صحيفة الكترونية اردنية شاملة

حاجة الأردن للإستفادة من التجربة البرازيلية الاقتصادية

يحتاج الأردن والدول العربية أن تسفيد من تجارب بعض الدول التي واجهت ظروف تنموية صعبه للغاية ثم استطاعت فيما بعد أن تحقق نجاحا تنمويا كبيراً مثل البرازيل ، وتعد التجربة البرازيلية الناجحة في التنمية الاقتصادية ذات أهمية خاصة لأنها تأتي من دولة نامية ذات ظروف مشابهة، دولة واجهت ظروفًا تنموية صعبة ثم استطاعت أن تتغلب عليها وحققت نجاحًا كبيرًا، وقد استطاعت تخطي فترات عدم الاستقرار السياسي التي شهدتها منذ نهاية فترة الحكم العسكري في عام 1985م، ونجحت في تجاوز عقود طويلة من التردي الاقتصادي والارتهان للمؤسسات المالية العالمية وبخاصة البنك وصندوق النقد الدوليين، كما حققت البرازيل نجاحات في قطاعات محددة مثل مكافحة الفقر والجوع والصحة والتعليم والطاقة والزراعة ، والبرازيل الآن من أهم القوى الصاعدة في العالم، وعضو في تجمع (البريكس) الذي يمثل قوة كبرى في الاقتصاد العالمي، ، ولدى البرازيل أضخم اقتصاد في أمريكا اللاتينية، وثاني أكبر اقتصاد في الأمريكتين، وسابع أكبر اقتصاد في العالم ، وقد حققت هذا التقدم الاقتصادي بعدما كاد ينهار اقتصادها القومي عام 1999م، وكانت على شفا الإفلاس مع انخفاض قيمة الريال البرازيلي، وضعف معدل النمو الاقتصادي، وارتفاع معدلات التضخم والدين العام والبطالة والفقر إلى مستويات غير مسبوقة ، والبرازيل اليوم من الدول المُصنّعة للطائرات والسيارات، وبعد رفض البنك الدولي إقراضها قبل أعوام فإن البنك الدولي مديون اليوم للبرازيل بعشر مليار دولار.
وقد شهد النظام السياسي في البرازيل تحولات كثيرة منذ إنتهاء الحكم العسكري عام 1985 ،وقد برز اسم الرئيس “لولا دا سيلفا” الذي تولى رئاسة البلاد لمدة ثماني سنوات (2003 – 2010) حيث تقدمت البلاد خلال تلك الفترة تقدماً كبيراً على الصعيدين السياسي والاقتصادي وتحولت إلى دولة اقتصادية كبيرة،وقد لعبت عدة عوامل في نجاح التجربة البرازيلية أبرزها: ثقة الشعب البرازيلي بداسيلفا القادم من رحم الفقر، الإعتماد على المشاركة الشعبية في تنفيذ البرامج ، توافر عنصري الشفافية والمساءلة ، وجود مناخ يتسم بالديموقراطية وإرادة سياسية في مكافحة الفساد.
وحققت البرازيل نجاحا اقتصاديا من خلال مجموعة من السياسات أهمها التالي:
– السياسات الموجهة للسيطرة على الاختلالات المزمنة في الاقتصاد وتنشيطه وتحفيز النمو والاستثمار،وتم وضع خطة إقتصادية سميت”الخطة الحقيقية” في عام 1994 واشتملت على تحرير التجارة وبرنامج لخصخصة المشروعات العامة وسياسات للسيطرة على التضخم وجذب رؤوس الأموال الأجنبية وتخفيض العجر في ميزان المدفوعات، كما اتخذت إجراءات أشد صرامة للسيطرة على التضخم وعجز الموازنة من خلال ترشيد الإنفاق الحكومي وإدخال إصلاحات جذرية في السياسات المالية للحكومة، واقترن هذا بمجموعة إصلاحات مؤسسية في التشريعات الاقتصادية، وفي النظم التي تعمل بها أجهزة الدولة، لتوفير المقومات المؤسسية التي تساعد على توسيع قاعدة الاستثمار وتحقيق النمو المنتظم .
واستهدفت السياسات تحفيز النمو وتوفير بيئة جاذبة للاستثمارات والقطاع الخاص، واستطاعت الدولة أن توازن هنا بين تشجيع الاستثمار في المشروعات الكبيرة وبين توفير الدعم والمساندة للمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر لإتاحة فرص توظيف متزايدة ومضطردة تمتص بها البطالة والوافدين الجدد إلى سوق العمل ولدمجها في الاقتصاد الرسمي وزيادة روابطها وتمكينها من الإسهام الفاعل في التنمية.
