صحيفة الكترونية اردنية شاملة

القيادي يصنع القيادي

شاءت ظروفي ان أزور مؤخرا موقع الحُمَيمَة القديمة، والتي كانت تسمى حواره، الواقعة على بعد ٦٠ كم شمال مدينة العقبة. ومع انه سبق لي ان مررت عشرات المرات من تلك المنطقة، الا انني لم أدرك انها لا تبعد أكثر من عشرة كيلومترات غرب بلدة الحُمَيمَة الجديدة الواقعة على الطريق الرئيسي. تلك هي الحميمة، معقل انطلاق تكوين الدولة العباسية التي ولد فيها مؤسس الدولة واول خلفائها أبو العباس عبد الله السفاح، وثانيهم أبي جعفر المنصور، باني بغداد. الزائر للحميمة سيجد فيها مسجد عباسي، وآثار لسوق تجاري من تلك الحقبة، وآثار لكنائس من الزمن الروماني والبيزنطي. فقد اشتهرت الحميمة في زمن الانباط كممر للقوافل التجارية في طريقها من والى عاصمة الانباط في البتراء.

أذهلني الموقع وما يمثله من واقعة تاريخية، خاصة انه ذُكِر في كتاب جديد اقرأه لمؤرخ بريطاني يتكلم عن تاريخ العرب، ولكن ما أذهلني أكثر هي التجربة المخيفة للوصول اليه والعودة منه الى عمان عبر سلوك الطريق الصحراوي بسبب سوء حال الطريق وخطورته الذي، كما نعلم، ساهم بخسارة عدد كبير من الأرواح. لقد جعلتني رحلة العودة في ساعات متأخرة من الليل أغرق في الـتأمل والتفكير واعقد المقارنة بين الطريق ووضعنا الاقتصادي، وخرجت بنتيجة واحدة هي ان العوامل التي اوصلت هذا الطريق الى ما هو عليه، هي ذاتها التي ادت الى الوصول الى وضعنا الاقتصادي والاداري. ففي جميع الحالات، أي الطريق والاقتصاد والإدارة، فعلامات التدحرج والانزلاق والهاوية كانت واضحة منذ زمن، والإجراءات التي كان ممكن اتخاذها للحد من التدهور معروفة، الا اننا وقفنا ونظرنا وانتظرنا حتى وصلت الأمور الى ما هي عليه الان.

أكتب وانا اتابع البث الحي للجلسة الحوارية لتحفيز الاقتصاد الأردني برعاية رئيس الوزراء، حيث تكلم عن الإجراءات التي ستتخذ لتحسين الوضع الاقتصادي. ان مجرد الإعلان بالالتزام باستقرار التشريعات، والذي يقع في المرتبة الأولى لاهتمام المستثمر، يعد القرار الأبرز. ولكن اهم انجاز في تاريخ الاقتصاد الأردني الحديث لا يقع في تفاصيل الإجراءات والسياسات الحكومية المعلنة. فبصرف النظر عن تلك الاجراءات، وكأي دولة في العالم، بعض السياسات تنجح وأخرى تفشل. المهم هي اللغة الجديدة الموحدة التي ظهرت على لسان الحكومة وهو النمو الشمولي، وبالتحديد النمو الذي يخلق فرص عمل للأردنيين في وقت وصلت نسبة البطالة الى 19،2%. فبدت هذه العبارة بارزة كأساس للسياسات التي تم طرحها. فخلق فرص عمل للمواطنين هو الهدف الأسمى لاي حكومة في العالم المتحضر، وتحاسب الحكومات على اساسة. فعندما توحد اللغة يُوَحَد الهدف، ولا بد ان ذلك ستأتي بنتيجة. (مقالي الأول “البطالة عنوان المرحلة” في صحيفة المقر الغراء https://bit.ly/2BW3hJZ  في 25/2/2019)

فبالرغم من وضوح تفاقم ازمة البطالة منذ زمن، الا ان هذه اللغة غابت في كثير من التوجهات السابقة، بما في ذلك طروحاتنا في مبادرة لندن 2019، وهذا احدى أسباب ازمة البطالة التي نعاني منها اليوم. ولكن التحدي الاكبر اليوم هو ليس في وضع السياسات والاستراتيجيات، وانما كيفية تطبيقها. فبعضها سيرى النور، وأخرى تحفظ بالأدراج كما حصل مع خطة تحفيز الاقتصاد الأردني الذي تم تبنيه في نهاية عام 2017. فما هي قيمة تصميم سيارة حديثة إذا لا يوجد هنالك خطوط انتاج يديرها مهنيين، وفرق فنية معنية بمراقبة الجودة، وأخرى تضبط المصاريف لتعظيم المردود. فرئيس الوزراء أكد في كلمته الافتتاحية على الوضع السيء للإدارة الحكومة. ويؤكد ذلك، على سبيل المثال، قيام شركات استشارية من دول في المنطقة بمزاولة ورش عمل تدريبية لموظفين اردنيين، وعلى ارضنا، لرفع كفاءاتهم الإدارية، وهي ذات الدول التي كانت ولسنوات قليلة مضت تعتمد على المهارات الأردنية في بنائها.

