صحيفة الكترونية اردنية شاملة

دردشة عن فيلم افواه و ارانب

0

من وحي الواقع التي لطالما عاشته مصر من انفجار سكاني و مشاكل التنظيم الأسري تأتينا هذه الرواية التي انحدرت من مخيلة (مع حفظ الالقاب) سمير عبدالعظيم الرائعة، و هي من اخراج الأستاذ الكبير هنري بركات، و كلاهما لم يرحلا عن عالمنا قبل أن يتحفا السينما و المسرح بأعمال أضحت علامات فارقة و مميزة جدا بالمسيرة الدرامية لجمهورية مصر العربية و العالم العربي، حينما نقول بأن القصة تنطلق من الواقع و لكنها وليدة خيال الكاتب قلبا و قالبا نقصد بأن هنالك واقع معين انحدرت منه هذه الرواية…و لكن قد تكون احداثها و حبكتها/حبكاتها الدرامية و شخصياتها من وحي خيال الكاتب، اي بمعنى ان الكاتب أحذ واقع معين قد يكون موجود في ايامه على سبيل المثال أو قد يكون مر بالسالف او قد يكون واقع تاريخي و أنطلق من أجوائه ليؤلف القصة الخيالية، و فيلم أفواه و ارانب من اروع الأمثلة على هذا الحال الروائي، فهي قصة عائلة عبدالمجيد (الراحل فريد شوقي) و جمالات (رجاء حسين) التي تعاني من الفقر الشديد و كثرة الأولاد، فقد انجبا تسعة أولاد بالرغم من حالهم الفقير لتدخل هذه العائلة بأزمة اجتماعية حادة و خطيرة، فحتى المستوى الثقافي للأبوين ليس بالمستوى المطلوب لإدارة شأن اسرتهم لولا وجود خالة الأولاد نعمة (فاتن حمامة)، فتعمل نعمة في أول مشاهد الفلم بمعمل للمواد الغذائية في خطوط الإنتاج بمحاولة منها لدعم اسرة اختها جمالات و أولادها،