– سياسات مكافحة الفقر والمرض وتحقيق العدالة الاجتماعية وتعتبر هذه السياسات هي الأهم في نجاح التجربة البرازيلية، واشتملت هذه السياسات على ثلاثة عناصر:
1. سياسة الحد الأدنى للأجور، كان أبرز سماتها أنها حافظت على القيمة الحقيقية للأجور، من خلال ربط الحد الأدنى بمعدل التضخم، وتعديله دوريا (سنويا أو خلال مدد أقصر) في ضوء التغير في هذا المعدل، و ساهمت هذه السياسة في تحسين مستوى معيشة قطاع واسع من العاملين في القطاعين الخاص والعام .
2. سياسة الضمان الاجتماعي، وشملت العاملين في القطاعين الخاص والحكومي،وصغار المزارعين في الريف، والعاملين الفقراء في الحضر، ومثلت وسيلة فعالة لتقليص الفقر بين المسنين.
3. المساعدات الاجتماعية،من خلال تقديم الدعم النقدي للفقراء الذين تقل دخولهم
بمقدار 25% عن الحد الأدنى للأجور، ولكل الأعمار من ذوي العاهات والاحتياجات الخاصة (الشديدة)؛ وللأسر الفقيرة وفق شروط يتعلق أهمها بالدخل وحجم الأسرة وعدد الأطفال مع اشتراط التحاقهم وانتظامهم في المدارس وحصولهم على التطعيم الصحي، وساهمت السياسات السابقة في زيادة الدخول الحقيقية للفقراء، وبالتالي في زيادة قدراتهم الشرائية والإسهام في تنشيط الطلب في الاقتصاد وتوسيع قاعدته.
4. وضع برنامج تقشفي يتمثل في إزالة الدعم عن السلع المطلوبة للأسر الفقيرة والتي تُقدر بنسب( 40 %)، وإعطاء دخل شهري لهذه الأسر بمقدار (730 ) دولار، ورفع مقدار الضرائب على جميع الأطياف عدا الـ (40 %).
5. نظام صحي موحد ؛ ويستند إلى مفهوم أن الصحة حق للجميع، وواجب على الدولة، وهو ما أدرج في مضامين دستور البلاد، كما أنه يتيح وصول المواطنين مجاناً إلى مختلف الخدمات الصحية في المستشفيات العامة والخاصة.

– سياسة الإصلاح الحكومي حيث يعتبر الإصلاح الحكومي أحد الركائز الأساسية التي اعتمدت عليها البرازيل في سياستها لتحقيق التنمية الاقتصادية، واشتملت الحزمة على مجموعة من العناصر أهمها :
أ- إدخال تغييرات جوهرية وجذرية في أدوار الدولة، وهيكل ونظم عمل الحكومة لتطوير أدائها وتحسين اقتصادياتها وجعلها داعمة ومحفزة للنمو مع تحقيق العدالة الاجتماعية .
ب- استحداث مجموعة من المجالس والهيئات الرقابية أو المنظمة للأسواق، والخدمات والمرافق العامة التي يقدمها أو يديرها القطاع الخاص، وللخدمات التي تقدمها الحكومة، وللقواعد المتعلقة بضمانات الاستثمار، إضافة لتطوير الهيئات الخاصة بالإحصاء والتقاعد وحقوق الملكية والبحوث وغيره.
ج- إدخال تعديل دستوري عام 1998 يدخل مرونة في نظم الإدارة والموارد البشرية في قطاع الدولة تسمح بتعددها، ويغير من نظام التثبيت الوظيفي ، ويسمح للحكومة بترشيد قرارات التوظيف والإحالة للتقاعد، بناء على الحاجة الفعلية واستنادا إلى الكفاءة.
د- إدخال نظم الإدارة القائمة على النتائج في قطاع الدولة، يشمل التخطيط للأهداف المحددة للأداء، وقياس الإنجاز المتحقق بشأنها والمحاسبة والمسئولية عن النتائج في كل مستويات المؤسسات التابعة للدولة .
هـ- تطوير نظام التخطيط المالي والموازنة العامة والنظام المالي للحكومة عامة، بما في ذلك تحقيق المساءلة عن النتائج، وزيادة الشفافية والرقابة في المعاملات المالية للحكومة، وتوجهت السياسات المالية للحكومة لجعل الإنفاق الحكومي محفزا للنمو ومحققا للعدالة الاجتماعية ومستهدفا تحسين جودة الخدمات العامة.
وبذلك فإن أهم ما ميز التجربة البرازيلية :
– القيام بإصلاحات سياسة وإقتصادية جنبا الى جنب ، فكان اهتمام البرازيل بترسيخ وتدعيم أسس النظام الديمقراطي، وتطبيق برنامج صارم للإصلاح الاقتصادي مع الحرص الشديد على تضمين الأبعاد الاجتماعية فيه.
