صحيفة الكترونية اردنية شاملة

‘المونديال’ أيضا ليس للفقراء..!

0

ليس هناك طفل في العالم تقريباً لم يلعب بكرة مستديرة يدحرجها بين قدميه. ربما يفسر ذلك شغف الناس في كل أنحاء العالم بكرة القدم، حتى في أكثر ظروفهم قتامة. رأينا في عز أزمة اليمن شباب الاعتصامات وقد نصبوا شاشات في الميادين لمشاهدة كلاسيكو إسبانيا الكبير. ونرى في ظروفنا الصعبة هنا كيف يسترق المتعبون فسحة صغيرة من الأزمات الشخصية والجمعية لمتابعة مباراة في مقهى. والآن، يتحدث العالم وسط أخباره الفاجعة عن شيء واحد محايد على الأقل: “مونديال” البرازيل الوشيك. لكن هذه المناسبة الكونية التي يدعون أنها تجمع الناس على شيء وتتسامى على الفروقات، أصبحت مناسبة لعرض اللامساواة وتفاوت المقامات، مثلها مثل كل الاشياء التي أصبحت محكومة بلعنة الذين يملكون والذين لا يملكون.

أتذكر من السبعينيات أن الناس كانوا يحبون متابعة المصارعة البريطانية. لم تكن قاسية ووحشية مثل المصارعة الأميركية الشائعة هذه الأيام. كانت أقرب إلى الرياضة الحقيقية منها إلى الصراعات البهيمية الحالية. ولم يكن أهلي قد تمكنوا بعد من شراء جهاز التلفاز الأول بالأقساط. كنا نمشي مسافة -في أمسيات أيام الأحد إن لم تخني الذاكرة- إلى بيت أخي الذي كان لديه تلفاز لنشاهد المصارعة. وانطبق شيء مشابه على منافسات كأس العالم لكرة القدم التي تقام كل أربع سنوات، ويشاهدها المرء وهو يقول: “يا مين يعيش”. كان الذي لا يمتلك جهاز تلفاز يشاهد الحدث عند صديق، أو في المقهى، لكن أقصى ما كان يتكلفه هو احتمال الحرج من الزيارة. ثم أصبحت أجهزة التلفزة سلعة ميسرة نسبياً، ولم يعد أحد يضطر إلى مضايقة أحد باقتحام فرجته الخاصة.

لكن الدنيا لا تدوم على حال، ولا تمنح الفقراء بالذات وقتاً للتمتع حتى بمكتسباتهم الصغيرة، وتعيدهم دائماً إلى الركض في الوراء. جاءت الفضائيات، وصاحبتها الاحتكارات، وأصبحت الكثير من المحطات تضع بجانب اسمها علامة الدولار لتقول إنها “مشفرة” وغير متاحة إلا لِمن يستطيع أن يدفع. ولا بأس بذلك في التحصيل الأخير، فالتاجر صاحب القناة ينتج أو يشتري مادته الدرامية أو البرامجية بالنقود ويريد أن يسترد نقوده ممن يرغب ويستطيع. لكن الأمر الذي يصعب هضمه، هو احتكار حدَث عالمي لا ينتجه أحد على وجه الخصوص، وقصر ميزة مشاهدته على نخبة تستطيع دفع ثمن المشاهدة. مرة أخرى، يصبح الذين لا يملكون مضطرين إلى صديق أو قريب ميسور الحال أو مستدين، استطاع دفع رسم الاشتراك وجهاز الاستقبال، علهم يشاهدون عنده شيئاً من كأس العالَم ويكسرون شيئاً من الرتابة الرمادية.

كان اللافت بهذا الصدد في الآونة الأخيرة، ما تناقلته الأنباء عن محطة تلفزة ألمانية اشترت حقوق البث وقررت أن تذيع مباريات المونديال على مواطنيها مجاناً. وكان اللافت أكثر تفسير مدير القناة الألمانية: “إن كرة القدم هي لعبة الفقراء. ونحن مع الفقراء والأغنياء، وسنقدم المونديال للعالم بالمجان”. لكن القناة لن تبث المباريات لكل فقراء العالم في الحقيقة، وإنما لفقراء ألمانيا –إذا كان ثمة فقراء هناك.

بطبيعة الحال، لن يموت أحد إذا لم يشاهد مباريات كأس العالم لهذا العام. لكن الكثيرين سيختبرون حسرة الحرمان والإحساس بأن نصيبهم في الدنيا أقل من آخرين، حتى في هذا الشأن الذي قد يُعتبر جانبياً. وفي الحقيقة، تنتمي كرة القدم فعلاً إلى الفقراء الذين يمارسونها بلا كلفة تقريباً: بجورب قديم محشو بالخرق القديمة، أو بورق جرائد محزوم بخيط، أو بأي شيء يمكن أن يتخذ شكلاً كروياً. ولا تهم الميادين والعشب، لأن الأزقة والشوارع والأفنية يمكن أن تكون الملاعب. وباستثناء القليل من لاعبي كرة القدم العالميين الذين نشأوا في أسر ميسورة، فإن الغالبية العظمى من الموهوبين تعلموا اللعبة في الشوارع الفقيرة ومارسوها حفاة الأقدام، حتى صنعت منهم مشاهير. لكنْ لم يعد بوسع هؤلاء أن يقدموا الفرجة لسكان الأحياء الفقيرة التي أنجبتهم.

سيكون من السذاجة مطالبة أحد هنا بشراء حقوق بث المونديال ومنح الفرح للأردنيين بالمجان. لكن في حجب المباريات عن البسطاء تأكيد للحقيقة المؤسفة: لم يترك الجشعون في هذا العالم شيئاً للفقراء، ولا حتى لعبة الفقراء!

الغد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.