تنحدر هذه الأسرة من بيئة فقيرة بالأرياف منعدمة الحال والثقافة حيث تقطن بمنطقة شعبية جدا معظم سكانها من العائلات المستورة، ويعمل عبد المجيد موظف في سكة الحديد وتكون زوجته ربة اسرة، ويعاني الأولاد من حالة من انعدام الثقافة والتصرفات المنضبطة، فعبدالمجيد سكير بطبعه ولا يتمتع بتفاهم مع زوجته جمالات إطلاقا، فنراهم في معظم الأوقات في شجار مستمر حيث يعاني الأطفال من هذه الأجواء المشحونة الضياع والانحراف الأخلاقي. و مما لا شك به بأن هذه الاسرة تعكس واقع يعيشه مئات الألاف من العائلات المهمشة ماديا في مصر…فحتى و ان كان فيلم كلاسيكي تم إنتاجه بسنة 1977 إلا ان رسالته لا تقتصر على عصر او حقبة معينة، فمشكلة الانفجار السكاني تعاني منها مصر منذ فترة زمنية ليست بقليلة الى يومنا هذا و ترهل البنية التحتية في الكثير من سكن العائلات المستورة مُرْ عانَتْ منه الكثير من الحارات السكنية في مصر و ما زالت تعاني منه، و حملت السينما المصرية على عاتقها مشاكل الفقراء في مصر و قدمت مشاكلهم بالعديد من الأعمال الدرامية الخالدة او لامست واقعهم بشكل او بآخر منذ أعتق أزمنتها، و اذكر منها على سبيل المثال لا الحصر فيلم العزيمة من إنتاج سنة 1939 و الذي صنفته السينما المصرية من ضمن افضل 100 فيلم في ارشيفها، و فيلم رد قلبي الذي يعد من أهم الافلام في السينما المصرية و يحمل مركز 13 بين ترتيب افضل 100 فيلم في السينما المصرية، و الذي يحمل مفارقة عن الأوضاع المعيشية التي تكون على حال قبل ثورة 52 يوليو، و لكن تجلب الثورة المفاجئات لتنقلب الموازين بين ابطاله فتنهي الثورة الفروقات الاجتماعية بين طبقات المجتمع و بين شخصياته ، الفيلم من انتاج سنة 1957 و حمل بعض مما جلبته ثورة 52 اجتماعيا في مصر، فيلم الحب وحده لا يكفي و هو فيلم يقدم مشاكل المتعلمين الذين لا تتيح لهم القوة العاملة تعينهم سريعا ضمن تخصصهم…فيشعر بطل الفيلم بأنه مجبور أن يعمل بمهام خشنة بعيدا عن شهادته الجامعية…حال فرضته متغيرات كثيرة تبعت ثورة 52 يوليو…فالتعليم اصبح متاح للكل و اصبح سهل المنال ليضمن المرء وظيفة محترمة و عائدا ماليا مجزيا…و لكن النتيجة كانت ان سوق العمل اشبع من حملت الشهادات بعد الثورة…مما فرض واقع آخر على الشركات و المؤسسات، فأصبحت تكتظ بالعاملين مما فتح المجال للبطالة المقنعة، و مع الانفتاح الاقتصادي بعد هذه الاحداث بفترة عمل الناس بمهن بعيدة عن تخصصاتهم لكسب لقمة عيش هنيئة…متعلمون بلا عمل و عاملون بلا شهادات …و بين ثنايا هذا الواقع الأليم تحدث احداث هذا الفلم الكلاسيكي الرائع، فيلم ياسمين الذي تم انتاجه في عام 1950 لفيروز و انور وجدي احتوى على مشاهد قدم فيه واقع اطفال الشوارع و المشردين و هو من اشهر افلام السينما في مصر. ولا ننسى من الافلام الحديثة فيلم كراكون في الشارع الذي قدم معاناة مهندس مع عائلته المكونة من زوجته واولاده بعد ان تقع العمارة التي امتلكوا فيها شقة وسكنوها.. فتبدء رحلة اوجاع مريرة بسبب فقر اوضاعهم المالية لإيجاد سكن بديل…فمن السكن عند اقاربهم الى المبيت في المقابر التي يمتلكوا فيها مساحة صغيرة لأغراض دفن افراد اسرتهم نتعرف عل بعض مما يذوقو اسر المهمشين في مصر. ولا ننسى رائعة الارهاب والكباب الذي عكس في تاريخ مصر المعاصر ما ينجم في المجتمع المصري من الانفجار السكاني وكم تعاني الدوائر الحكومية الضغط الشديد من النسمة السكانية المرتفعة…وعمارة يعقوبيان الذي قدم لنا معاناة طبقة من طبقات المجتمع الذي تطحن من جراء الفقر وسوء الاوضاع المعيشية في القاهرة…وهنا لا بد لنا من التوقف ايضا عند فيلم الحريف الذي أبدع فيه الفنان عادل امام بتقديم شخصية يبدو لي بأنها مستلهمة من بطل كورة الشراب سعيد الحافي. ولا يسعني إلا وان اثني على الإخراج الرائع للفيلم وتقديم عبر هذه الاسطر كلمة شكر لأبطاله الفنان عادل امام والفنانة فردوس عبد الحميد. فقدم لنا هذا الفيلم شخصية من الطبقة المكافحة و التي تعاني من سوء الاوضاع المعيشية…فحتى تسكن في غرفة متواضعة حدا على سطح بناية في حي فقير في القاهرة…و يقدم لنا الفيلم مشاكل و كفاح هذه العائلة لتكسب لقمة عيشها…و ايضا رائعة فيلم طيور الظلام ليسرا و عادل امام الذي قدم لنا مشوار محامي فقير الحال و هو يكافح و يرتقي بفضل ذكائه السلم السياسي ليصبح من الناجحين و اللامعين في العالم السياسي بالقاهرة، و رائعة دم الغزال الذي قدم لنا ما يصنع الفقر بأحدهم حينما يضيق به الحال و يقرر اللحاق بجماعات متطرفة لينتقم من بعض افراد الحي الذي يسكن به…و يقدم لنا ايضا قصة كفاح بعض المهمشين في مصر و معاناتهم في البحث عن عمل و كسب قوتهم و ماذا يصنع بهم ضيق الحال…الدراما المصرية مليئة بالقصص المستلهمة او المستوحاة من واقع الفقر الذي تعاني منه الكثير من الاسر في مصر و التي عالجتها الدراما المصرية في سعيها لنقل معاناتهم الى الرأي العام و الى المسؤولين للاهتمام بهم و بمشاكلهم…و لعلها خير برهان على قدرة السينما المصرية بمواكبة المتغيرات السياسية و الاجتماعية في مصر و تقديم اعمال درامية تحاكي هذه المتغيرات من خلال اقلام كتابها و عدسة مخرجيها. وكما أسلفنا فيلم افواه وارانب واحد من هذه الافلام التي سعت لتقديم مشاكل الفقراء من خلال قصة جميلة وحالمة وايضا من خلال مخرج أبدع الدراما الجميلة لنا بكل معنى الكلمة…

