صحيفة الكترونية اردنية شاملة

الترتيبات الإئتمانية مقابل الإصلاح الاقتصادي

اللوجوء إلى صندوق هو بمثابة إقتراض من مؤسسات دولية، ميزته الإنخفاض النسبي لسعر الفائدة، أي انخفاض كلفة الدين، من جهة، وتصنيفه المالي أنه ترتيب أو إئتمان أو دين قابل لإعادة النظر والجدولة في الحالات الطارئة، من جهة أخرى

يخلط البعض بين ما يُسمى بالترتيبات الإئتمانية لصندوق النقد الدولي وبرامج الإصلاح الاقتصادي بمفهومه الشامل، وقد بات التقليد المعهود أن تَنْسِبْ الحكومات، حول العالم، كل ترتيب للحصول على قرض من الصندوق، على أنه برنامج إصلاح اقتصادي بالتعاون معه، أو مفروض منه. وهو أمرٌ يساعد الحكومات إلى إقناع العامة على أنها مغلوبةٌ على أمرها. إلا أن هناك مجموعة من الحقائق على الأرض يجب توضيحها، ولعل جميعها قضايا ابتدعتها الحكومات في العام الثالث، هرباً من حقيقةَ أنها تفاوض الصندوق على قروض يجب تسديدها، وفق برنامج ومشروطية تُحَتِّمُ السداد وتحفظ لصاحب الدين، أو الدائن، حقه في استرداد أمواله، وخلافا لذلك يقع المدين تحت طائلة مسؤولية عدم الحصول على ما يُسمى شهادة سلامة الأوضاع، أو ختم الصندوق بسلامة الأوضاع Fund Seal of Approval. وبالرغم من أن اللوم يقع دوما على الصندوق وعلى سياساته وبرامجه، إلا أن الحقيقة المُرَّة تقول أن اللَّوم يقع فقط على الحكومات التي تتعهد ببرنامج وسياسات وإجراءات، بهدف سداد الترتيب الإئتماني، أي الدين، ويوافق الصندوق على تلك الإجراءات والسياسات.