يمكن تلخيص تراجع الإدارة الأردنية التي كانت مضرب المثل في دول المنطقة بما نسمعه من معظم موظفي الحكومة، وعلى جميع مستوياتهم، وهو ان لا فرق بين المجتهد المثابر والمهمل الكسول، حتى أصبح لدينا مثل شعبي واسع الانتشار والاستعمال لوصف هذه الحالة. والسبب الذي أدى الى هذا هو كسر ابسط قواعد الإدارة وهو عدم تطبيق العدالة الإدارية من خلال التجاوزات في التعيينات والترقيات والتنقلات والاحالات وتوزيع الحوافز المرتكبة من أصحاب القرار.

صحيح ان الإدارة تعتبر من العلوم، ولكنه فن أفوق من عِلم. وان لم يكن كذلك، فلماذا لا يقوم العالم الحديث بتعيين وزراء ومسؤولين حديثي التخرج من الجامعات حيث تكون معلوماتهم وعلمهم أحدث من مرؤوسيهم. ولماذا لا يقوم أصحاب الشركات العائلية الناجحة بتعيين أبنائهم في مراكز صنع القرار الا بعدما يكتسبوا الخبرة في دوائر الشركة ويتم ترفيعهم مثل غيرهم. ان صدور اي إرادة ملكية لتعيين مسؤول هي بمثابة ثقة بأن القيادي المعين سيحافظ ليس فقط على الدستور والقوانين والأنظمة، ولكنه أيضا سيحافظ على كبرياء واحترام وكرامة ونزاهة ومتانة الإدارة المسؤول عنها. الملك لا يستطيع ان يكون في كل دائرة حكومية يراقب مجريات العمل واحوال الموظفين، ولكنه يفعل ذلك من خلال اشخاص وضع ثقته بهم. ولكن عندما نقوم بتجاوز الوزير والأمين العام والمدير ورئيس القسم، وعندما يكون تجاوز المرجعيات مصدر فخر، وعندما نقوم بعزل مسؤول في قمة شبابه وعطائه كان قد تسلم جائزة قيادية من يدي الملك الكريمتين، بينما يتم تعيين وترفيع اشخاص اخرين هنا وهناك لا نفهم مسبباتها. فالسؤال المشروع هو ما هي الرسالة لإدارة الحكومة من تلك النهوج، او أي قرارات ادارية اخر، وليس لماذا لا يقوم المسؤول بتحمل المسؤولية واخذ القرار. فالمسؤولون يدركون كيف يجتهدون، ولكن متطلبات ذلك هي إدارة عليا نزيهة داعمه له تمنحه الحماية، تدرك ان دورها هي صناعة القيادات وليس تفريغ الحكومة منهم، وشعارهم هو “القيادي يصنع القيادي”.

اما بالنسبة لما ورد في بداية الفقرة السابقة حول تكليف الشباب الأقل خبرة في مناصب عليا، فهو غير دقيق. فلننظر الى القيادات في دول مثل كندا وفرنسا وبريطانيا وغيرهم من تلك الطبقة، وسنجد شبابية أعمارهم. الا ان هؤلاء المسؤولين صعدوا الى سدة المسؤولية من خلال الانتخابات الحزبية، ويجلسون على مؤسسات اداراتها مستقلة لا يستطيع أحد الاخلال بها. ان مثل الإدارة الألمانية تدل على مكانة وقُدسية الإدارة. فهي اليوم ذات الإدارة الموروثة من العهد الإمبراطورية البروسية، والذي عززها الملك بيزمارك ملك امانيا في بداية القرن العشرين، ونجت من التدخل من جميع الجمهوريات المتتالية التي حكمت المانيا بما في ذلك الرايخ الثالث النازي الذي تزعمه ادولف هتلر. فيندهش المتابع ان حتى من أكثر الحكومات المتطرفة في التاريخ وجدت من مصلحتها المحافظة على متانة إدارة الحكومة ونزاهتها. ففي مثل هذه الدول، يدخل الوزير اليوم الى وزارته التي تتمتع بكادر اداري مؤسسي محترف ومنتمي يُمَكِنه من تسيير سياسات الحزب الذي يمثله كضيف. والا وكيف عادت المانيا لتصبح دولة اقتصادية عظمى بعد ما تم تدميرها في الحرب العالمية الثانية بسنوات قليلة، وكذلك اليابان. المؤسسية واحترافية الإدارة هما من ركائز النهج الديمقراطي والحكومات البرلمانية التي نتحدث عنها. فالذي اخذ قرار تدمير الإدارة العراقية عام 2003 كان قارئ جيد للتاريخ ويدرك تماما ما كان يقود اليه.