الحبكة وشخصيات الابطال:

تسعى نعمة للمساهمة بمدخولها من عملها لحل مشاكل مصروف بيت شقيقتها الذي يعاني من الانهيار بسبب الفقر كما اسلفت. ولعلها شخصية مليئة بالخير لتقبل على هذه الخطوة فنراها في بداية العمل تحضر الفول والعيش لأولاد جمالات بيديها ليفطروا مما تيسر لهم في كل يوم صباح. ونراها تحضر لجمالات وزوجها عبد المجيد الفطور بكل طيب خاطر لنرى نواياها النقية الساكنة في داخلها. بل نرى هذه النوايا تتجلى بأكثر من مناسبة في اثناء الفيلم. فيعمل يوسف (الراحل ابوبكر عزت) موظف بمؤسسة براتب متواضع جدا ويحب نعمة حيث يسعى لخطبتها. وتظهر على نعمة علامات الرضى لحب يوسف…ولكن فقر الحال يكون عائق بينهما. لا نرى فقر الحال يلوث النقاء في قلب نعمة. فحينما يقبل عليها يوم من الايام مسرورا وبين يديه مبلغ من المال سيتيح لهم استئجار ببت به وتأثيثه نرى نعمة تستفسر منه عن مصدر المال. فيجيبها يوسف بانه دبر امره لتشعر بأنه اختلس من وظيفته المبلغ ولم يحفظ الامانة…فتوبخه على قلة امانته وتنهي علاقته معه. ولكن مع كل اسف نرى يوسف غير نادم على فعلته بينما نرى هنا قلب نعمة النقي يبعدها عن مال الحرام…ولعل هذه الثوابت الجميلة التي تنبع من هذه الشخصية المميزة لا تتغير طوال الفيلم مما يضفي منطق روائي راقي ساهم في تجلي الحبكة بصورة رائعة مع احتدام صراع الخير والشر به…فنعمة بالرغم من نقاء قلبها تتعرض لضغوطات غير منطقية بسبب سلوك اولاد اختها المنحرف…ففي يوم من الايام نرى أحد اولاد اختها يسرق من المعلم بسطاوي الدجاج لتحضر لهم والدته الغذاء. فيدفع هذا التصرف المعلم الى تقديم شكوى بحق الشاب و سجنه. تذهب نعمة لعبدالمجيد لكي تطلب منه الذهاب الى قسم الشرطة ليساعد ابنه…و لكنها تجده عاجز عن التصرف و هائب من عواقب القضية. فتجبرها هذه الظروف للذهاب للمعلم بسطاوي للتوسل اليه لكي يتنازل عن القضية. يلبي طلبها المعلم و لكنه يعجب بها…و يقرر طلب يدها.

نرى المعلم بسطاوي يقدم الكثير من الاغراءات لبيت عبدالمجيد لترضى نعمة به كزوج بالرغم من تعدد زوجاته. فيغريهم بالدجاج و زجاجات الخمر و النقود و لكنه لا ينجح بكسب حب نعمة…الى ان تدفع عبدالمجيد الاغراءات و زجاجات الخمر المجانية للكذب على المأذون في يوم زفافها. فحينما ترفض نعمة الزواج من بسطاوي يكذب مع رجاله على المأذون بأن نعمة وكلته و يزوجها بالرغم من ارادتها…مما يدفعها للهرب من منزلها و طلب المساعدة من صديق لوالدها الراحل بمنطقة بعيدة عن منزلها لإيجاد العمل…قدر قاسي جعلها تهرب من ظروف قهرية لتسافر بمفردها الى قرية ريفية بعيدة حيث مزارع الفواكه و العنب ليعرفها صديق والدها على مزرعة محمود بيه (محمود ياسين)…لتعمل في قطف العنب مع نساء القرية و تخزينة في صناديق لاغراض البيع.

