صحيفة الكترونية اردنية شاملة

عصر “ما بعد الحقيقة” واللاءات الثلاث

بالرغم من التصريحات المتواصلة بثبات موقف الأردن الداعم للشرعية الدولية والمبادرة العربية للسلام التي تنادي بحل الدولتين واعتبار القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة، يدعو أصحاب الميول الهدامة أن الأردن سوف يتنازل عن القدس، وانه سوف يصبح الوطن البديل للفلسطينيين، وغيرها من الادعاءات

قد يوحي العنوان من النظرة الأولى بأنه عنوان لرواية او فيلم دراما. بالواقع، الموضوع ليس بعيد عنهما. فما بعد الحقيقة هو فعليا تعبير يترجم كلمة Post-truth التي فازت بكلمة السنة في قاموس أكسفورد لعام 2016. وهي صفة عرّفها القاموس بانها “تتعلق أو تشير إلى الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيراً في تشكيل الرأي العام من مناشدة العواطف والاعتقادات الشخصية”. وفي المجال السياسي، تعرف بانها “ثقافة سياسية يتم فيها تأطير النقاش إلى حد كبير من خلال مناشدات عاطفية منفصلة عن الحقائق السياسية، والتأكيد المتكرر على نقاط الحوار التي تدحض الوقائع الفعلية”. والمثير للانتباه أيضا بأن مصطلح اخر وهو “الاخبار الزائفة”، أي fake news، فاز ايضا كمصطلح لعام 2017. لا شك ان الإشاعات الكاذبة والاخبار المفبركة ليست جديدة على البشرية. ولكن ما يجعلهما أخطر في عصرنا الحديث هي منصات التواصل الاجتماعي التي تسرّع في نشر الاشاعات والاكاذيب وتوصلها الى مواطنين يصدق كثير منهم كل ما يقرأون، وخاصة في بلدنا الذي يتصدر دول العالم بنسبة استخدام السكان لمواقع التواصل الاجتماعي.
هذا الامر ليس جديدا، فخلال القرن الأول قبل الميلاد قام القائد الروماني أوكتافيان بحملة تضليلية ضد منافسه وحبيب الامبراطورية الرومانية مارك أنتوني، حيث نشر وثيقة زعم أنها وصية أنتوني تفيد برغبته دفن جثته في احدى مقابر الفراعنة منتهزا علاقة انتوني بالملكة الفرعونية كليوبترا مما اثار غضب الجماهير الرومانية. قتل مارك أنتوني نفسه بعد هزيمته في معركة أكتيوم في البحر الأيوني بعد سماعه شائعات كاذبة بأن كليوباترا قد انتحرت. انما واقعيا، انتحرت كليوباترا بعد سماعها عن وفاة مارك انتوني. (المغزى من الشائعة التخلص من منافس). وفي ذات السياق، فقد نشرت صحيفة “نيو يورك صن” الامريكية عام 1835 سلسلة مقالات، قالت فيها ان عالم الفلك البريطاني جون هيرشل قد اكتشف من خلال تلسكوبه الموجه نحو القمر خفافيش عملاقة تمضي أيامها في جمع الفاكهة، ومخلوقات تشبه الماعز لها بشرة زرقاء، وهيكل مصنوع من الياقوت المصقول. طبعا، بفضل تلك الاخبار الزائفة أصبحت مبيعات الصحيفة الأعلى في العالم قبل فضح المستور. (المغزى: زيادة الأرباح).
ومن أبرز الامثلة في عصرنا الحديث، أي عصر ما بعد الحقيقة، هو الاستفتاء الذي جرى في المملكة المتحدة عام 2016 للانفصال من الاتحاد الأوروبي، بركزت. حيث استخدمت الحملة المناصرة للانفصال معلومات مضللة تستند على العواطف لاستقطاب شريحة كبار السن للتصويت لصالح الانفصال. فقالت إن الانفصال سيمكن الحكومة من دعم التأمين الصحي المجاني، والتي تعاني من شح الموارد، بواقع 18 مليار جنيه سنويا وذلك بدل المساهمات السنوية البريطانية للاتحاد الأوروبي. واستندت الدعوة للانفصال الى حملة تضليلية عاطفية أخرى أطلق عليها اسم “مشروع الذعر”، تمحور حول ترعيب البريطانيين من مغبة البقاء في الاتحاد، مدعين قرب انضمام تركيا الى الاتحاد مما سيمكن مواطنيها الهجرة الى بريطانيا ان بقيت في الاتحاد. وبسبب هذه الحملات المضللة، فازت الحملة المناشدة للانفصال بنسبة بسيطة، ولم يدرك المواطنون بأنه قد تم تضليلهم الا بعد فوات الأوان. ولهذا السبب، ولأسباب أخرى، نجد بريطانيا في مرحلة تخبط ولغط في ملف بركزت، ومطالبات شعبية وحزبية لإعادة الاستفتاء. (المغزى: المربح السياسي). ولعلكم تتذكرون الشائعة الكاذبة التي رُوجت لصالح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية بأن بابا الفاتيكان فرنسيس يؤيد فوزه (المغزى: واضح)، والإشاعة الأخرى التي روجت في روسيا عام 1991انه سيتم بيع جثمان لينين بالمزاد العلني.
