صحيفة الكترونية اردنية شاملة

استهداف النمو

اطلعت مؤخراً على مقالين؛ أحدهما يتحدَّث عمّا حقَّقه الاقتصاد الأمريكي مؤخراً من نموٍّ فاق التوقعات، والثاني يتحدَّث عن المقومات التي أدت إلى النمو الحقيقي غير المتوقَّع الذي حقَّقته الصين أيضاً.
في المقال الأول الذي أعدَّه روبرت جيه بارو، وهو أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد، وأحد من تمَّ تكليفهم بدراسة أثر السياسات التي اتبعها الرئيس الأمريكي ترامب في الاقتصاد الوطني، لقد أشار صراحة إلى أنَّ تحليل عميق قام به هو وزميل له من خبراء الاقتصاد أفضى إلى أنَّ تحقيق نسبة نموٍّ تصل إلى نحو 3.2% في الربع الأول من العام الحالي وتحقيق متوسط نموٍّ بنسبة 3% منذ نهاية العام 2017 إلى نهاية العام 2018، يعدُّ نتيجة مبهرة قياساً بمتوسط 2.1% خلال الفترة 2011-2017. وهو أمرٌ لم تستطع السياسة الاقتصادية لسلفه تحقيقه نهائياً، كما أنه يعني زيادة حقيقية في دخل الفرد في الولايات المتحدة، حيث النمو السكاني لا يتجاوز 1%.
النتيجة التي توصَّل إليها الباحثان هنا، أنَّ الزيادة الملحوظة في النموِّ الاقتصادي الحقيقي جاءت بشكل أساس نتيجة السياسات المالية المُيَسَّرة التي اتبعتها الإدارة الأمريكية، وخاصة في مجال تخفيف عبء الضرائب على الشركات والأفراد، أي أنَّ تخفيف ضرائب الدخل على المنتجين والمستهلكين، وبشكل طفيف وحتى غير جوهري، أدَّى إلى زيادة النموِّ الاقتصادي في الدولة بشكل ملموس، ليخرج الاقتصاد من ركود أصابه على مدى سبع سنوات سابقة.
الشاهد هنا، أنَّ تنشيط القوى الشرائية، أي القدرات الاستهلاكية للأفراد، وتنشيط إمكانات الإنتاج، عبر تخفيض الضرائب من جهة وزيادة حجم الطلب بفعل تحسُّن القوة الشرائية للأفراد من جهة ثانية، يعود مباشرة على الاقتصاد ككل بالنفع بشكل ملموس وجوهري.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ إصرار الرئيس الأمريكي وضغوطه غير المباشرة على البنك الفدرالي الأمريكي، البنك المركزي، أدَّيا إلى تجميد سياسة رفع أسعار الفائدة مؤخراً وتأجيل النظر في ذلك حتى نهاية العام. أمَّا المقال الثاني للكاتب يو يونغدينغ، وهو مدير معهد العلوم الاقتصادية والسياسية العالمية التابع للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، فقد أشار الباحث إلى حقيقة أنَّ قيام الحكومة الصينية بالتوسُّع بشكل كبير في الإنفاق الرأسمالي في البنية التحتية خلال السنوات الأخيرة، ودعم ذلك بسياسة نقدية مناسبة، أدَّى إلى تحقيق معدلات نموٍّ تفوق التوقُّعات وصلت إلى نحو 6.4%، وهي إشارة واضحة إلى عودة الاقتصاد الصيني إلى مسار النمو والاستقرار، وإلى الدرجة التي أدَّت إلى زيادة الصادرات الصينية في الربع الأول من العام الحالي، بالرغم من كلِّ العقوبات التي فُرِضَت عليها، وأنَّ الإنتاج الصناعي نما بما يزيد على 8.5% خلال شهر آذار/مارس الماضي. وقد تحقَّق ذلك للصين عبر توجيه السياسة المالية نحو إنفاق حكومي في المجالات القطاعية المباشرة، وليس في الإنفاق الجاري، وعبر إتباع سياسات نقدية مواتية، ما أدَّى إلى تجاوز توقعات الأسواق العالمية للنمو الحقيقي في الصين. والشاهد من هذا كله، هو أنَّ استهداف النموِّ يحتاج إلى أدوات حقيقية جادة، ولا يمكن أن يتمَّ دون ذلك.
فتنشيط الأسواق يحتاج إلى سياسة مالية مباشرة في الإنفاق الرأسمالي، كما أنه يحتاج إلى سياسة مالية غير مباشرة، عبر سياسات تخفيف الضرائب، والرسوم، وترشيد السياسة الضريبية عبر تخفيف الضغوط على القوة الشرائية للعامة، وهو أمرٌ يتطلَّب أيضاً سياسات نقدية بعيدة عن رفع أسعار الفائدة، وبعيدة عن التشدُّد الكمي مع البنوك، وبعيدة عن تشدُّد البنوك في منح الائتمان والتسهيلات، للشركات والأفراد.
تشجيع الاستثمار، ومحاولة جذب الاستثمارات الخارجية، وتبسيط الإجراءات، شروط ضرورية لتحريك عجلة الاقتصاد وتنميته، بيد أنها، وكما يقول علم الاقتصاد، شرط ضروري ولكنه غير كافٍ. الكفاية تتأتى من اتباع سياسات مباشرة وغير مباشرة في مجال المالية العامة، وفي مجال السياسات النقدية، الأمثلة أعلاه حديثه، وقائمة، وتطبقها أكثر الدول تمسُّكاً بالإصلاح الاقتصادي والتنمية. ونحن بحاجة إلى دراسة حقيقية لتطبيق سياسات موازية ومكملة للسياسات الآنية التي تسعى إلى جذب الاستثمارات وتحسين البيئة الاستثمارية، سياسات تُفضي إلى شعور المواطن والشركات بشكل ملموس بأنَّ دخلهم تحسَّن، وأنَّ قوتهم الشرائية باتت أكبر. وهو ما لم يتحقَّق بغير سياسات جريئة ومماثلة لما جاء في المقالين المشار إليهما أعلاه. وكل عام وأنتم بخير بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.

التعليقات مغلقة.