يصدر خطئ شخصي عن نعمة يتسبب بطردها من قبل مدير المزرعة فتحي الفكهي (الراحل حسن مصطفى) حينما تقع هي و سلة العنب على الارض. فتجلس نعمة عند باب المزرعة و هي تبكي ليجدها محمود بيه. فيعيدها الى العمل من باب الشفقة عليها. و هنا يبدء حظ نعمة بالتغير الى الاحسن. فيتعرض محمود لحادث و هو يركب الخيل مما يجعل نعمة مع موظفين المزرعة يهرعون لمساعدته. فنعمة مثقفة بعض الشيئ اكثر من زميلاتها فتسهر على شفائه في منزله الشخصي الى ان يصح و يتعافى. في حقيقة الأمر ربما قليلون يدركون ان الحب في قلب محمود بدء منذ لحظة اهتمام نعمة به بعد الحادث…فللذي يتابع مجريات الفيلم سيتنبه بأنه ابتدأ بالوثوق بها بعد ان لمس معاملتها الحنونة و الجميلة عليه و مصداقية ربما لم يراها بالذين من حوله….بالرغم من انه لم يدرك هذا الواقع في بداية الآمر إلا انه دفعه للسماح لها بالدخول الى منزله، و طلب منها المبيت به و حتى بعد ان رءاها تقوم بشطف الأرض و تنجيد قطن المراتب و فرش المنزل لم يتكلم بنبره جافة معها اطلاقا…بل بالعكس اعطاها الصلاحيات الكاملة للتصرف بأمور المنزل…و مع مرور الايام نرى ان اهتمام محمود بنعمة و ثقته بها تزداد الى حد كبير..فحتى اعطاها صلاحية بيع المحصول بالرغم من معارضة الفكهي….ربما شعر الفكهي هنا كم ان نعمة نجحت بتملك ثقة محمود و بأن كلمتها اصبحت فوق كلمته…لذلك اعترض في بداية الأمر حين سافر محمود الى القاهرة. و لكن حنكتها و عقلها الاداري نجح بمهمة البيع الصعبة و زاد اعجاب محمود بها…و هنا يجب التوقف عند نقطة هامة جدا و فيصلية بهذا الفيلم….

حينما انتقل محمود الى القاهرة و سلم نعمة شقته الفاخرة لتدير شأنها كانت قد تملكت قلبه بالكامل…و لكنه كان واقع اراد الهروب منه و هذا واضح من طريقة معالجته لهذه المستجدات في حياته. فحينما وصلت عائلة خطيبته من السفر استقبلهم بصورة طبيعية و كأن شيئا لم يكن بينه و بين نعمة…فرحب بهم بصورة حارة و وجه لهم عزومة في منزله تبعتها عزومة لنهى (ايناس الدغيدي) في مزرعته احتفل بها بوصولهم الى مصر. و في هذه النقطة الفيصلية من احداث الفيلم لا نرى علامات اعجاب محمود بنعمة فقط بل نبدء برؤية اعجاب نعمة بمحمود بالمقابل و حتى تضايقها من اخبار علاقته بنهى…و لكن طبيعة عمل نعمة كخادمة في منزل محمود يردعها عن التدخل بشؤنه الخاصة. نرى محمود يلاحظ على نعمة في اكثر من مناسبة حالتها النفسية و قد تغيرت عن سابق عهدها…و لكن لا تبوح نعمة له عن السبب، بل تكتفي بالاحتفاظ بالاسباب لنفسها…الى ان تظهر علامات اعجاب محمود بنعمة بصورة واضحة جدا خلال حديثه مع نهى…فيكثر من ذكر اسمها امامها مما يلفت انتباهها له.