ولتوضيح ما سبق فعلينا أن نعرف أن الدول الأعضاء في صندوق النقد الدولي، تلجأ إليه للحصول على تمويل، أي قروض ضمن ترتيبات معينة، بعضها تتعلق بحقها كعضو والبعض الأخر تُسمى ترتيبات إئتمانية بمسميات مختلفة منها الطارئ ومنها التصحيحي، ومنها لمعالجة العجز المالي للموازنة أو عجز  الحساب التجاري لميزان المدفوعات، أو لتعزيز استقرار العملة. واللوجوء إلى الصندوق هو بمثابة إقتراض من مؤسسات دولية، ميزته الإنخفاض النسبي لسعر الفائدة، أي انخفاض كلفة الدين، من جهة، وتصنيفه المالي أنه ترتيب أو إئتمان أو دين قابل لإعادة النظر والجدولة في الحالات الطارئة، من جهة أخرى. وهو أيضاً وبلا شك قرض سياسي، إلى حد كبير، حيث يتطلب الحصول على الدين موافقة مجلس إدراة الصندوق، والذي تُسيطر عليه الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، ما يعني، في معظم الحالات،  ضرورة أن تكون علاقة الدولة المُقتَرِضه بإمريكا علاقة مستقرة ومقبولة سياسيا، حتى تتمكن الدولة من تمرير الحصول على القرض. الصندوق بدوره يحصل على أمواله من الدول الأعضاء فيه، أي انه يقترضها، وإن كان بكلف قليلة للغاية أو بدون كلف، ولكنه في النهاية يحصل على أموال الغير وعليه المحافظة عليها، وسدادها، وهو يتكلف في إدارة تلك الأموال مبالغ أيضاً، ولهذا  فإن قروض الصندوق ليست مجانية، وهي أموال الأخرين. الشاهد هنا من كل ما سبق، أن الصندوق ليس دار رعاية للدول المحتاجة للنقود والقروض، وهو بالتالي يعمل كبنك، وله دور الوساطة بين المُقرض والمُقترض، ومن حق الوسيط أن يضمن استرداد أمواله من المدين. بيد أن معظم المدينين للصندوق دولٌ وصلت إليه بعد تشوه صحة اقتصادها، وبعد تخبط سياساتها الاقتصادية، بسبب ضعف أو عدم حصافة أن عبث صُنّاعُ القرار الاقتصادي في تلك الدول، وبعد ان وصل العبث إلى حد عدم القدرة على تسيير دفة الاقتصاد. ومن هنا، فعند اللجوء إلى الصندوق، يطلب الأخير من الدولة المعنية تقديم مراجعة لحالة الاقتصاد، ويُرسل من أجل ذلك فريقه الفني للمراجعة وإعداد تقريرٍ حول الحالة، ومن ثم يستمعُ الفريقُ الفني للصندوق الى طلبات الدولة من القروض، ويطلب منها تقديم ضمانات ومقترحات وكيفية السداد، وتلل الضمانات تُقَدّْم عبر رسالة تُسميها إدبيات الصندوق “رسالة، أو خِطاب، النوايا” Letter of Intent ، وخِطابُ، أو رسالةُ النوايا، من المُفترض أن تُصاغ من قبل خبراء ومختصين داخل الدولة، يعلمون ما يمكن وما لا يمكن تحقيقه، ومن ثَمَّ يُوقِع عليها كل من وزير المالية، ومحافظ البنك المركزي للدولة. وخِطاب النوايا بالتالي يشملُ مجموعة تعهداتٍ وإلتزماتٍ، بالقيام بإجراءات مالية، وسياسات اقتصادية، تؤدي إلى تحسين تحصيل الدولة للمال، أي تحسين قدرة الدولة على سداد ما اقترضته من الصندوق، ومن غيره. وضمانا لقيام الدولة بتلك الإجراءات والسياسات، والتي تُسميها الدول برنامج إصلاح بالتعاون مع الصندوق، تجّْميلاً لها، فإن الصندوق يقوم بالإفراج عن الدين المُتفق عليه مع الدولة المعنية في شكل شرائح مُبرّْمَجَة، من حيث التاريخ والقِيَّمْ. فيدفع دفعة أولى بعد وصول خِطاب النويا، وبعد موافقة مجلس إدارته على الخِطاب، ثم  يُقَدّْم دفعات متعدد بعد الانتهاء من كل اجراء. فمثلا يدفع 25% من قيمة القرض بعد وصول خِطاب النوايا وموافقة مجلس الإدارة على تلك الرسالة، التي يدرسها الصندوق، وتكون متوافقة مع تقرير المراجعة الذي تم إعداده من قبل فريقه الفني، ثم يُفْرِج عن الدفعة الثانية بعد الانتهاء من بعض الإجراءات السريعة التي تم طلبها من الحكومة المعنية، كأن يتم الإفراج عن الدفعة الثانية بعد رفع ضرائب المبيعات على بعض السلع، أو وقف بعض أوجه الصرف الجاري مثلا. مما