صحيفة الكترونية اردنية شاملة

«المؤتمر العالمي الأول للتحليل النفسي» بقلم: ابراهيم العريس

كان ذلك يوماً مشهوداً في تاريخ سالزبورغ – إنما من دون أن تكون روح فيينا غائبة عنه – ولكن في تاريخ العلم أيضاً. ففي ذلك اليوم، اجتمع علماء التحليل النفسي البارزون الآتون من شتى الأنحاء الأوروبية، ولكن كذلك من الولايات المتحدة الأميركية وغيرها ليضعوا الأسس التي سيقوم عليها مذّاك وصاعداً ذلك الصنف العلمي الجديد المنبثق عن علم النفس: التحليل النفسي. غير أن الأهم من هذا أن ذلك اليوم بالتحديد سيكون أيضاً يوم التكريس العالمي لزعامة سيغموند فرويد للتحليل النفسي، كما يؤكد هو نفسه في كتابه الشهير، والأقرب إلى أن يكون سيرة ذاتية له، «حياتي في التحليل النفسي». فالحال أن فرويد، ومن دون أن تبدو عليه أي نرجسية قد يقترحها ربطه بين المؤتمر الكبير وحياته الشخصية والتكريس الذي كان له يومذاك، لم يتمكن إلا من الإشارة إلى ذلك الربط؛ ولا شك في أنه، في الأحوال كافة، كان محقاً في هذا. فعلى رغم تعدد المشاركين وتنوع اهتماماتهم العلمية، وعلى رغم أنه كان بينهم من هم أكبر منه سناً وأطول تجربة، كان هو نجم الاحتفال. ولسوف تثبت العقود المقبلة نجوميته تلك ويبقى التحليل النفسي مرتبطاً به أولاً وأخيراً.

> وذلك على رغم الانشقاقات التي راحت تظهر كذلك منذ ذلك اليوم ذاته تحديداً. صحيح أن الانشقاقات، لا سيما منها ما يتعلق بـ «تلميذيه» الأقرب والأشهر واللذين كانا معروفين بالولاء له قبل ذلك، آدلر ويونغ، كانت لا تزال جنينية يومذاك – والحكاية معروفة ومع هذا لا بد من أن نسارع هنا إلى القول أن الانشقاقات لم تكن شخصية إلى حد ما، حتى وإن كنا نحن أيضاً عنونّا ذات يوم مقالاً حول خلافات فرويد/ يونغ بالقول أنها تعبّر عن «صراع بين أنانيتين» – لكنها كانت علمية وربما تعود إلى التركيب التاريخي والعلمي السابق على اللقاء بين أطراف الانشقاق الثلاثة هؤلاء. ومهما يكن فإن فرويد، وتحديداً في الصفحات المخصصة لمؤتمر سالزبورغ الذي نتحدث عنه هنا، في «حياتي في التحليل النفسي» أدلى بوجهة نظره حول الانشقاقات. صحيح أن وجهة نظره أثارت كثيراً من التعليقات والسجالات، لكن أساسها يبقى كما تحدث عنه فرويد: علميّ لا شخصيّ.

> ولمناسبة مرور مئة وعشر سنوات ونيّف على ذلك اليوم التاريخي الذي شهدته سالزبورغ، نعود هنا إلى مؤتمر التحليل النفسي الأول في التاريخ لنعايشه، ولكن بالتأكيد من وجهة نظر فرويد في شكل جوهري. استغرق المؤتمر يومذاك يوماً واحداً. أجل: يوماً واحداً فقط، وفي مدينة شديدة الهدوء يتمشى فيها، كما قال واحد من المجتمعين يومذاك «شبح موتسارت يراقبنا بنظرة تشبه السخرية المحببة ويحصي علينا خطواتنا وآهاتنا»، وكانوا عدداً من الأصدقاء الذين جمعهم العلم، ولكن لتفرقهم بعد ذلك شتى ضروب المنافسة وخلافات الرأي، وعلم لم يكن أحد قد اعترف به يومذاك. وكان كل ذلك يدور من حول الرجل الهادئ السمات الثابت النظرات الذي كان الجمع قد احتفل قبل فترة بعيد ميلاده الخمسين مقدماً له ميدالية تزين صورته أحد وجهيها، فيما تزين الوجه الثاني صورة أوديب. ومن الواضح أن الصورتين على وجهي الميدالية من شأنهما أن يصورا خير تصوير مسار ذلك العلم الجديد: التحليل النفسي.

> فأوديب الآتي من عالم الأساطير الإغريقية ليغزو الفنون والآداب، ثم ليغزو، منذ فرويد وأصحابه بخاصة كما تجلى الأمر في ذلك اليوم المدهش، الحياة اليومية للناس، وربما الحياة الجنسية كما كان فرويد قد بدأ يرى؛ أوديب هو إذاً وانطلاقاً من تلك اللحظة بات صاحب «العقدة» النفسية الأشهر، والتي انبنى عليه وعليها، جزء أساسي من أعمال التحليل النفسي. أما الرجل الهادئ النظرات فكان في شكل طبيعي، سيغموند فرويد، العالم الذي اشتغل سنوات طويلة على تحويل «علم النفس» إلى «تحليل نفسي»، والذي رأى في ذلك اليوم، كما يذكر بنفسه في «حياتي في التحليل النفسي»، أول وأكبر تتويج عالمي وعلمي لجهوده التي كان يبذلها منذ سنوات طويلة. أما المدينة، سالزبورغ فكانت مناسبة تماماً. وأما المجتمعون فيها حول فرويد، فكانوا تلامذته وعلى رأسهم كارل يونغ الذي كان من التواضع والطيبة بحيث أطلق على الاجتماع اسم «لقاء علماء النفس الفرويديين».

