صحيفة الكترونية اردنية شاملة

تكنوقراط

نحن دولة عريقة بلغت من العمر قرناً من الزّمان ، إختبرت من النماذج ما يؤهّلها اليوم لرسم الخطّ السّياسيّ الأكثر موائمة لمتطلباتها ومراعاة لمكانتها

فُتِنّا بهذا المصطلح الذي ظهر في دولنا منذ أعوام رغم قِدَمه لدى الدول المتقدّمة ، وإستبشرنا الخيرات بحكومات الكفاءات على أمل أن نغادر التقسيمات الجغرافيّة ومربّع العلاقات الشخصيّة لدى التشكيل .

وفي الحقيقة ، لم تؤتي الفكرة أكلها بل تعمّقت الفجوة بين الشارع والحكومة وسيطرت فكرة الوظيفة على المنصب الوزاريّ الذي يفترض فيه وأن يكون سياسيّاً ، وبات المواطن لا يعرف وزراءه في كثيرٍ من الأحيان ولا يقتنع بطرح عدد ممن يعرفهم ويستمع إليهم ، وإختلط في كثير من الأحوال خطاب وأداء الوزير بذلك الصادر عن الأمين العامّ أو حتّى مسؤولي الوزارة .

فمع كامل الإحترام لكل الكفاءات التي شغلت وتشغل المنصب الوزاريّ ، نلمس في كثيرٍ من الأحيان جموداً وعدم قدرة على إيصال المعلومة لا بل الإنكفاء عن مواجهة الجمهور والكثير من اللّغط في تأويل وتفسير التصريحات الفضفاضة أو العفويّة ، فالوزراء من أصحاب الخلفية السّياسية أكثر قدرة على التعاطي مع الإعلام ومعايرة التصريحات بعيداً عن الضبابية والجدل والتأويل أو التّسرُع ، كما أنهم أكثر قدرة على التواصل مع الجمهور ونوّاب الشّعب وهم الأقرب إلى الشّارع بما يتمتّعون به من خبرات في تطبيق قواعد الإشتباك الإيجابيّ والمدّ والجزر .

كلّ ذلك وأكثر من السّلبيّات والفروقات يُرَدُّ إلى ضعف الأفق الإستراتيجيّ و نقص الخبرة في التعامل مع الشارع والإعلام وعدم إدراك التكنوقراطيّين لأهميّة القناعة التي يجب وأن تتولّد لدى الجموع بالسياسات الحكوميّة والتي تؤدي بالمحصّلة إلى تقوية عصب الثّقة المفقود .

فالسياسيُّ قارئٌ ومتابعٌ بصرف النظر عن تخصصه ودرجته العلميّة ، إستفاد من تجارب أسلافه في الوطن وخارجه فتشكّلت لديه قدرات ذاتيّة كالتحليل العميق وإستشراف المستقبل وإستثمار الوقت في مراقبة الأداء وتوزيع الصلاحيّات دون غرق في التفصيلات الفنيّة وجرأة في إتّخاذ القرار ومقدرةً على الدفاع عن الفكرة وسَوق الأدلّة على صوابيّتها والتراجع عنها بمرونة وذكاء عند خطئها ولا تستشعر الحرج من تقديم من هم دونها للغوص في الجزئيات الفنية وشرحها ، وتتميّز هذه الفئة المُطَّلعة المستفيدة من تجارب غيرها بإنفتاحها أكثر من القوى السياسيّة المؤدلجة المحكومة بفكرٍ عقائديٍّ مُغلَق والمُحتكمة لقراراتٍ مرجعيّةٍ مركزيّة تُدار من الدّاخل أو الخارج بما لا يراعي الخصوصيّة الوطنيّة في العديد من الظّروف .

إنّ إمتلاك تلك الفئة السّياسيّة لا المُسيّسة إلى النّظرة الإستراتيجيّة المُمكِّنة لها من المفاضلة بين السّيناريوهات والرزانة والثّقة في الطّرح حفظ لها الهالة المميّزة لرجل الدّولة وبالتالي هيبة الدّولة ، وقد تكون تلك النّظرة هي أرضيّة وأساس تقبّل المواطن للطروحات والرّؤى وحُسن إستقباله لها ، فالمواطن ينتظر في تشكيل الحكومة إختيار بضعة عشرات من الشّخصيّات الوطنيّة التي تمثّل في نظره النّخبة المؤهّلة لقيادة المشهد وتحمُّل أمانة المسؤوليّة .

لسنا ننكر على كلّ من يبذل الجهد في سبيل الوطن جهده وإجتهاده ، لكنّ النتائج أثبتت أن المحافظين كانوا أكثر قدرة على المزاوجة بين المرونة والحزم من نظرائهم التكنوقراطيين وهذا ما دفع بالعديد من الدول المتقدّمة لمغادرة مربّع التكنوقراط والعودة إلى الأسس السياسيّة لدى التّوزير ، وقد تكون الحالة الداخليّة اليوم بحاجة إلى شخصيّاتٍ تمثّل مزيجاً بين روح المعاصرة و المحافظة على ثوابت الدولة وأركانها ، وهذا ما يُفهم من توجيهات جلالة الملك لأبناءه وبناته الشباب من ضرورة السير نحو الحزبيّة والتعمّق في أغوار السياسة لخلق الكيانات القادرة على إحداث التغيير ومواجهة المستقبل .

وفي الختام ، نحن دولة عريقة بلغت من العمر قرناً من الزّمان ، إختبرت من النماذج ما يؤهّلها اليوم لرسم الخطّ السّياسيّ الأكثر موائمة لمتطلباتها ومراعاة لمكانتها ، وهذه رسالة لرؤساء الوزارات القادمين وصّنّاع القرار في المطبخ السّياسيّ لإختبار قيادات تملك القدرات التي تجسّر الفجوة مع المواطن وتتفهّم حاجاته ومتطلّباته ، تسير نحو الإنجاز بحزمٍ دون إكتراثٍ لأية إعتباراتٍ مهما كان نوعها ، تعي أنّ المسؤوليّة تكليفٌ لا تشريف ، لا تميلُ إلى التّسكين خشية من ردود الأفعال بل تدافع عمّا تؤمن بصلاحه وإنتاجيّته من باب الأمانة والواجب .

والله من وراء القصد .‎

التعليقات مغلقة.