اما بالنسبة للطريق الصحراوي الذي يربط المملكة بمينائها التجاري والسياحي الوحيد، والذي أودى بحياة العديد من المواطنين، والذي ستنتهي صيانته العام المقبل، فأقول ان الخلل الفكري والإداري الذي  اوصل الطريق الى هذا الموصول هو ذات الخلل الذي سمح بهيكلة مؤسسات الاستثمار عام 2014 بطريقة افقدت المملكة مكانتها التنافسية، ليتم هيكلة جديدة اليوم لتصحيح ما جرى سابقا، بالرغم من ان نتيجة الهيكلة الأولى كانت معروفة منذ البداية، كما كان واضح نتيجة التعديلات على قانون الضريبة، وهو ذات الفكر الذي استمر بالتباهي في نسب النمو العالية في فترة سابقة بالرغم من وصول نسب البطالة في نفس تلك الفترة الى 15%.  فالمعروف ان معدل النمو بين الأعوام 2000 و2008 كانت عالية، وأننا كغيرنا اصطدمنا بالأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت عام 2008، والتي ما ان خرجنا من تبعاتها حتى اصطدمنا مرة اخرى بما سمي بالربيع العربي وتبعاته مثل ازمة اللجوء السوري، واغلاق الأسواق التقليدية امام منتجاتنا، وقنوات صادراتنا التقليدية. هذا كله معروف. ولكن السؤال الأهم هو لو تمكنا من حماية إدارة الحكومة من العبث لمصلحة مآرب قصيرة المدى وقليلة الفائدة، ولكن دمارها شامل، وحافظنا على كفاءاتها، هل كان من الممكن إدارة الازمات بأسلوب حَجَمَت النتيجة التي نعاني منها اليوم. فلا يمكن الاستمرار بملامة الظروف الا بعد تأكدنا أننا لم نقصر بحق أنفسنا اولا، وبنفس الطريقة التي لا نلوم الطالب إذا فشل بعد المثابرة.

وبالرغم من كل ذلك، أقول ان مملكتنا الزاهرة ما زالت دولة حديثة المنشأ. فقد نالت الاستقلال قبل 73 سنة فقط، وانجزت أكثر بكثير من مقدراتها القليلة بفضل قيادتها الحكيمة، دعمتها إدارة سبقت عصرها ولَبَت طموحاتها بالرغم من كل التحديات التي واجهتها والضغوطات التي مورست عليها. فما زلنا نختبر ونعالج ونبحث عن سبيلنا في محيط ملتهب، فنخطئ في بعض الأحيان، وننجح في أحيان أخرى، وهذا مشروع حتى في أنجح الدول. ولكن إذا الخطأ لا بد منه، فلنسامح أنفسنا على الأمور الصعبة المعقدة المفاجئة، وليس على الأمور المفروغ منها مثل الإدارة. فاذا كانت النية من الإعلان عن زيادة رواتب موظفي الحكومة ابتداء من العام القادم هي لزيادة الكفاءة، فهذا لن يحدث. فالكفاءة الإدارية تعتمد على قاعدتين أساسيتين وهما العدالة الصارمة في تطبيق الأنظمة والقدوة الحسنة، وبعكس ذلك سيبقى المثل الشعبي الدارج هو المعيار.

الطريق الصحراوي هو مثل ملموس لنهج اداري غير سليم مؤذي، وهو ذات النهج الذي أدى لكارثة البحر الميت العام المنصرم، وذات النهج الذي أدى الى حدة أزمتنا الاقتصادية، وهو النهج ذاته الذي سيؤدي لكوارث أخرى لم تطف للسطح للان ولن نستبق عواقبها بسبب انحدار الإدارة. وما زلت ابحث عن طيف لاي بادرة للحل. وقد يكون اللغة والنهج والممارسة التي ابحث عنها هي ان ابطال المرحلة القادمة هم موظفين الدولة، فلنحترمهم، ونحترم كبريائهم، وان لا نخدش ثقافتهم، وان نكون قدوة لهم.

التعليقات مغلقة.