نهى انسانة ذكية جدا. لا نراها تظهر كثيرا في مشاهد هذا الفلم بل تكون كالطيف تظهر لتجسد ارتباط نجحت نعمة بخلعه كليا من قلب محمود. و لكن دورها هام جدا لأنها تكون محطة عابرة او انتقالية في حياة محمود…فحينما تواجهه بحقيقة اهتمامه بنعمة ينكر امامها اية عواطف و احاسيس تجاهها…و لكن مما لا شك به ان اهتمام محمود بنعمة اثار غيرتها لدرجة الجنون فنراها تسيئ معاملتها جدا…فتكلمها باسلوب جاف و توجه لها العبارات الجارحة مما يستفز محمود للدفاع عنها…تتنبه نهى بأنه يحميها منها و تخيره ببن بقاءها بالمنزل و بين بقاء نعمة…فنرى اخيرا محمود يستسلم للأمر الواقع و يرفض الاستغناء عن نعمة.

جمال شخصية نعمة يكمن ببراءتها و طيبتها. فنراها مخلصة لمحمود طوال وقت الفيلم…حب سكن قلبها فاعتنت به و بمصالحه…دخلت قلبه بعفويتها و اخلاصها و طيبتها و جمالها…فربما وجد فيها بساطة لم يجدها في نهى التي انحدرت من الطبقة الارستقراطية…و ربما احب جمالها و شخصيتها الريفية بما قدمت له من قيم لا يجدها بسهولة بالطبقة الشيك التي يختلط بها. لا نستطيع القول إلا بانه الحب…الذي لا يعرف عمر و لا عرق و لا فروقات اجتماعية و لا طبقات اجتماعية…فمتى ما حل في قلبين سيجمعهما من دون اية اعتبارات و حيثيات واستئذان…يتكلم لغة انسانية ملئها قلوب تتيم ببعض تجتمع حول قيم انسانية مشتركة بين جنس البشر…تتكسر حواجز كثيرة امام جبروته و تتلاشى من امامه كل العقبات التي يصطنعها البشر من فروقات اجتماعية و طبقات مصطنعة لا قيمة لها…امام كلمة احبك…و امام لحظات الغزل بين العشاق…

يقرر محمود مصارحة نعمة بمشاعره. و يفعل ذلك بلحظة يجد نفسه غير قادر على كبح مشاعره امامها. تصاب في اول الامر بنوبة خجل عارمة حينما يقرر بمشهد ازالة مكياج زائد عن وجهها…فيبدء بتقبيلها لتنسحب من امامه و هي مصدومة من جرأته. و تتم هذه المصارحة لتتوضح العلاقة بينهما اكثر. و نرى هنا ردة فعل طبيعية و تقليدية من دائرة اقربائه بسبب مهنة نعمة و اصولها المتواضعة. فلا احد منهم في تقبل للوضع الذي يحاول محمود فرضه عليهم…بأنه على وشك التزوج من خادمة منزله…فنرى رفض كبير منهم…و لكن يرفض محمود موقفهم و يمضي بطريقه بالارتباط بنعمة. في حقيقة الأمر اعجبني محمود كيف اعطى قيمة لنعمة امام شقيقته راضية ( الراحلة ماجدة الخطيب) حينما دخلت منزله و رفضت ارتباطه بها. فحينما احتدم النقاش بينهما خرجت بغضب من المنزل فلحقت بها نعمة بمحاولة لإرضاء خاطرها…و لكن تجاهلتها فصرخ عليها محمود و قال جملة رفعت من قدر نعمة امامها…بأن الذي يريد دخول منزله يجب ان يحترم صاحبة المنزل…لا شك ان ما فعله محمود وقع كالصاعقة على عائلته و لكن كان لا بد لهذه العائلة اعطاء خاطر لمحمود و احترام قراره و ارادته بالارتباط بزوجته…اقله بسبب حبه لها…فاذا لم يكن الاحترام لهذه السيدة اقله ان يكون الاحترام لمحمود و مشاعره و احاسيسه نحوها…فسعادت شقيقي بالنهاية و ان يعيش مع من استهوى قلبه هي اهم من المظاهر و حب الارتباط من نفس الطبقة الاجتماعية…فصدقا لا احد يستيقظ من النوم فجاة و يقرر ان يعشق فلان او فلانه…انها مشاعر خارجة عن ارادتنا…

