صحيفة الكترونية اردنية شاملة

الشيخوخة تستنزف ميزانيات الدول المتقدمة

0

في الوقت الذي تشيخ فيه بلدان مثل أمريكا واليابان والصين وعديد من الدول الأوروبية تبدو السعودية أكثر شبابا وحيوية، حيث تؤكد كارلي مارفي الحائزة على جائزة بليتزر في الصحافة، أن 37 في المائة من سكان السعودية تحت سن 14 عاما، وأن الذين تبلغ أعمارهم 25 عاما يمثلون 51 في المائة من السكان، وإذا أضفنا لهم من هم في سن 29 عاما، فإننا نتحدث عن ثلثي سكان السعودية، بينما لا تتخطي تلك النسبة في الولايات المتحدة 41 في المائة، لتصبح بذلك السعودية أحد المجتمعات الأكثر شبابية في العالم.

وقالت لـ “الاقتصادية” الدكتورة ماتيلد هيس أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة أدنبرة، إن هذه الأرقام تكشف الحيوية السكانية التي تتمتع بها السعودية، وتعني أن مشكلات الشيخوخة بعيدة عن المجتمع السعودي، فإذا اقترنت بمستويات رعاية صحية وتعليمية مرتفعة، فإننا أمام مجتمع يمكن أن توجد فيه طاقات إضافية تمكنه من تحقيق معدلات نمو عالية نسبياً.

وأضافت أن التركيبة الديموغرافية الراهنة للمجتمع السعودي تضمن للدولة أن عدداً من التحديات المستقبلية لن تواجهها، فهي ليست مجبرة على خفض ميزانيتها العسكرية بحلول عام 2050 مثل بعض بلدان شرق آسيا، أو تقليص مساعداتها الخارجية من جراء الحاجة إلى زيادة بند المعاشات في الميزانية العامة، لكن على الرياض أن تتذكر أيضا أن شبابية المجتمع لديها توجد مشكلات من نوع آخر؛ أبرزها توفير فرص العمل وتقليص البطالة.

ووفقا لتقديرات منظمة الصحة العالمية، فإن ما يعرف بـ “مأمول عمر الانسان” أو العمر المتوقع للإنسان قد تحسن كثيرا خلال النصف الثاني من القرن العشرين وحتى الوقت الحالي.

وخلال عام 1950 كان متوسط عمر الفرد على مستوى الكرة الأرضية 46.6 سنة، والآن يتوقع للذين ولدوا بين عامي 2005 و2010 أن يبلغوا 67.6 سنة، ويعني ذلك أن العمر المتوقع للإنسان على المستوى العالمي خلال نصف قرن تقريبا، زاد نحو عشرين عاما ـــ مع إيماننا بأن الأعمار بيد الله سبحانه وتعالي.

ووفقا للبيانات الدولية فإن العمر المتوقع للفرد في البلدان الغنية يصل الآن إلى 77.1 عام، بينما يصل في البلدان الفقيرة إلى 55.9 عام، ويوجد أعلى متوسط عمر حاليا لدى نساء اليابان وهو82.1 عام.

ولا شك أن عديدا من العوامل تلعب دورا مهما ومؤثرا في إطالة عمر الانسان؛ ومن أبرزها التقدم الطبي وتحسن مستويات المعيشة والتغذية والرياضة وغيرها.. ولكن ماذا عن المستقبل؟ إلى أي عمر يمكن أن يحيا الانسان؟ بطبيعة الحال الأعمار بيد الخالق كما أسلفنا، لكن إحدى أبرز النظريات السائدة حاليا في مجال علم السكان، هي أن التقدم الطبي وخاصة المتوقع في هذا القرن، الذي يعد وفقا للأعراف العلمية قرن” البيولوجيا”، سيكون له عظيم الأثر في “إطالة” حياة الفرد.

ويرجح أن يتم خلال القرن الحادي والعشرين تحقيق طفرات وقفزات نوعية في مجال الطب، وتحديداً في مجالي الخلايا الجذعية والهندسة الوراثية، بحيث يمكن القضاء على عديد من الأمراض خلال العقدين المقبلين كمرض السكري (منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الأكثر إصابة بالمرض في العالم) والسمنة والسرطان، مما يفتح الآفاق أمام زيادة معدلات العمر، ولا يخفي أطباء وعلماء بيولوجيا كثر قناعتهم بأن ملايين البشر قد يستمتعون بنهاية القرن بسنوات عمرية مديدة تراوح بين 120 و133 عاما.

