صحيفة الكترونية اردنية شاملة

عمّا تبقى من فرصتنا الأخيرة

مع تسارع تعقيد المشهد الخارجي و إنعكاساته على الداخل في المجالات جميعها ، يتزايد السؤال عن المخارج ؟ و إنّ إستشراف المستقبل ليقضي بالعودة للماضي ، فالأردن الذي لم ينعم بالراحة منذ تأسيسه معايشا الازمات الداخلية و الخارجية لم ينجو عبثا بل بذكاء سياسي و خطى واثقة ، فنجح في الحفاظ على كرامة شعبه مجنبا إياه ويلات تجرّع أشقّاء لنا مرارتها و ما زالوا .

إنّ العلاقة مع إسرائيل في أسوأ أحوالها ، فاليمين الرافض لمعاهدة السلام باشر سياساته التصعيديّة منذ عقدين حينما تسلم السلطة بعد إغتيال رابين بشهور ، و إن تعطيل مشروع الوطن البديل و تصفية القضية الفلسطينية ليغيظ نتنياهو و حزبه ، فتمسك شعبيّ الضفتين بالأرض و السيادة و صلابة السياسة الأردنية تدفعان بإسرائيل لإظهار إفلاسها السياسي عبر محاولات الإستفزاز الموسمية للوصاية الهاشمية على الأقصى أو بإستضافة مهزوزين لا يقوون على الوقوف بثبات خلف المنصة كمعارضة أردنية في الخارج ، أو بالتعظيم من الخطر الإيراني كعامل مشترك رغم دعم إسرائيل لها عسكرياً في حربها مع العراق ” إيران – كونترا “.

لقد أعلنّا موقفنـا السيادي و السياسي بمحاكمة قاتل أبنائنا الشهداء ، أمّا أدوات التصدّي لإسرائيل متدرجة و كثيرة منها الخفيّ و المعلن ، و لن نعدم الوسيلة للحفاظ على حقوقنا إن تراجعوا عن إلتزاماتهم تجاه محاكمة القاتل و إتفاقيّتي الغاز و ناقل البحرين فمنابر القضاء الدولي مفتوحة للمطالبة بحقوقنا و بالتعويض عن أي ضرر يترتب على إنسحاب إسرائيل كما فعلت هي مع أشقائنا المصريين عند إنقطاع الغاز ، و من المبكّر التداعي لإنهاء معاهدة السلام من جانبنا فتلك مواجهة مع المجتمع الدولي تسعى إسرائيل بيأس أن تجرنا نحوهـا منذ زمن ، فالسياسيون لا يقلقهم التعقيد بل هو أصل السياسة ، كما يحسنون إختيار الأدوات إبتداء بالدبلوماسية و إنتهاء بالجيوش .

و من يتحدث عن عزل الأردن أو بأن هناك من يستطيع الإملاء عليه لا يعرفه ، فما من مشهد سياسي إكتمل في المنطقة دون مباركتنا ، و لا تقتصر قدرتنا على اللعب بالأوراق المكشوفة ، و لولا عقلانية نظامنا و توازنه تجاه تجاذبات المحيط لزال هو الآخر ، فنحن نمتلك الثبات الإنفعاليّ و لا نؤمن بالسرعة سوى في الرّد العسكريّ .

المصالحة الفلسطينية مسعى أردنيّ قديم ، رغم أنّي لا أتوقّع إستمرارها هذه المرّة فالمصالحة السياسية تتبع الإتفاق و لا يتبعها ، كما أنّها تحتاج كفلاء تضمن مصالحهم المشتركة مع الفرقاء التقريب بينهم عند السير بها ، و ما عودة الإهتمام العربيّ بالقضية الفلسطينية إلّا ثمرة للجهود الملكية ، فملف كسب التأييد العربي و الدولي لها صاحب أولويّة في الأجندة الهاشميّة منذ الثورة العربية الكبرى .

و ما من أحدٍ يرغب بتحدّي الأردن ، فهو بنك المعلومات إذا تحدثنا في العمق الإستخباري ، و هو الذي يمتلك جيشا عالي الهمّة و شعبا يواجه الإرهاب بصدور عارية ، و بعقول شعبه و سواعدهم قامت دول و نعمت بالأمن و الإستقرار .

شعبه الذي أورثه حبّا لا حقدا ، و أخفى عن مناهج أبنائه و بناته ما يزرع الضغينة لأيّ شقيق عربيّ ، و دفن الكثير من التاريخ الأسود في صدور الهاشميين و المخلصين من السّياسيّين و أبناء الأجهزة الأمنيّة ، ليسود التسامح مع الداخل و الخارج .