يدخل الفيلم عند هذه النقطة بآخر مشاهده…حينما تقرر نعمة العودة لأهلها لتمهد لمحمود الطريق ليطلبها من ذويها…فتعود اليهم و هي فرحة بانباء عروسها الذي يريد طلبها…لتتفاجئ بانها بيعة كالشاة من دون الأخذ برأيها الى المعلم بسطاوي. تلتزم نعمة و هي حزينة و منكسرة الخاطر و القلب منزل شقيقتها لبضعة ايام مما يجعل محمود يسأل عن اهلها. فيزورها في منزل ذويها و لكن ليصدم بخبر زواجها من بسطاوي. و تحدث مواجهة عنيفة بعض شيئ بينهما ليقرر محمود على اثرها مغادرة منزل عبدالمجيد. حتى نعمة تطلب منه ذلك من دون ان تخبره الحقيقة…بأن الأمر تم من دون معرفتها. يعتكف محمود عن السؤال عن نعمة و نراه بمشهد لاحق يعزم على السفر الى لندن نتيجة صدمة زواج نعمة. و لكن بالمقابل الاوضاع الغلط في منزل عبدالمجيد جلبت لهذا الزواج المشبوه نهاية مأسوية…فيعلم المعلم بسطاوي عن قدوم نعمة الى منزل جمالات و نراه بصورة همجية يقتحم منزل عبدالمجيد ليأخذها بالقوة…و لكن يقوم احد ابناء عبدالمجيد بطعنه بسكين للانتقام منه. مما يجعله يقدم بلاغ في قسم الشرطة لتتوضح الحقيقة بالكامل امام القانون و الشرطة. و تأخذ العدالة مجراها حينما يذهب احد اولاد عبدالمجيد الى محمود و يخبره الحقيقة. فينتهي هذا الفلم النهاية السعيدة بزواج محمود من نعمة.

كمحلل درامي اقيم هذا الفيلم بميزان الاعمال الكبيرة. و لو تم ترشيحه وقت انتاجه بمهرجان كبير لن اعطيه اقل من جائزة احسن فيلم او بالانجيزية besf film و التي يمنح مهرجان كان في فرنسا بموجبها جائزة السعفة الذهبية، لأنني رأيت فيه سيناريو و حوار دسم جدا و تدرج بالاحداث راعى اصول الأدب الروائي و رأيت اداء ممتاز من الممثلين به. و رأيت اخراج متقن لاحداثه…فقد شاهدته ثلاثة مرات لاتاكد بان السيناريو و الحوار تمتع بنضوج ادبي جميل جدا لم يستخف بذكاء المشاهد. و رأيت كم ان الاخراج احسن تقديم العمل حيث ان المشاهد المختلفة للفلم كانت مقدمة بصورة محترفة جدا…بمعنى ان بيئة المشاهد كانت مقدمة بصورة متقنة للغاية…فبيت عبدالعظيم كان قديم و فقير الحال و عكس فقر هذه العائلة كما ان اثاث البيت كان منعدم الحال…كما ان ثياب عائلة عبدالعظيم كانت فقيرة و مهترئة…فالتسعة اولاد كانوا يبيتون بهذا البيت الصغير المتواضع…فقدم العمل محنتهم للمجتمع كما يجب…حتى كانت صدمة عنيفة لي ان ارى الطفلة الصغيرة و هي نائمة بين ابويها عند اقدامهم في سريرهم بسبب قلة المكان…و انظروا فطور العائلة المتواضع من الفول و الخبز و كيف نفذ بسرعة قبل ان يشبع كل الاولاد….هذه كلها تدل على قدرة كبيرة موجودة في سيناريو و حوار العمل و قدرة مخرج كبير استطاع تقديم هذه العائلة بحقيقتها المريرة..و حتى مستوى الحوار بين افراد هذه العائلة كيف كان يفتقر الى ابسط اسس الثقافة…و مشاهد السرقة و الحي السوقي الفقير كلها ساعدت في تقديم بيئة حي نعمة بواقعه….و اعحبني الطريقة التي قدم فيها الراحل الكبير فريد شوقي شخصية عبدالعظيم….و كأن خبرة السنين و الايام السالفة في تاريخه العريق تجلت في هذا الدور الكبير…شخص تائه بين ثقل مسؤلية اولاده و الفقر المهلك من جهة و رشفات الكحول من جهة ثانية لينسى بأن عائلته تجوع و هو غير قارد على توفير حاجاتهم و مسؤلياتهم…