وقد تبدو مثل هذه الأخبار أو التوقعات العلمية أمرا يضفي السعادة ويرسم ابتسامة تفاؤل على شفاه الملايين من سكان كوكبنا، ولكن بالنسبة للحكومات والاقتصاديين فإنها في أقل تقدير معضلة لا بد من الاستعداد لها من الآن، والعمل على معرفة تأثيراتها السلبية قبل الإيجابية في الاقتصاد ومستويات المعيشة، وطرح سيناريوهات واستراتيجيات مختلفة للتعامل مع الوضع الجديد.

وبدأت ملامح القلق من هذا الوضع تظهر في عدد من بلدان العالم؛ أبرزها الولايات المتحدة وعديد من بلدان أوروبا الغربية واليابان وكوريا الجنوبية وحتى الصين، حتى أضحت مشكلة “الشيخوخة” يتزايد إلحاحها يوماً بعد آخر في تلك البلدان، لدرجة دفعت على سبيل المثال وزارة الدفاع الامريكية ” البنتاجون” إلى إعداد دراسات حول تأثير هذا الاتجاه في القدرات العسكرية الأمريكية.

ويؤكد لـ “الاقتصادية” الدكتور كين مارتن الخبير البريطاني في علم السكان ومستشار البنك الدولي لشؤون التنمية، أن تنامي ظاهرة “الشيخوخة” في عديد من البلدان، منها بريطانيا، قضية أصبحت عنصرا ضاغطا يستنزف موارد الميزانيات العامة، ومع أن المؤشرات العلمية المتاحة تشير إلى أن الفرد سيحيا لسنوات أكثر خلال العقود المقبلة، إلا أن الأمر سيزداد تعقيدا، فعلى سبيل المثال صناديق المعاشات ورؤوس أموالها حاليا تقدر بالمليارات وعلى الرغم من ذلك لا تكفي وتعاني دائما عجزا ماليا.

وأضاف مارتن أنه من المرجح أن تواجه تلك الصناديق أوضاعاً مربكة وتحديات أكثر إرباكا في المستقبل، وقد تصل لحد الإفلاس من جراء حاجاتها ‘لى مزيد من الأموال لتمويل رواتب المتقاعدين لسنوات أطول، وأيضاً صناديق الثروات السيادية يتعين عليها إعادة النظر في شكل استثماراتها، وشركات التأمين، والميزانيات العسكرية لدى الحكومات.. وكل هذا سيتطلب إعادة تشكيله وصياغته صياغة جديدة للتصدي للتحديات الناجمة عن زيادة عمر الإنسان.

ليس الاقتصاديين وحدهم المعنيون بالتداعيات المستقبلية لزيادة العمر المتوقع للفرد، فالعسكريون في عدد من البلدان الرأسمالية عالية التطور لربما كانوا أكثر قلقا تجاه المستقبل، وقد أقر الجنرال المتقاعد إليكس كاشمور بأن “الشيخوخة” حتى الآن ظاهرة محلية في عدد من الدول المتقدمة، لكن تداعياتها الاقتصادية والعسكرية ستؤدي لتغيير ضخم في موازين القوة الدولية بما يجعلها مشكلة كونية.

وأشار لـ “الاقتصادية” الجنرال المتقاعد، إلى أن ما ورد في تقرير مجلس الاستخبارات القومي الأمريكي بعنوان “الاتجاهات الكونية حتى عام 2030: عوالم بديلة”، يكشف لنا حجم الاهتمام والقلق الواضح لدى “البنتاجون” وصناع القرار الاستراتيجي الأمريكي من ظاهرة تنامي أعداد كبار السن، وقدرة الإنسان على العيش لسنوات أطول سواء في الولايات المتحدة أو البلدان الحليفة.

وبحسب كاشمور فإن التقرير الأمريكي يشير بشكل صريح إلى تزايد ظاهرة الشيخوخة في أوروبا ولدى حلفاء واشنطن في شرق آسيا (اليابان وكوريا الجنوبية)، وهذا يعني أن حلفاء واشنطن سيفقدون القدرة على تمويل قدراتهم العسكرية لتأمين الالتزامات الأمنية الدولية، ولن يكون لدى المؤسسات والجيوش الغربية الطاقة للحفاظ على وجودها العسكري الراهن على الأمد الطويل، بل الأكثر مدعاة للإحباط بالنسبة لواشنطن أن “ظاهرة الشيخوخة” المتنامية في البلدان الغربية، ستؤدي حتما إلى تخفيض ميزانيات الدفاع والمساعدات الخارجية لمصلحة البنود الخاصة بالمعاشات والرعاية الصحية لكبار السن.

وتشير البيانات الأمريكية إلى أنه في عام 2010 كان هناك 19 فرداً أعمارهم 65 عاما أو أكثر مقابل 100 شخص في سن العمل (15 ـــ 64)، وبحلول 2050 سيكون هناك 36 شخصا تزيد أعمارهم على 65 عاما لكل 100 شخص في سن العمل.