> كان تاريخ ذلك اليوم إذاً، السابع والعشرين من نيسان (أبريل) 1908. وأما المناسبة فكانت كم أشرنا، «المؤتمر العالمي للتحليل النفسي»، التظاهرة الأولى من نوعها التي انعقدت في ذلك اليوم لتكرس أممية علم كان لا يزال حتى ذلك الحين حبيس حلقات العلماء الضيقة، وتتم لقاءات أصحابه، مرة كل يوم أربعاء في منزل أستاذهم جميعاً «الوالد الشرعي للتحليل النفسي»، فرويد. معنى هذا أنه في ذلك اليوم الذي سوف يدخل تاريخ علم النفس من بابه العريض، وخلال لقاء سالزبورغ الذي وصفه فرويد بأنه اجتماع ودّي «لأصدقاء العلم الجديد»، جرى إخراج التحليل النفسي من حلقاته الضيقة، ليضفى عليه طابع مؤسساتي وأممي في الوقت ذاته. وعلى الرغم من أن ذلك «المؤتمر» لم يتمكن تماماً من إخراج أصحاب التحليل النفسي من وضعيتهم الهامشية بسبب عدم اعتراف العلم الرسمي بهم، فإنه كان كفيلاً بأن يوفر لهم الحماية ويفتح لهم علاقة مباشرة مع جمهور أخذ عدده يتزايد منذ ذلك الحين.

> هذا البعد المؤسساتي للحركة كان بدأ، في أي حال، في خريف 1902، حين دعا فرويد كلاً من آدلر وستيكل ورايتلر والطبيب كارل كاهاين لكي يجتمعوا عنده، وذلك ضمن إطار مناقشات علمية، ودية أول الأمر حول ما يجدّ من شؤون ذلك الهمّ العلمي الذي تدور حياتهم وأفكارهم حوله. وعلى هذا النحو، ولدت «جمعية الأربعاء السيكولوجية» حينذاك في فيينا. ثم خلال الأعوام التالية كان أن انضمّ إلى الجمعية كل من فريدن وهيتشمان ثم أوتو رانك (الذي كان موظفاً بسيطاً في مكتب ولا يتجاوز عمره الثانية والعشرين، لكنه سوف يلعب في مراحل لاحقة واحداً من أبرز الأدوار في تاريخ التحليل النفسي إنما دائماً في ظل فرويد وتحت رعايته)، ثم شيكيل وساخس، وغيرهم. وحين ازداد العدد في شكل يفوق ما يمكن جمعية منزلية أن تستوعبه، تحولت تلك الجمعية، في العام الذي نحن في صدده بالذات، 1908 إلى «جمعية فيينا السيكولوجية» التي كانت أول جمعية من هذا النوع تتخذ لنفسها بعداً رسمياً. وكان من الواضح أن هذا التحول إنما هو من صنيع كارل يونغ الطبيب السويسري الممارس في زيوريخ، والذي سيكون ثاني أكبر نجم في تاريخ التحليل النفسي بعد فرويد، وإنما في مجالات أكثر تشعباً بل حتى «ميتافيزيقية» لكن هذه حكاية أخرى لا مجال للخوض فيها هنا. من المفيد هنا في أي حال أن نذكّر بأن يونغ الذي هو أيضاً وراء لقاء سالزبورغ الذي سيدخل التاريخ بوصفه المؤتمر العالمي الأولى من نوعه، على رغم أن أشغاله لم تزد عن يوم واحد. وأيضاً، على رغم أنه كان المكان الذي بدأ يشهد الانشقاقات الحقيقية التي ستودي بالمجتمعين إلى التفرق وتمزيق بعضهم بعضاً خلال السنوات التالية، وهو ما سوف يصل إلى ذروته خلال المؤتمر الثاني الذي عقد في نورمبورغ، عام 1910، بعد أن كانت الجمعية تحولت إلى «جمعية أممية للتحليل النفسي». وكان الانشقاق الكبير الأول انشقاق ألفريد آدلر في 1911، ثم تبعه انشقاق ستيكل في 1912 وانشقاق يونغ في العام الذي يليه (وفي هذا الموضوع الأخير، لا بد من التذكير بأن المخرج الكندي الأنغلوفوني دافيد كروننبرغ حقق فيلمه المميّز «منهج خطير»، عن العلاقة ثم انفراط العلاقة بين فرويد ويونغ. غير أنه في فيلمه عزا الخلاف بينهما إلى أمور نسائية وهو شيء لا يرد في أي حال في أي تأريخ جدي لحركة التحليل النفسي أو للصراع الذي اندلع بين السويسري والنمسوي!).

> ونعرف أن هذه الانشقاقات المتتالية كانت هي التي جعلت فرويد يكتب قائلاً في ما بعد، في معرض سرده تاريخ حركة التحليل النفسي، أن التواضع والود الرفاقي اللذين ظهرا خلال مؤتمر 1908 كانا طفوليين، لأن ما كان ينبغي أن يسود إنما كان «إيجاد منبر يمكنه أن يصرخ، قائلاً: «إن كل ضروب العبث هذه ليس ذات أدنى علاقة بالتحليل، إنها لا تنتمي إلى التحليل النفسي في أي حال من الأحوال». وعلى هذا النحو، يمكن اعتبار مؤتمر 1908 آخر مكان تجمّع فيه أقطاب علم النفس قبل أن يتفرقوا.الحياة

التعليقات مغلقة.