سبق، أردت فقط أن أوَضِّح أن الصندوق كغيره، من الدائنين، بنك يهمه سداد المدين أقساط القروض التي عليه. وإن طبقنا على أنفسنا، فإن الشخص إن لجأ لبنك لتمويل مشترياته، أو استثماراته في عقار أو في سيارة أو في رحلة سياحية، يتوجه إلى كل من يعرف للحصول على القرض، بل ويدعو الله أن ييسر له ذلك القرض، وعند السداد، وبسبب ضيق الحال، أحيانا، يلوم البنك أكثر مما يلوم نفسه، على سوء الإدارة وضعف التخطيط. مع أن البنك لا يمانع أن تُحسّنْ أوضاعك، وأن تُرتب أمورك، إلى الدرجة التي تجعلك تُسدد ديونك مبكراً، حتى قبل أن تنتهي المدة، وهو لا يمانع أن تُصبح في وضع أفضل، فتضع ودائع فيه ليقوم بدوره بإقراضها للغير. ليس المقصود هنا، الدفاع عن البنوك، أو الصندوق، ولكن علينا أن نعلم أمرين محددين، الأول أن الترتيبات الإئتمانية ليست برامج إصلاح، ولكنها قروض عليها شروط سداد، قروض نلهث ورائها، وشروط نضعها بإيدينا ويوافق عليها المُقّرِض، الذي بدوره لا يملك المال ولكنه وسيط فيه. والأمر الثاني، أن الإصلاح الاقتصادي قضية تُقررها الدول، وتُقرر مدى جديتها فيها، وأن وضع برامج الإصلاح يحتاج إلى مختصين، ويتطلب ثلاثة قضايا، لا يسمح المجال لتوضيحها في هذه العجالة. وتلك هي: ضرورة أن يشمل الإصلاح مراجعة كافة السياسات المالية والنقدية والتجارية في الدولة، وأن يُغطي كافة القطاعات الاقتصادية الخدمية والصناعية والزراعية على إمتداد المساحة الجغرافية للدولة، ذلك أولا. وثانياً، لا بد أن يشمل الاصلاح إجراءات آنية، يشعر بها المواطن على الفور، وخلال فترة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، وأخرى استراتيجية تحتاج إلى وقت لتحققها، وفي الحالتين فإن الإصلاح يعني تَحَسُنْ الأوضاع بشكل يشعر به العامة، وعليه فإن الإجراءات التي تؤدي إلى زيادة المديونية، وارتفاع البطالة، وتراجع النمو، ليست برامج إصلاح، وإنما نتائج لسوء الإدارة وسوء إختيار السياسات، وسوء تطبيقها. ما يعني أن إعداد خِطاب النوايا لم يتم بالتشاور مع خبراء ومختصين من الدولة، ولم يراعي خصوصية الحالة الاقتصادية وقت إعداده، وبالتالي ينطبق عليه المثل المأثور القائل “يداك أوكتا وفوك نفخ”. وأخيرا وليس آخرا، فإن الاصلاح عملية مستمرة، متتابعة،  لا تنتهي بإنتهاء برامج القروض الدولية، فهي عملية مستمرة ديناميكية متغيرة، تحتاج إلى مراجعة دائمة وتحتاج إلى تقييم دائم، وتحتاج إلى سياسات مستدامة لا تتغير بتغير الأشخاص والفترات. ولعلنا نعود إلى الحديث حول سياسات الإصلاح في مقال آخر. ويبقى القول، أن الحكومة الحالية ورثت ترتيبات إئتمانية، بها إجراءاتٌ مُتعَهَدٌ  بها سابقاً، ضمن وثائق واضحة، وقد وجدت نفسها بين مطرقة الشارع وسنداد الترتيبات الإئتمانية. وبالرغم من عدم القدرة على لومها، وعدم إمكانية تحميلها وزر من سبق، بيد أن إجتهادي الشخصي يقول، أنه بالقدر الذي يجب أن نهتم به بالوفاء بالإلتزامات، وبمصداقيتنا المالية، إلا أن واقع الأمر أيضاً يشير إلى أن العلاقة مع صندوق النقد الدولي حول العالم تسمح بإمكانية الجلوس والتفاوض وإعادة الاتفاق على بعض الشروط، بل وصياغة إتفاق جديد بمشروطية أقل حدة، مع إمكانية إعادة جدولة بعض الدفعات، بل والحصول على فترات سماح، وبعض الأموال الإضافية، ويضاف إلى ذلك إمكانية الحصول على شهادة سلامة الأوضاع، والتأهل من خلالها للحصول على مساعدات مالية وقروض مُيَسَّرة من بعض الدول حول العالم. لعلنا اليوم نحاول أن نتبع هذا الطريق، فنلتقط به أنفاس الاقتصاد، ونحصل منه على قسط من الراحة، ولنعمل خلال ذلك على برنامج إصلاحٍ اقتصاديٍ وطنيٍ، حقيقيٍ، تشاركيٍ، تنمويٍ، ومستدام.

 

[email protected]

 

التعليقات مغلقة.