التسامح الذي أسس النظام الهاشمي مُلكه على قيمه النبيلة ، و شكّل إعجازا سياسيا إستحال على أعظم ديمقراطيات العالم الإتيان بمثله ، فبعض من فرّوا للخارج في السابق كلاجئين سياسيين أعيدوا لتولي أعلى المناصب بعد أن كانت مشنقة الإعدام تنتظرهم ، و بعض من إعتقلوا في الأمس لتغريدهم خارج السرب السياسي بإنتماءات حزبيّة كانت ضرورات الإستقرار تفرض حظرهـا أصبحوا وزراء و نوّاب ، و هذا القدر من الكياسة و الثقة هو ذاته الذي أجبر خصوم الأمس على الإستدارة نحونا ، فنحن نخطو في السياسة كما في الشطرنج لا النرد .

تماما كما فعل الأردنّ في ما ترك من أبواب مواربة تصلح أن تكون ساحة لتحالفات أوسع ، فالثبات و الإتزان في السياسة لا يعنيان التصنّم ، بل مصدر القوة و معيارها يكمن في القدرة على التحرّك بحرّية ، و الأردنّ هو المُنتَظَر لدى قوى عديدة للتحالف و ليس بمُنتظِر و هذا نتاج دورنا المحوري و إحترام العالم لنا .

داخليا ، نترك الشأن الإقتصادي لذوي الإختصاص أمّا سياسيّا فما أنجز على صعيد الإصلاح السياسي و الإدارة المحلّية كافٍ ، فالحكومات البرلمانية مقامرة سياسية ستحرف البوصلة خارجيا نظرا لإختلاف المشارب العقائدية بين الإسلامي و اليساري و غيرهما ، و في صيانة منظومة الاحزاب و تطعيم الحكومات بحزبيّين ما يفي بالغرض لحين إستقرار المحيط و إعادة تشكّل مراكز القوى .

و إنّ محيط الألغام يستلزم منظومة إعلامية مضادّة قادرة على وزن الأمور ، كالإعلام التركي الذي إستعصى على ماكينة الحرب الإعلاميّة العبريّة في محاولات عدة كان منها تسريب خبر لقاء للرئيس أردوغان بأولمرت قبيل الحرب على غزّة للدلالة على مباركته للأمر . فالإعلام الواعي لا يقع فريسة لخصمه و لا يستقي منه المعلومة ، و إنضباط الإعلام لا يقيّد الحريّة بل يحصّن المجتمع و يعزز تماسكه .

تبقى سيادة القانون العنصر الضامن للوحدة الوطنية ، و لا قيمة للتثقيف إن لم يحاكي الواقع فالشعور بالظلم و التمييز عنصر هدم ، و لا رادع يحول دون مخالفة القانون إّلا بقدر إحترامه لدى الشعب ، و لن يخشى المواطن من عقاب القانون إن لم يرى فيه مظلّة قويّة تحمي الجميع و هذا معيار العدالة الجامعة التي لا تفرق .

على الحكومات أن تسعى للإصلاح الشامل بما تحظاه من دعم ملكي ، و من حولها قواتنا الباسلة و أجهزتنا المتيقظة الكفيلة برد كل معتد بإذن الله المستمرّة بالتطهير الذاتيّ الحافظ للنزاهة و الكفاءة فهي عنصر الأمان الثالث بعد الله و الملك .

فإنتهاء الأزمة في مسرح القتال لا يعني الإسترخـاء ، و لعل التقديرات و الدراسات الأمنية و التاريخ لتؤكد جميعها على إستهداف التنظيمات المنهزمة لإستقرار المناطق المحيطة ، إمّا إستعراضا أو إنتقاما أو سعيا لفتح جبهات جديدة ، و في الخلايا النائمة و الذئاب المنفردة دليل على خلل أدّى لتسرّب الفكر الضالّ إلى المجتمع ، و محاربة ذلك تتطلّب أصحاب فكر يرسمون طريق المجابهة و التطويق ، و ما كلّ خطيب و إمام قادر على هذا بل إنّا بحاجة لأداء تشاركيّ لا تختطف فيه الادوار و لا تتزاحم .

فرصتنا الأخيرة ستبقى سانحة ، فقيادتنا الهاشمية تحت لواء مليك يشهد العالم بأنه صانع سلام و محارب عظيم ، و قد أثبت الأردن طيلة السنوات الصعبة الماضية بأنه قادر على صنع الفرص ، لكن حساسية المرحلة تتطلب جهدا إستثنائيا لا روتينيّا تشترك فيه الجهات العليمة كلّ في مجاله ، فتقديم النصيحة لصنّاع القرار ليس معلّقا على تولّي الوظيفة ، و الأمانة لا ترتبط بالمسؤوليّة بل بالولاء و الإنتماء .

و الله وليّ التوفيق .

التعليقات مغلقة.