صحيفة الكترونية اردنية شاملة

الابتكار والإبداع والشباب

في مجتمع تصل فيه نسبة الشباب تحت سن 24 عام نحو 60% من السكان، وتصل فيه نسبة من هم على مقاعد الدراسة والتعلم بمراحله المختلفة نحو 50% من السكان، ويصل فيه نسبة الشباب في قمة العطاء والإنتاجية، وهو السن ما دون 40، ما يزيد على 70%، في مثل هذا المجتمع لا عذر ولا معذرة في عدم الإنتاج والتوسُّع والانطلاق.

الحديث اليوم ليس عن تشخيص المشكلة، فالمشكلة واضحة للعيان، بطالة تتجاوز 18% بالأرقام الرسمية، والمعضلة أنَّ البطالة بين جيل الشباب المؤهلين تصل إلى ما يزيد على 30%، وهي النسبة الأعلى على مستوى المنطقة العربية، بل وعلى مستوى العالم.

يضاف إلى ذلك مديونية إجمالية تصل إلى نحو 100% من الناتج المحلي، وهي مديونية جارية غير قابلة للسداد في الأجل القصير والمتوسط، وعجزٌ ماليٌّ حكوميٌّ مزمنٌ غير قابلٍ للحل بالطرق التقليدية المعروفة، وخاصة عبر رفع الضرائب والرسوم، ونموٍّ اقتصاديٍّ أضعف من أن يُحرّك اقتصاد قرية، وليس دولة.

هذا التوصيف يحتاج إلى النزوع إلى حلول عملية منطقية قابلة للتطبيق، ومقابل هذه الحقائق هناك مقوّمات يعلمها الجميع، ونعلم أنها ممكّنات حقيقية للاقتصاد الوطني الأردني، ولكننا نعلم أنّ هناك تقصيراً كبيراً، ليس اليوم، وليس من هذه الحكومة، ولكن على مدى فترات طويلة لا تقل عن ثلاثة عقود، تقصيرٌ جوهري في العمل على الاستغلال الاقتصادي السليم لطاقاتنا ومواردنا المادية والبشرية، ولعلَّ الأخيرة هي الأساس. المورد البشري الأردني بحاجة إلى مُحفّزات حقيقية لإخراج ما لديه من طاقة وقدرات في وطنه وضمن اقتصاده، فهو يفعل ذلك في شتى بقاع العالم، من متقدمِها إلى ناميها.

تجده يبدع في الطب والهندسة والإدارة والصناعة والزراعة وفي الخدمات كافة، ولكن تجد ذلك حينما يُعطى الفرصة على العمل والإنتاج. والسؤال لماذا لا يتمُّ التركيز على فتح الفرص وفتح الآفاق أمام الشباب داخل وطنه، بدلاً من أن ندفعه للهجرة، وفي معظم الأحيان، بعد أن يكتسب مهارات وخبرات إضافية بعد مراحل التعليم المختلفة، فنجده يترك العمل في البلاد ويهج، أو يهاجر إلى بلاد الله الواسعة، فيبدع ويعطي ويُنتج، وأحيانا يستقر ويحصل على جنسية جديدة، تجعل من أولاده، ينتمون إلى دول أخرى، ويمتنّون إلى الفرص التي منحتهم إيّاها تلك الدول.

