صحيفة الكترونية اردنية شاملة

العفو العام والأمراض الاجتماعية

الجريمة هي الجزء الأكثر صخباً مما يدعوه المختصون الاجتماعيون بالأمراض الاجتماعية في علم المشكلات الاجتماعية. ويقصد بالأمراض الاجتماعية: تلك الاختلالات الحادة أو المزمنة في العلاقات والتفاعلات بين البشر

فرَضَ قرار العفو العام، وتداعيات توسيعه المتوقع، حواراً مجتمعياً حول موقف المجتمع الاردني من المواطن الخارج عن القانون: هل هو ضحية ينبغي منحه فرصة ثانية أم مذنب ومتعمد بأسبقيات؟.

في الواقع، فان الجريمة هي الجزء الأكثر صخباً مما يدعوه المختصون الاجتماعيون بالأمراض الاجتماعية في علم المشكلات الاجتماعية. ويقصد بالأمراض الاجتماعية: تلك الاختلالات الحادة أو المزمنة في العلاقات والتفاعلات بين البشر، سواء داخل الاسرة أو العمارة أو الحي أو الشارع، أو في المدرسة والجامعة، أو على منصات التواصل الاجتماعي، أو في المستشفى وعيادة الطوارئ، أو على الطرق العامة للمركبات، أو في شركات الأعمال والوزارات الحكومية، وغيرها.

النظرية الليبرالية الغربية في الجريمة والانحراف تفترض ان الفرد كائن عقلاني، وبالتالي فهو مسؤول بصورة كاملة عن تصرفاته الخارجة عن القانون، بما فيها عدم سداد القروض المصرفية والجريمة الاقتصادية والادمان على المخدرات. ومن هنا كان التركيز على العقاب الرادع وعلى تقوية وتطوير تشريعات ومؤسسات الامتثال الى القانون. حديثاً، أدخلت الدول الغربية مفهوم التأهيل والاصلاح الفردي.

هذه النظرية الليبرالية تستند الى نظرة فردية أو ذرّية للمجتمع البشري Atomistic View. وأعني بالنظرة الفردية ليس فقط تمتع الفرد بالعقلانية والمعلومات الكاملة (حتى ولو كان في مرحلة الطفولة والمراهقة؟) وانما أيضاً استقلال مصالح الأفراد بعد انزال العقوبة. بمعنى ان تنفيذ العقوبة على فرد معين لن يؤثر سلبياً على رفاهية زوجته وأبنائه ووالديه وافراد عائلته النووية والممتدة، ولن يؤثر ذلك سلبياً على مؤسسة أعماله والتزاماته المالية لدى البنوك والأصحاب، وغيرهم من الأفراد والمؤسسات المرتبطين به بعلاقات شتى.

كما تفترض النظرية الفردية أو الليبرالية ان الشخص سيرتدع بعد تنفيذ العقوبة عليه وسيصبح مواطناَ صالحاً دون اجرام لاحق، علماً بأن بعض الاحصاءات المتوفرة تشير الى ان نحو 40% من نزلاء مراكز الاصلاح في الاردن مكررين للجريمة.

ضمن علم الجريمة وعلم الاجتماع، فقد أُنتقدت النظرية الليبرالية في اسسها وافتراضاتها من قبل نظريتين: نظرية الدفاع الاجتماعي ونظرية النظم. كلاهما يرى -من منظور واقعي موضوعي- ان الفرد هو “جزء” من “كل”، وأن الأجزاء متداخلة وليست مستقلة، وأن “الكل” يساهم في تحديد طبيعة “الجزء”، وأنه لا يمكن تفسير سلوك الفرد المنحرف “الجزء” دون الاحاطة بطبيعة المجتمع أو حالة الاقتصاد أو “الكل”، وان المجتمع ليس مجرد مجموع أفراده المستقلين والعقلانيين بل هو شبكة من الأفراد، العديد منهم في مرحلة الطفولة والمراهقة والشباب، والمرتبطين حالياً أو مستقبلاً بعلاقات أمامية وخلفية. هذه هي النظرة العضوية الى المجتمع.

