صحيفة الكترونية اردنية شاملة

الصفقة

في صبيحة ذلك اليوم المشؤوم، 28 كانون الثاني/ يناير 2020، يوم إشهار وإعلان ما سمي ب “صفقة القرن”، وجدتني لا شعوريا، وحتى قبل إعلانها، أخط بضع كلمات على ورقة صغيرة امامي… كلمات بسيطة، لكنها كانت وليدة مشاعر وشجون جياشة وفياضة، امتزج فيها العشق الأزلي لثرى الوطن الطاهر في فلسطين والأردن، بالحنق الشديد على إدارة أمريكية خرقاء متنمرة، تبنت وثيقة صهيونية يمينية متطرفة، صاغها وروج لها طفلها المدلل في المنطقة، حكومة “إسرائيل”، وصبيانها المتصهينين الذين تحركهم في الإدارة الأمريكية، لفرض الحل الذي تهواه على أصحاب الحق والأرض. وأطلقت عليها وصفا معسولا لا يمت لمحتواها بصلة “خطة السلام من أجل الإزدهار”!!! كانت كلماتي كالتالي: “كلا لن تمر… حفظ الله أردن العز والشموخ وتوأم روحه فلسطين العشق والفؤاد وحماهما من كل مكروه”… تمعنت في كلماتي طويلا وهممت بالإستمرار لكتابة مقال “عاطفي الصبغة” يعبر عما يجول في النفس من مشاعر وشجون جياشة اتجاه هذا الظلم المتجدد… ولكني أمسكت الكتابة بعد بضعة أسطر… أيقنت حينها أن هكذا حدث جلل وتهديد وجودي عظيم وآني ومباشرلتوأمي الروح فلسطين والأردن لا يجب ولا يمكن أن يتم التعامل معه بالعواطف. فآثرت الإنتظارلحين اشهار “الخطة” وقراءتها تفصيليا وتحليلها قبل أن أكتب فيها وعنها، وهذا ما كان.

بدأت أولا في تصفح الشق الإقتصادي منها، والذي جاء في حوالي مائة وأربعين صفحة، ولكني أدركت بعد وهلة بسيطة بأن هذا الجزء لا يستحق حتى عناء القراءة التفصيلية والتحليل. فمن حيث المبدأ، فإن الأوطان لا تباع بأي ثمن، فكيف إن جاء الثمن بخسا جدا (50 مليار دولار) موزعة على “دولة فلسطين” المقترحة والأردن ومصر ولبنان (بمعدل حصة الفرد قي تلك الدول منها لخمسين دينار في العام ولمدة عشرة أعوام)، ومعظمه من خلال قروض لتمويل قائمة مشاريع لا تمت للأولويات التنموية في فلسطين والأردن بصلة، ومنح لمشاريع أخرى تعنى وتركز على أمن إسرائيل، بالإضافة لوعود استثمارات هلامية من القطاع الخاص، لا أكثر ولا أقل. فأسقطت ذلك الجزء فورا من يدي…

وعليه، آثرت التركيز على الشق السياسي “للصفقة” (في حوالي أربعين صفحة بالإضافة للملاحق)، والذي يسطر بوضوح ألرؤية اليمينية المتصهينة المتطرفة لمن صاغ “الصفقة” ل”الحل” الذي يراه مناسبا للقضية الفلسطينية… وثيقة صيغت في معظمها ، ويشكل متعمد، من خلال صياغات توراتية قهرية مذلة تستبيح الطرف الآخر ولا تبقي له للحد الأدنى من الإحترام أو الحفاظ على ماء الوجه… فبوبت قراءتي التفصيلية ل “الصفقة” ودونت تحليلي لها ضمن محاور رئيسة خمسة: محتويات “الصفقة” ومضمونها، أهدافها وغاياتها، ألتفنيد التفصيلي ل “الصفقة” وفق المواثيق والشرائع والقرارات الدولية واتفاقيات السلام الموقعة، ردود الفعل الدولية عليها، ومنثم محاولة اقتراح الحلول والإجراءات المباشرة للتصدي لها والتعامل معها، فجاءت قراءتي لها كما يلي: 

محتويات “الصفقة” ومضمونها: 

فيما يتعلق ب “اللاجئين” فقد نصت “الصفقة” على أن : 

• ” “ألمقترحات” السابقة بأن تقوم “دولة إسرائيل” باستيعاب اللاجئين الفلسطينيين أو أن تعدهم بعشرات المليارات من الدولارات كتعويض لهم لم تكن يوما “منطقية”، ولم يتم توفير مصدر تمويل ذات مصداقية لهذه الغاية مصداقية. وعليه، فإن إتفاقية السلام الإسرائيلية الفلسطينية ستنهي وبشكل مطلق أية مطالبات أو دعاوى متعلقة بعودة اللاجئين أو تعويضهم ولن يكون لأي لاجيء فلسطيني واحد أي حق بالعودة إلى دولة إسرائيل أو استيعابه فيها.