لم أدرك خطورة شيوع هذه الظاهرة العالمية الجديدة الهدامة الا لدى قراءتي في صحيفة الفاينانشال تايمز اللندنية مقال عن ثلاثة كتب جديدة يتناول موضوع عصر ما بعد الحقيقة، مما اثار فضولي لقراءتهم بعدما تم نشر الرسالة الملكية “منصّات التواصل أم التناحر الاجتماعي؟”، والذي صادف أيضا فترة توجيه أحد طلبة الصف العاشر سؤال لي، وذلك خلال تلبيتي لدعوة للالتقاء والحوار مع طلبة المدرسة، حين سأل “صحيح غيرت سنة ولادتك حتى ما يحيلوك على التقاعد وتروح سفير على بريطانيا؟” فأجبته “انا جالس امامك. شو رأيك؟” فأجاب “لا اعلم. أجريت بحث عنك وقرأتها كخبر على موقع كذا”.
ومع تزايد الحديث والتوقعات مؤخرا حول الإعلان عن المبادرة الامريكية للشرق الأوسط المسماة بصفقة القرن، زاد عبر منصات التواصل الاجتماعي الشائعات والاقاويل الهادفة لبث الشك في نفوس المواطنين ازاء النوايا الرسمية حيال المبادرة. فبالرغم من التصريحات المتواصلة بثبات موقف الأردن الداعم للشرعية الدولية والمبادرة العربية للسلام التي تنادي بحل الدولتين واعتبار القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة، يدعو أصحاب الميول الهدامة أن الأردن سوف يتنازل عن القدس، وانه سوف يصبح الوطن البديل للفلسطينيين، وغيرها من الادعاءات. المشكلة ليست بث الاشاعات الكاذبة، فهي حاضرة أينما كان. ولكن المعضلة عندما تصبح الاقاويل محط حديث وتصديق شريحة واسعة من المجتمع واعتبارها حقيقة لا شك فيها، وعدم الادراك بان كثير من هذه الاشاعات موجهه ضدنا من الخارج. وقد أكد الملك شخصيا ان لا صحة لمثل هذه الادعاءات باللاءات الثلاث. (المغزى: التحريض، زعزعة الاستقرار وثقة المواطن).
والمؤسف انه خلال عام 2018، بث الهدامون عدد هائل من الشائعات الكاذبة تداولها الأردنيون وكأنها حقائق ثابته. ومنها على سبيل المثال فيديو البنزين المخلوط بالماء في الأردن بينما الماء لا يختلط اصلا بالبنزين، بالإضافة لفيديو لورشة عمل بصاروخ قص حديد في غرفة مرضى في مستشفى البشير، ونشروا صورة مفبركة لمحصول بندورة سامة في الأردن ادى الى خسارة أصحاب المزارع وفقدان الكثير منهم لمصدر رزقهم والإساءة الى الصادرات، وصورة اخرى زائفة تقول ان الديوان الملكي يرعى حفلا بـ 33 مليون دينار، وصورة لوكالة بيع أملاك لمواطن في القدس تبين لاحقا انها مزورة، كما انشغل الأردنيين في إشاعة بيع أرض القاعدة الجوية في تلاع العلي بـ 1,5 مليار والذي تبين لاحقا انه لا صحة لذلك الخبر.
القصة لم تنته هنا. فنحن على أبواب عصر جديد أخطر بكثير من سابقه يُطلق عليه اسم deep fake، أي الزيف العميق، يقوم فيه الهدامون باستخدام تكنولوجيا متقدمة لتعزيز مصداقية الشائعة والتشويه من خلال مزج الصورة مع الصوت. فاذا اخذنا شائعة البندورة السامة على سبيل المثال، فإننا نجد ان مروجي الشائعة قد بثوا سابقا الخبر مكتوب عبر منصات التواصل الاجتماعي مما جعل الناس تسارع في إعادة بثها، حيث صدق بعضهم، واخرين لم يصدقوا. ولكن في عصر الزيف العميق فان أصحاب النوايا السيئة يكون بمقدورهم فبركة فيديو كليب بأكمله يحتوي على وزراء الزراعة والصحة والمياه يتحدثون مع رئيس الوزراء في مكتبه بحضور خبراء مختبرات عن اكتشاف محصول البندورة السامة في الأردن واتفاقهم على التستر على الموضوع لسبب او لآخر. فيصل هذا الفيديو الى المواطنين الذين سيقومون بمسيرات احتجاجية وينادون بإسقاط الحكومة بتهمة التآمر والفساد، ولن يصدقوا أي تصريح تناءى به الحكومة بنفسها من هذا الفيديو نظرا للدقة المتناهية في استنساخ الشخصيات. الزيف العميق سوف يستخدم في الانتخابات لترجيح مرشح على اخر، وفي الإرهاب، وفي التحريض، وضد رموز الدولة والاقتصاد والمجتمع بوضعهم في أوضاع محرجة.
فهل سنستمر بالسماح لأنفسنا تصديق كل من نقرأه ونراه اليوم عبر مواقع التواصل الاجتماعي؟
تقع مسؤولية مكافحة الشائعات على طرفين رئيسيين. الأول هي المصداقية العالية المطلوبة للأجهزة الرسمية. فمروجو الشائعات والانباء الكاذبة يترعرعون في البيئة التي يسودها الشك بين أجهزة الدولة والمواطن. اما الثاني، فهو المواطن، صاحب احدى الصفات الأربعة كما وصفه أبو حامد محمد الغزّالي الطوسي النيسابوري، أحد أشهر علماء المسلمين في القرن الخامس الهجري حين قال ان “الرجال أربعة، رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك نائم فأيقظوه، ورجل لا يدري ويدري انه لا يدري فذلك مسترشد فأرشدوه، ورجل لا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه”.

التعليقات مغلقة.