و انظروا كم ابدع المخرج بتقدبم محمود بيه و حياته التي تملئها الرفاه و الترف…فقدمه بين احضان ممتلكاته و مجد ثروته الكبيرة…باشا يمتلك مزرعة فسيحة لزراعة العنب و يسكن قصر كبير يحيطه خدم و حشم…حتى فطوره كان مما لذا و طاب فكانت نعمة تعد له ما لا تقوى على شراء ربعه لتأكل في كل يوم…و اعجبتني بيية بعض المشاهد التي تمت تصويرها في القاهرة…فهذه روعة الراحل هنري بركات بما قدم بهذا العمل…فالشقة التي تمت فيها هذه المشاهد تعكس غنى و بشوية محمود الكبيرة…كانت شقة فاخرة طابقين ليشعر المشاهد بثراء هذا الانسان…و كما اسلفت اكتب ما اكتب من تحليل لأنني شعرت بان اخراج هذا العمل و تصويره هو اخراح و تصوير مراد كبار و السيناريو و الحوار و لوكيشنات التصوير بكل مشاهدها ارتقت لنضوج فريق عمل عرف كيف يقدم العمل بصورة ممتازة…العمل لا يعاب بشيئ بل احتوى على حقائق عن الغنى و الفقر لا تقترن بزمان و مكان…بل سيكون مادة دسمة لأي زمان و مكان….

من امور النقد التي اشعر بأنني اريد الاشارة البها…و انا على يقين بان جزءا من كادر الفبلم متوفي رحمهم الله و اسكنهم فسيح جناته و رزقهم الراحة الابدية بإذنه تعالى..بأن عنوان الفيلم لم يعبر تماما عن موضوع الفيلم…فهو عن قصة حب اكثر من مشاكل الانفجار السكاني…فبالرغم من ان محنة نعمة انطلقت من بيت يعاني الفقر و مشاكل في تحديد او تنظيم النسل إلا اننا شاهدنا الحبكة تتجه اكثر لتعالج موضوع حب محمود لنعمة بصورة جوهرية اكثر…و كم كنت اريد و اشتهي ان اقابل الراحلة الكبيرة فاتن حمامة قبل وفاتها لاسلم عليها…فهذه الماردة قدمت ادوار رائعة كثيرا بالسينما المصرية مما استحقت عليها دور سيدة الشاشة العربية بجدارة لا شك فيها…فأقول من نقد و هدفي هو نقد اقدمه للرأي العام و لكي نستفيد من تجارب الكبار الذين سبقونا…بان الراحلة فاتن حمامة لم تعطي دور نعمة حقه بالكامل…فلم نرى سوقية نعمة بكل طاقتها و طاقة الدور الممكنة بالرغم من انها انحدرت من بيية شعبية و حارة متواضعة…فشعرت بانه تمتع ببعض التهذيب مقارنة مع ما يمكن ان نراه من سيدة تربت بحارة شعبية…فهل كان الراحل هنري بركات غير قادر على مساعدة الراحلة فاتن حمامة بتقديم دور نعمة بكامل ابعاده السوقية و استخدام كامل طاقات فاتن حمامة و خبرتها بتقديم هذا الدور بكل امكانياته خلف الكاميرا؟ اشعر و كأن موهبة عملاقة مثل فاتن حمامة كانت يمكن ان تقدم هذا الدور بواقعية اكثر و لكن لوهلة و انا اتابع ادائها الرأئع بانها قدمته بقالب كلاس او شيك قليلا…قدمته مع قليل من التهذيب بالحركة و الكلام و تفاعلها مع محمود بيه…ابقت على القليل من حس الليدي به؟ و لذلك شعرت ان هذه العوامل اخذت من واقعية الدور قليلا…

بنهاية المطاف اكرر اعجابي الكبير بالعمل…فنحن بالفعل امام عمل يبرهن للعالم العربي كم ان السينما المصرية ناضجة و استطاعت تقديم الاعمال التي نافست اروع الاعمال الدرامية العالمية و هذا مما لا سك به واحد من الاعمال التي أغالي بها كمحلل و كناقد درامي…و كم اشعر بامتنان في داخلي على ما قدمته خبرة الفنانين الكبار و مخرجين كبار كالراحل هنري بركات…و الذين مثلوا و قدموا هذا العمل، بل اعطونا اعمالا كثيرة خالدة في ارشيفهم اللامع لنستفيد منها..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.