– أن الإصلاح الاقتصادي يتطلب تبني استراتيجية شاملة للتنمية الاقتصادية، وليس مجرد خطة لعلاج الاختلالات، وفي هذا الإطار، كانت المصارحة والمكاشفة عنصرًا أساسيًا لنجاح التجربة البرازيلية، عندما أعلن الرئيس السابق( دا سيلفا ) عن أن سياسة التقشف هي البديل الأول والأمثل لحل مشاكل الاقتصاد، وطلب دعم الطبقات الفقيرة له والصبر على هذه السياسة، وكان ذلك سببًا في الدعم الشعبي الكبير له.
– أن التوافق السياسي والمجتمعي، وخاصة خلال مرحلة التحول الديمقراطي، يعد ضرورة حتمية لتمرير أية سياسات اقتصادية قد يترتب عليها متاعب اقتصادية للسواد الأعظم من المواطنين، لاسيما الطبقات الدنيا والفئات الأكثر فقرا .
– أن نجاح عملية التحول الديمقراطي يتطلب توافقاً بين مختلف القوى السياسية على النظام الديمقراطي بأسسه ومبادئه وضوابطه،
كما يتطلب وجود معارضة سياسية حقيقية وموحدة في تحركاتها في مواجهة بعضها البعض وتجاه النظام، وليست منقسمة على نفسها.
– أن النجاح في إقامة نظام ديمقراطي يتمتع بالشرعية يصعب تحقيقه ما لم يكن الدستور الذي يرسم ملامح هذا النظام موضع توافق بين القوى السياسية والاجتماعية الأساسية في البلاد، وقد استغرقت عملية إعداد وكتابة الدستور من جانب الجمعية الدستورية تسعة عشر شهرًا، وكان ذلك بمشاركة مجتمعية واسعة.
– هناك علاقة قوية بين النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي، وهذا يؤكد أهمية وجود نظام ديمقراطي مستقر لتوفير البيئة المناسبة لتحقيق النمو الاقتصادي، مما يعطي دلالة واضحة على أن تحقيق التحول الديمقراطي يعد ضمانة ضرورية للنمو.
– تعتبر التجربة البرازيلية فى مجال الدعم النقدى ، واحدة من أفضل التجارب فى العالم، فوفقا للنتائج التى حققها برنامج الدعم النقدى «منحة الأسرة»، أو الذى نفذته البرازيل فى أوائل 2003، خرج أكثر من (35) مليون شخص برازيلى من الفقر المدقع.
– تأكيد التجربة على أهمية دور الدولة كمنظم للأسواق، وموفر للبنية الأساسية، وضامن لتحقيق التنمية البشرية، وذلك من خلال قيام الدولة بتطبيق برامج المعاشات والتحويلات النقدية المشروطة لمكافحة الفقر، وتقديم إعانات بطالة للفقراء، والاهتمام بالمشروعات والقروض الصغيرة‏، والاستثمار في التعليم والصحة، إلى جانب الاهتمام بتنمية الأقاليم المهمشة وتحقيق العدالة بين مختلف الولايات.
– أوضحت التجربة كيف يمكن تحقيق النجاح الاقتصادي دون الالتزام الصارم بالسياسات الاقتصادية الليبرالية، وذلك من خلال استقاء الحلول المحلية للمشكلات، مما يعني أن التنمية ليست لها وصفة سحرية تصلح للتطبيق على جميع البلدان؛ فلكل بلد نمط التنمية الخاص به، وهذا ما حققته البرازيل من خلال ترسيخ أسس العدالة الاجتماعية دون التخلي عن اقتصاد السوق، وتطوير الدور الإنمائي للدولة دون تعطيل دور الشركات الخاصة.
– إمكانية التزاوج الناجح بين السياسات الاقتصادية الموجهة للسيطرة على الاختلالات المزمنة في الاقتصاد وتحفيز النمو والاستثمار من جهة وسياسات مكافحة الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية من جهة أخرى، فمن ناحية وفر النمو الاقتصادي المواردالمالية اللازمة للاستثمارفي الصحة والتعليم، وخلق نوعاً من الترابط الوثيق بين السياسة الاقتصادية والاجتماعية، ومن ناحية أخرى، كانت العدالة الاجتماعية عاملاً محفزاً للنمو الاقتصادي؛ حيث ساعدت البرامج الاجتماعية بشكل مباشر على رفع مستوى الدخل، وتحسين مستوى معيشة الطبقات الفقيرة، وزيادة حجم الطبقة المتوسطة، التي أصبحت تمثل قوة شرائية كبيرة، ساهمت في ازدهار المشروعات الإنتاجية الوطنية ومثلت بديلًا عن السوق الخارجي، لذلك فإن أحد مصادر قوة الاقتصاد البرازيلي وجود سوق محلي قوي .
وختاما يمكن القول أن ما حققته البرازيل من إنجازات كبرى خلال فترة زمنية قصيرة، يثبت أن التقدم والنهضة هي أمور يمكن تحقيقها، وأن التخلف ليس حتمياً، مما يشير إلى إمكانية الاستفادة من هذه التجربة لاستنهاض همم التنمية في دولنا العربية .

التعليقات مغلقة.