ليس هذا المقال مخصص لاثبات اي من النظرية الليبرالية ونظرية الدفاع الاجتماعي أكثر موضوعية، ونود أن نسمع رأي الخبراء الاجتماعيين وعلماء الجريمة، وأيضاَ وجهة نظر مراكز الفكر ودوائر الدراسات في بلدنا- الذي نهتم بعلاج أمراضه الاجتماعية قبل استفحالها.

لكن يمكن القول بأن النظرية الليبرالية ليست معصومة عن الخطأ وأنها تعاني من جوانب اخفاق واضحة خصوصاً عند تطبيقها على مجتمعاتنا العربية حيث: (1) نسبة الطفولة والمراهقة والشباب الهش مهيمنة على هيكل السكان، و(2) ضعف المؤسسات الرسمية للعون الاجتماعي (مثال: دعم الأسر بلا عائل ودعم المدمنين على المخدرات) وندرة مواردها المالية والبشرية مقابل نظيرتها في المجتمعات الغربية  الغنية، و(3) ضعف منظومة التأهيل أثناء فترة العقوبة وبعدها.

ودون تبني نهج تبريري أو بالمقابل اعتماد تفكير معتمد على الرغبة، يمكن القول كذلك بأن الفرد -خصوصاً في مرحلة الطفولة حتى سن 20 عاماً- قد لا يملك العقلانية الكاملة والمعلومات المطلوبة لاتخاذ القرار المناسب في الأجلين القصير والطويل، والفرد قد يتخذ قرارته تحت وطأة العواطف أو الضغوط النفسية والمالية والمعيشية المُلحة والمتنامية، أو بسبب ضعف مؤسسات التنشئة والتربية الاجتماعية- الأسرية والاعلامية والتربوية والثقافية والدينية- خصوصاً في فترة طفولته حيث الأم تعمل، والمدرسة غير معنية بالتربية، والاعلام حرٌ، والصاحب ساحب، و….

كما انه من الواضح أن انزال عقوبة السجن الممتد على الآلاف من الأفراد سيولد آثاراً سلبية وغير مباشرة وغير متوخاة على آلاف الاسر، وعلى مؤسسات الدعم الاجتماعي (مثال: صندوق المعونة الوطنية ومؤسسات حماية الاسرة ودور الرعاية الإيوائية للمسنين)،  وأيضاً كلفاً نقدية مباشرة على مؤسسات تنفيذ القانون قبل اصدار الحكم القضائي وبعده (أقدرها بألف دينار شهري لكل حالة قانونية). هذا سيرهق الموازنة العامة كتعويض عن تفكك وظائف الاسرة.

الخلاصة: لابد من الاهتمام الأكبر بقضايا المجتمع والانحراف الاجتماعي والالتفات الى “العقلانية الاجتماعية” عند اتخاذ السياسات العامة والقرارات المالية والاقتصادية. ومن الأهمية بمكان تقوية مؤسسات التنشئة والضبط الاجتماعي لجيل المستقبل، وأهمها مؤسسات الأسرة والحضانة والمدرسة والاعلام والمسجد، وذلك ضمن تشريعات الاحوال الشخصية والاصلاح الأسري، والاصلاح التربوي وادارة و”تطوير” المناهج، وتعليمات ادارة المساجد والاعلام، وغيرها.

فالوقاية خير من العلاج، ودرهم وقاية خير من قنطار علاج. والنظرية الليبرالية الصرفة تفتقد لهذه الحكمة الرائعة والفعالة في بناء المجتمعات والدول، وستولد الليبرالية غير المقيدة بالقيم والأخلاق أمراضاً اجتماعية متراكمة وأعباء مالية كبيرة في الأجل الطويل (انظر مقال سابق للكاتب: لماذا يجب أن نقلق من “القلق”؟) .

التعليقات مغلقة.