وتعد اليابان في وضع أسوأ، فالنسبة الحالية هي 36 شخصا في سن التقاعد لكل 100 شخص في سن العمل بحلول منتصف القرن، وستتضاعف هذه النسبة لتبلغ 72 متقاعدا لكل 100 شخص في سن العمل، وكوريا الجنوبية من 15 في سن التقاعد حاليا إلى 66، وألمانيا من 32 إلى 60.

فإذا أخذنا في الاعتبار استطلاع الرأي الذي قام به معهد Pew للأبحاث، الذي أظهر أن 25 في المائة من الأمريكيين يعولون على الحكومة للحفاظ على رفاهية كبار السن، فإن هذه النسبة تبلغ الثلث في فرنسا وبريطانيا وألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية.

وهذا مؤشر على أن الحكومات ستواجه بضغوط شعبية للحفاظ على أوضاع معيشية طيبة للمتقاعدين وكبار السن، ولو كان ذلك على حساب استقطاعات في جوانب أخرى من الميزانية العامة.

وتبرز خطورة الوضع في تحذيرات منظمات دولية بأن نظام المعاشات العامة والنظام الصحي في بعض أكثر دول العالم تقدما ورفاهية على حافة الانهيار، فقد أصدرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تقريرا لها أشارت فيه إلى أن النظام الصحي البريطاني ونظام المعاشات معرضيْن للانهيار التام من جراء تزايد ظاهرة الشيخوخة في المجتمع.

ومع تزايد أعداد كبار السن وتنامي التوقعات بأن يحيا الإنسان سنوات أطول، فإن صناديق المعاشات تواجه مأزقاً صعباً، فصندوق النقد الدولي يتوقع أن تنمو المعاشات العامة كنسبة من الاقتصاد القومي في أمريكا من 6.8 في المائة عام 2010 إلى 8.5 في المائة عام 2050، وكوريا الجنوبية من 1.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 12.5 في المائة، وألمانيا من 10.9 في المائة إلى 13.1 في المائة خلال الفترة نفسها.

وتبرهن تلك التحذيرات على المعضلة التي ستواجه واضعي الميزانيات العامة في البلدان المتقدمة خلال هذا القرن، حيث يرى الدكتور توم كويدلي الخبير الاقتصادي في الأمم المتحدة، أن الأمر يبدو في بعض الأحيان كأننا ندخل دائرة مفرغة، فأحد معايير التقدم لدى الأمم ارتفاع أعمار السكان، وهذا يتطلب اهتماما كبيرا بالرعاية الصحية وزيادة الإنفاق عليها، ولكن مع زيادة معدلات كبار السن بين السكان تزداد الضغوط على ميزانية الرعاية الصحية، مما يدفع أحيانا إلى تراجع مستواها، وللحفاظ على مستواها المرتفع لا بد من خفض في بعض البنود الأخرى.

وربما يكون الإنفاق العسكري أحد تلك البنود، إلا أن بعض العسكريين الغربيين يعتقدون أن الأمر قد يكون مقبولا نسبيا، بدعوى أن الصين تعاني هي الأخرى من ظاهرة تنامي أعداد كبار السن في المجتمع، وإذا كانت بكين تنفق حاليا 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع مقابل 4.4 في المائة في أمريكا، فإنه بحلول عام 2050 سيكون هناك 39 شخصا متقاعدا لكل 100 شخص في سن العمل في الصين، وهو معدل أكبر من الولايات المتحدة، مما جعل صندوق النقد الدولي يرجح أن الصين ستنفق نحو 10 في المائة من ميزانيتها على المعاشات مقابل 3.4 في المائة عام 2010.

وتعد المساعدات الخارجية جانباً آخر تخشى الحكومات وواضعو الاستراتيجية في المجتمعات المتقدمة من أن يكون لظاهرة الشيخوخة وطول عمر الإنسان مستقبلا تأثيرهما السلبي فيها، فالمساعدات الخارجية إحدى الآليات التي تعزز الثقل السياسي والدولي لتلك المجتمعات، وتمنحها القدرة على صياغة المجتمع الدولي بما يحقق مصالحها، لكن تلك المساعدات ستكون النقطة الأضعف، حيث سيطلب عديد من سكان البلدان التي تعاني ظاهرة الشيخوخة التخلي عن المساعدات المدفوعة للدول الفقيرة.

