة الخطاب السياسي وأدواته، والإقلاع عن “سيمفونية” التوصيفات السياسية الجاهزة والمتكرّرة، وسياسة “اللطم والعويل” على مرارة الوضع الراهن، وما آلت إليه القضية والحالة الفلسطينية، وإبراز الهوية الوطنية الفلسطينية في مرحلتها الراهنة، باعتبارها مرحلة تحرّر وطني، وإبراز وحدة قضية هذه الهوية من خلال وحدة الحقوق الفلسطينية.

المراجعة النقدية الشاملة للحالة الفلسطينية وأدواتها هي تجديد وإغناء لها. وبغض النظر، أكان  هذا التغييرُ نتاجًا لمراجعةٍ فكريّة، أمْ نتاجًا لهزيمةٍ سياسية أو انهيار معنويّ، وما هي حقيقته وأسبابه، الأهم هي نتائجه، خصوصا إذا طاول هذا التغيير الحالة الفلسطينية بالذات، والموقف من المستعمر وسياساته، واستعاد أبجديات المشروع الوطني الفلسطيني وأولوياته في الكفاح المشروع ضد الاحتلال ومستعمريه.

الحدّ الفاصل بين المراجعة النقدية الموضوعية والذاتية البناءة والضرورية لمسيرة العمل والتجربة النضالية من جهة، والاستسلام المطلق للانتكاسات السياسية والانبطاح أمامها هو القراءة الجيدة للواقع ومفرزاته، وبالتوافق مع الإمكانات والطاقات الذاتية الحاضرة. ما يعني التجديد البرنامجي، وبما يحافظ على الثوابت الأساسية وليس التفريط بها.

لا حلّ وسطيًّا، على المستويات، الثقافيّ والنظريّ والأيديولوجي، بين المبدئية زمنَ الانتكاسات والانبطاحية زمنَ الهزيمة. الثبات والاستسلام لا يلتقيان. وبالاتفاق مع رأي لينين: المثقفون “هم أكثرُ الناس قدرةً على الخيانة لأنّهم أكثرُهم قدرةً على تبريرها”، لأنهم يهرولون نحو الامتيازات والألقاب على حساب مواقفهم المبدئيّة.

نقلا عن “العربي الجديد”

التعليقات مغلقة.