الحلول الواجب اللجوء إليها متعددة؛ بعضها آنيٌّ مُستعجل، وبعضها الآخر استراتيجيٌّ هيكليٌّ يحتاجُ إلى الوقت وإلى تخطيطٍ وتنفيذٍ سليمين. ولكن لعلني أجتهد في هذه العجالة فأقول: إنَّ أهم الحلول الآنية  يبدأ بعقد لقاء وطني شبابي، برعاية مؤسّسة ولي العهد، وبحضور ومشاركة مباشرة من سموه، يكون على نسق الملتقيات العالمية، منتدى دافوس وغيره، بحيث يتم الخروج بتوصيات محدّدة عبر إشراك أكبر قدر من الشباب، وأكبر قدر من الخبراء العالميين والمحليين من خبراء الاقتصاد، وخبراء المال، وخبراء تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصِّغر، وخبراء الأعمال، والصناعة، والخدمات، والزراعة، مع تأكيد ضرورة الخروج بتوصيات عملية، على أن يأخذ الملتقى مدىً متكاملاً، ولا يقلُّ في أولى جولاته عن أسبوع، ثمَّ يُعقد سنويّاً، أو كلَّ سنتين على الأقل، وبرعاية سمو ولي العهد، للوقوف على الإنجاز. أما الحل الثاني أو الاجتهاد الثاني من طرفي، فيكمن في قيام الحكومة بإعادة إحياء صندوق تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، الذي طالب به جلالة الملك، والذهاب بهذا الصندوق في جولة على المحافظات، كما هي جولة قانون الضريبة، ولكن هذه تأتي بعرض تمويل مشاريع، وليس باستمزاج الرأي حول قانون الجباية والضرائب، وبالتالي قناعتي أنَّ ذلك سيلقى ترحيباً، وليس زجراً واحتكاكاً.

الصندوق يجب أن يُفَعَّلَ بشكلٍ صحيح، وأن تُعْقَدَ اتفاقيّاتٌ مع عدد من البنوك لتقديم الدعم اللوجستي قبل المالي. الجدية في الصندوق ستعني الجدية في معالجة حالات البطالة والفقر والشعور بالتهميش من قبل شريحة الشباب. ولكن على الصندوق أن يكون شريكاً في المشاريع الابتكارية الإبداعية وليس دائناً فحسب، على الصندوق أن يُقيم، أو يدعم، أو يشجع إقامة حاضنات الأعمال في المحافظات المختلفة، وخاصة محافظات الشمال والجنوب التي تفتقر إلى الدعم والاهتمام، ولكنها لا تفتقر إلى العقول والشباب المُخلص القادر على العطاء والإنجاز والابتكار والإبداع. وذلك بالضرورة دون إهمال محافظات الوسط، التي تكتنز شرائح مميزة من الشباب أيضاً، والحديث عن الشباب هنا نعني به الجنسين دون تفريق. واعتقادي مرة أخرى أن يكون لمؤسّسة ولي العهد دورٌ محوريٌّ في هذا الأمر أيضاً.

هناك حلول أخرى ليس من الممكن طرحها في هذه العجالة، ولكن يجب التأكيد أيضاً أنَّ الحلَّ الاستراتيجيَّ الأوّلَ، هو إعادة النظر بالمنظومة التعليمية الكاملة بمراحلها المختلفة، وهو حلٌّ وقرارٌ استراتيجيٌّ يتطلّب الوقت والجهد والمال، ولكن علينا أن نبدأ به اليوم لنقطف ثماره على مدى 10 إلى 20 عاماً قادماً. علينا أن نربي الأجيال القادمة على محتوى علمي وفضاء مهني ومنظومة عمل وابتكار وإبداع مختلفة عمّا نركن إليه اليوم، التقارير تشير إلى أنّ نحو 40% من الوظائف الحالية ستندثر خلال العقدين القادمين، فهل سنبقى نُخَرِّجُ نفس النوعيات ونفس التخصصات وبنفس الطريقة التقليدية المبنية على التلقين وليس الإبداع والابتكار.

الإبداع والابتكار مخرجنا لحاضر أفضل، ومستقبلٍ مُشرق، والشباب هم مفتاح الحاضر والمستقبل، على الحكومة أن تُكَوِّنَ خلية عمل لدراسة الاجتهادات السابقة والمشار إليها هنا، والنظر في إمكانية تطبيقها، أو حتى الخروج بأفضل منها، ولكن التأخير ليس في صالحنا ولن يخدم اقتصادنا بموارده الطبيعية أو البشرية على حدٍّ سواء. أختم بمقولة سمعتها في إحدى الندوات:” إن ديننا الإسلامي الحنيف دعا إلى تلقين الميت بعد وفاته” ونحن للأسف نُلقّن الأطفال واليافعين والشباب في كافة مراحل التعليم وكأننا نتعامل مع أموات، هم أحياء وهم قادرون على التميز والإبداع والابتكار، المسؤولية على صنّاع القرار الحكومي، وهم مسؤولون ومساءلون عنها.

 

[email protected]

 

التعليقات مغلقة.