صحيفة الكترونية اردنية شاملة

الدولة المنسجمة وإدارة الصراع داخل الدول العربية

عرف الفيلسوف الألماني هيغل “الدولة المنسجمة” ، بأنها الدولة التي يسود فيها الإعتراف بحق الإختلاف، وإحترام خيار الناس في شكل القيادة التي تسوسهم، ويتم حل الخلافات فيها بقوة الإقناع أوالقانون، لا بقوة السلاح.
وقد لخص معاوية بن أبي سفيان مشكلات الصراعات الداخلية في الدولة ، عندما وصف علاقته كحاكم مع الشعب بالآتي :”إن الناس أعطونا سلطاننا، فأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا، فإن أعطيناهم غير ما اشتروا منا شحوا علينا بحقنا، وغمطناهم بحقهم، ومع كل إنسان منهم شيعته، وهو يرى مكان شيعته، فإن نكثناهم نكثوا بنا ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا”، ومن ذلك يمكن ملاحظة طبيعة العلاقة بين الحاكم والشعب :
• إنقطاع التواصل الطبيعي بين الحاكم والمحكوم، بسبب تجاوز منطق التراضي وسيادة منطق القوة والغلبة.
• قيادة فرضت نفسها بالقوة، واعتبرت السلطة حقا طبيعيا لها (أعطونا سلطاننا / شحوا علينا بحقنا) لكنها فقدت الثقة في شعبها لعدم شرعيتها.
• خوف تلك القيادة الدائم من شعبها، مما يجعلها تتحسب للثورات والإحتجاجات في كل وقت (فإن نكثناهم نكثوا بنا، ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا).
• شعب فقد الثقة في قيادته، لأنها لم تقم لخياره وزنا، وتجاوزت حدود العدل في الحكم والقسم (وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد).
• حراكات وثورات شعبية مشتتة الجهد، متضاربة الأهداف، لكل منها وجهة، فهي لا تعرف العمل المشترك، ولا تدرك ما يجمع بينها (ومع كل إنسان منهم شيعته).
• سيادة العلاقات النفاقية بين الحاكم والمحكوم، وإظهار كل منهما للآخر غير ما يبطن، نظرا لانسداد أبواب التعاون الحر والتناصح النزيه (فأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد).
وتعود الصراعات الداخلية في معظم الدول العربية اليوم إلى انعدام الشرعية السياسية وسيادة الإستبداد بالأمر والإنفراد بالقرار، فغالبية قادة الدول العربية الآن لا يستمدون شرعيتهم من إختيار الناس، بل من الوراثة أو الغلبة، أو من مزيج منهما، أو حتى من تحالفات دولية، مع الإشارة الى أن الشرعية السياسية هي من أهم عوامل القوة وأسباب الإستقرار وتفادي الصراعات والانشقاقات الداخلية في المجتمعات البشرية، كما أن المجتمعات التي تقودها سلطة شرعية يسودها السلم الاجتماعي والانسجام، فالشرعية السياسية هي الضامن للدولة المنسجمة .
والجدير بالذكر بأن السياسات المتبعة في الدول العربية لإدارة الصراعات الداخلية لم تختلف كثيرا عن الآليات التي إتبعها معاوية بن أبي سفيان، فقد اعتمد :
– إستراتيجية “أنا أو الطوفان” أو إستراتيجة إلهاب المعركة أثناء الحرب، وتهدف إلى إقناع عامة الناس بأنه لا بديل عن القيادة الحالية سوى الخراب والدمار، وهي مزيج من العمل العسكري المحدود والحرب النفسية الشاملة.

– إستراتيجية “الدهاء والعطاء” أو إحتواء المعركة بعدها، فـ”الدهاء” هو قدرة السلطة على خديعة أعدائها، والتلاعب بمشاعر رعاياها بما يخدم توطيد بقائها، بينما “العطاء” هو إغراء الناس وشراء الولاء منهم، دون الاعتراف بهم كشركاء شرعيين في السلطة والثروة .
وأخيرا تحتاج الدول العربية إلى نوع من “العقد الاجتماعي” الجديد في علاقتها بالقوى السياسية المحلية، ينبني على احترام خيار الناس، والاعتراف بحق الاختلاف، وإحترم حقوق الأقليات والإعتراف بوجودها وبخصوصياتها، فالاعتراف بالمعارضين السياسيين وبالأقليات العرقية والثقافية، والتعامل معهما كفاعل سياسي، لا كقوى إجرامية خارجة على القانون، واعتبارهما شريكين شرعيين في السلطة والثروة، بعيدا عن منطق القمع أو الاحتواء، وهو السبيل الوحيد إلى بناء “الدولة المنسجمة”، وتصالُح الدولة العربية مع ذاتها.

التعليقات مغلقة.