صحيفة الكترونية اردنية شاملة

مغامرة بوتين في القرم

0

“الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل اخرى”

الجنرال الروسي كارل فون كلاوسويتز

اختار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اللجوء الى القوة العسكرية، او التهديد باستخدامها، لفرض ارادة روسيا على جيرانها من الدول التي انفصلت عن منظومة الاتحاد السوفياتي بعد انهياره في نهاية ثمانينات القرن الماضي. في الصحافة الغربية يلقب بوتين بـ”السوفياتي القديم”، وهناك من يعتبر تدخله الأخير في شبه جزيرة القرم مغامرة متهورة قد تنتهي بالاطاحة به، بينما يصفه اخرون على انه قارئ جيد لموازين القوى المتغيرة اقليميا وعالميا. وهو لاشك مقامر سياسي لانه يتحدى الارادة الدولية، والغرب بقيادة اميركا على وجه خاص، بفرضه أمرا واقعا في القرم يغير من الواقع الجيوسياسي في المنطقة.

بين ليلة وضحاها ارسل بوتين آلاف الجنود الروس الى شبه جزيرة القرم، التي كانت يوما ما جزء من روسيا قبل ان يهديها الزعيم السوفياتي خروتشوف الى جمهورية اوكرانيا في مطلع خمسينات القرن الماضي. اصبح من الأمر الواقع اليوم انسلاخ القرم عن اوكرانيا وانضمامها، بأغلبيتها الروسية، الى روسيا الأم. تاريخيا لم تكن القرم روسية، وكانت موطننا للتتار المسلمين وغيرهم من الاثنيات، وكانت تابعة للسلطنة العثمانية لكن قوى اخرى سيطرت عليها عبر فترات غابرة. وفي خمسينات القرن التاسع عشر حسمت اسطنبول الصراع بعد ما سمي بحرب القرم ولم تنتقل السلطة الى روسيا الا بعد انهيار السلطنة واندلاع الثورة البلشفية، حيث قتل من الروس البيض عشرات الالاف في القرم. وفي نهاية المطاف حصلت موسكوعلى ميناء يطل على المياه الدافئة. بعد ذلك هجر الملايين من التتار من القرم وانتقلت اعداد كبيرة من الروس اليها.

في زمن الاتحاد السوفياتي كان هناك تهجير لكثير من الاثنيات واستبدالهم بغيرهم في محاولة للتطهير العرقي وبناء توازن ديمغرافي جديد في مناطق حيوية. واليوم ينتهز بوتين الفرصة لاعادة وصل ما انقطع: شبه جزيرة القرم تصوت عبر استفتاء خلافي للعودة الى حضن روسيا الأم تحت وصاية آلاف الجنود الروس.

اما فكرة الاستفتاء فهي حديثة نسبيا وقد خرجت من رحم الثورة الفرنسية التي قدمت للعالم مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير وارتبط ذلك فيما بعد بجوهر الديمقراطية. لكن استغلال هذا الحق كان يرجع الى موازين القوى في تلك اللحظة، فمن أيده كان يضمن سلفا نتائجه، او ان من سمح به كان يملك من التأثير العسكري والسياسي ما يحقق مراده. حتى هتلر اجرى استفتتاء على ضم النمسا الى المانيا عام 1938، واقرت بذلك فرنسا الامبريالية في مستعمراتها، وتجنب ذلك الجنرال ديغول في الجزائر رغم مطالبة اكثر من مليون مستوطن فرنسي.

اليوم يحقق الرئيس بوتين غنيمة جيوسياسية لروسيا بضمه شبه جزيرة القرم عبر وسائل “شرعية” وتحت تهديد السلاح. السؤال هو: هل تستطيع روسيا تحمل تبعات هذا الاجراء الاقتصادية والسياسية؟ هناك من يقول بأن موسكو، رغم استعراضها لعضلاتها العسكرية، لن تستطيع تحمل العقوبات الاقتصادية والسياسية التي يفرضها الغرب. ويضيف هؤلاء بان نزهة الجيش الروسي في جمهورية جورجيا عام 2008 لن تتكرر في القرم. وهناك من يراهن على قدرة بوتين على قراءة اللحظة التاريخية الحالية وفهمه للتوازنات الدولية ويقر بأن على اميركا والغرب القبول بالأمر الواقع.

في كل الأحوال اختار بوتين زج الجيش في المعادلة السياسية المتعلقة بمستقبل اوكرانيا. اختار روس القرم العودة الى حضن روسيا الأم، وهناك ما يشبه الحرب الباردة بين روسيا والغرب مع اختلاف المضامين الايدولوجية. هل يسمح الغرب لبوتين بفرض ارادته على العالم وهو كان قد هزم الاتحاد السوفياتي قبل نحو خمسة وعشرين عاما؟ ما هو موقف الولايات المتحدة من انتصار موسكو في القرم؟ وكيف سينعكس كل ذلك على العلاقات المتقاطعة بين روسيا واميركا، خصوصا في سوريا؟

رغم قوتها العسكرية الشاسعة فان موسكو لا تستطيع خوض حرب باردة وتصعيد جديد مع الغرب الأقوى اقتصاديا وعسكريا. سيجد بوتين نفسه في عزلة دولية وقد يعيد ارتكاب اخطاء الاتحاد السوفياتي القاتلة. بوتين اختار استعراض القوة لكن الغلبة اليوم لمن يملك النفس الأطول..اقتصاديا!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.