وعلى الرغم من أن المساعدات المالية الخارجية المقدمة من البلدان الغنية لا تذكر، إذ تبلغ في أمريكا 0.19 في المائة من الدخل القومي الإجمالي، وفي بريطانيا لم تصل إلى 0.7 في المائة، إلا أن الأزمة الاقتصادية الراهنة أثبتت بما لا يدع مجالا للشك، أن مواطني تلك البلدان لا يحبذون مواصلة حكوماتهم تقديم مساعدات خارجية في ظل تدهور الوضع الاقتصادي الداخلي، وهو ما يعطي مؤشرا لا جدال فيه على أن تلك المجتمعات ستوقف مساعداتها الخارجية مع تنامي ظاهرة الشيخوخة لديها وتزايد حاجاتها المالية لتمويل المتقاعدين.

ومع هذا فإن البعض يعتقد أن ظاهرة الشيخوخة واتجاه البشرية للاستمتاع بعدد سنوات أطول من العمر، لن يكون له تلك الانعكاسات السلبية المرجحة على الاقتصادات المتقدمة.

وتعلق لـ “الاقتصادية” الدكتورة راشيل رايت أستاذة الهندسة الوراثية في المعهد الطبي الدولي للأبحاث، بأنه على الرغم من معرفتنا التامة بالتداعيات الاقتصادية لزيادة عمر الإنسان، فإن المشكلة تكمن في أن أغلب الأبحاث الاقتصادية الراهنة تنظر للأمر من خلال منهج مقارنة ثابت، بمعنى أنها تفترض أن الإنسان إذا أصبح عمره 120 عاما سيصبح عبئاً اقتصادياً على الدولة لفترة طويلة، باعتبار أن سن المعاش الحالي تصل إلى 65 عاما وهذا غير دقيق.

وأضافت رايت، نحن الآن في مرحلة انتقالية ـــ إذا جاز التعبير ـــ فالطب تقدم بحيث يمكن أن يحافظ على صحة الإنسان للبقاء على الحياة لفترات أطول، وسن المعاش الراهن في أغلب دول العالم 65 عاما، وبالطبع فإنك عندما تصل إلى سن 70 أو 75 لا تكون قادراً على العطاء للمجتمع كما كنت في الأربعينيات أو الخمسينيات من العمر، ولكن الدراسات التي تجرى في مجال الهندسة الوراثية والخلايا الجذعية، تستهدف جعل عمر الإنسان 120 عاماً، لكنه عندما يصل عمره إلى 90 عاما سيكون قادراً على العطاء بقوة شخص لديه 60 عاما الآن، ومن ثم فإن البشر في المستقبل سيكون لديهم القدرة على العمل لسنوات أطول، ولهذا فإننا لا نرى المستقبل بتلك العيون المتشائمة للاقتصاديين.

ومع تزايد معدلات العمر المتوقع للفرد في النصف الثاني من القرن الماضي، فإن الدراسات أثبتت أن الإنسان يتجه إلى قضاء سنوات أكثر في الدراسة، لكنه يقرر بعد ذلك أن يبحث عن الأعمال التي تتضمن ساعات عمل أقل.

وكانت دراسة معروضة على الجمعية الملكية للاقتصاد في بريطانيا، أجراها كل من هولجر سترليك، وكاثرين ورنير، كشفت أن البشر في الماضي كانوا في حاجة إلى العمل لسنوات طويلة لضمان ادخار مبالغ مالية تكفيهم للمستقبل عند التقاعد، إضافة إلى الحصول على معاش لائق.

ولكن مع تحسن مستويات الصحة حتى عند مراحل عمرية متقدمة، فإن الاتجاه العام هو زيادة سنوات التعليم لضمان الحصول على عمل يحقق دخلا مرتفعا يمكن الأشخاص من الادخار بمعدلات أكبر والتقاعد مبكرا، ومن ثم فإن الضغوط على صناديق المعاشات والمعاشات الحكومية لن تكون بالدرجة ذاتها من الثقل على الميزانيات العامة، وذلك لادخار الأفراد مبالغ مالية تمكنهم من الحياة الكريمة لسنوات طوال.

بيد أن الصورة لا تبدو معتمة تماما، ففي دراسة لبنك كرديت سويس حول التداعيات الاقتصادية لزيادة عدد المتقاعدين وطول عمر الإنسان، تؤكد أن هذا سيحدث تغييرا جوهريا في نمط الاقتصاد العالمي فيما يتعلق بالعلاقة بين ساعات العمل والفراغ، مشيرة إلى أن زيادة عدد المتقاعدين وبقاء الإنسان لعدد أكبر من السنوات سيدعم صناعة الفراغ (السينما، الفنون، الرياضة، السياحة…) حيث يمكن لهذه الصناعات وعبر الضرائب على الأرباح أن تمثل دخلا إضافيا للدولة يعوضها بشكل جيد عن زيادة أعباء المعاشات العامة والرعاية الصحية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.