• نقر بأن الأردن، من بين كافة الدول العربية قد لعب في السابق الدور الأكبر في رعاية الشعب الفلسطيني. فعلى المجتمع الدولي تجييش جهد دولي لمساعدة الفلسطينيين لتحقيق حوكمة ملائمة. فمن منطلق القرب الجغرافي والتقارب الثقافي والترابط والعلاقات الأسرية، فإن الأردن في موقع ملائم ليلعب دورا بارزا لتقديم هكذا مساعدة في مجالات التشريع والصحة والتعليم والخدمات البلدية وبناء المؤسسات.

• حال التوقيع على معاهدة السلام الإسرائيلية الفلسطينية سيتم إنهاء حالة وتوصيف “اللاجئين الفلسطينيين” وسيتم حل منظمة إغاثة اللاجئين الفلسطينيين (الأنروا) وسيتم تحويل مسؤولياتها للحكومات ذات العلاقة.

• بالرغم مما سبق، فسنحاول جمع التمويل لتوفير بعض التعويض للاجئين الفلسطينيين من خلال “صندوق اللاجئين الفلسطينيين” والذي سيتولى إدارته مفوضين إثنين أحدهما معين من دولة فلسطين وإخر من الولايات المتحدة الأمريكية.” 

• “نزاع” عام 1948 تسبب في موجة نزوح متبادلة فلسطينية يهودية (حوالي 700-800 ألف لكل طرف)، وعليه يجب تنظيم آلية دولية تتعامل مع حق اللاجئين اليهود في التعويض. كما يجب تعويض إسرائيل عن إستيعابها للاجئين اليهود.” 

أما فيما يتعلق ب “ألقدس” فقد طالبت وثيقة “الصفقة” وادعت بأن : 

• ” يعترف العالم بالقدس (جيروسلم) عاصمة لدولة إسرائيل.

• إسرائيل كانت حافظة/ راعية/ وصية أمينة على القدس. خلال فترة إشرافها حافظت إسرائيل على القدس مدينة مفتوحة وإمنة للمصلين من كل الديانات، وعليه تتولى دولة إسرائيل مسؤولية حماية كافة الأماكن المقدسة والمحافظة على الوضع الديني لها.

كافة الأماكن المقدسة يجب أن تبقى مفتوحة ومتاحة لكافة العابدين المسالمين والسياح من كافة الديانات. ألناس من كافة الأديان يجب السماح لهم بالصلاة في الحرم الشريف وبما يتواءم مع شرائعهم الدينية، والأخذ بعين الإعتبار مواقيت الصلاة والأعياد الدينية والعوامل الأخرى لكل دين.

• ستبقى القدس الموحدة عاصمة لدولة إسرائيل، وستكون عاصمة دولة فلسطين في جزء من القدس الشرقية إلى الشرق والشمال من الحاجز الأمني، وتشمل كفر عقاب الجزء الشرقي من شعفاط وأبو ديس، ويمكن تسميتها القدس أو أي إسم إخر من قبل دولة فلسطين.

• “سكان” القدس خلف خط الهدنة لعام 1949 لديهم الحق في أن يكونوا إما مواطنين في دولة إسرائيل أو مقيمين فيها أو مواطنين في دولة فلسطين.

• تشكيل هيئة مشتركة لتنشيط السياحة في مدينة القدس الموحدة، هدفها تنشيط السياحة الدينية اليهودية والإسلامية والمسيحية في دولة إسرائيل ودولة فبسطين، وتتولى دولة إسرائيل تطوير الإلية الملائمة لتحويل جزء من عائدات السياحة للمدينة القديمة لهذه الهيئة.”

وفيما يتعلق ب “ألأمن والحدود (غور الأردن)” فقد دعت “الصفقة” لأن:

• “أي تنازل تقدمه إسرائيل من هذه الأرض للفلسطينيين هو تنازل مؤلم جدا تستحق الشكر والثناء عليه.

• في الحروب الدفاعية (بالإشارة إلى حروب 1948 و1967 من المنظور الإسرائيلي)، لا تتخلى الدول عن الأراضي التي تحتلها.

• “أرض إسرائيل” هي أرض أجداد وأسلاف الشعب اليهودي، وفيها جذوره.

• تكون دولة فلسطين منزوعة السلاح، ولكن يكون لديها قوات أمنية قادرة على المحافظة على الأمن الداخلي ومنع الهجمات الإرهابية داخل دولة فلسطين وضد دولة إسرائيل والأردن ومصر.

• تناقش دولة إسرائيل والأردن دور، إن وجد، ودرجة مساعدة الأردن لدولة إسرائيل ودولة فلسطين فيما يتعلق بالأمن في دولة فلسطين.

• كافة المستعمرات الرئيسية جزء من دولة إسرائيل، كما تخضع المستعمرات الصغيرة داخل “دولة فلسطين” (وعددها خمس عشر مستعمرة صغيرة) للسيادة الإسرائيلية وترتبط بها من خلال شبكة طرق آمنة.

• لغور الأردن أهمية كبيرة في حماية أمن دولة إسرائيل لأنه يمكن ألقوات الإسرائيلية المتمركزة هناك من تأخير أي هجوم من قبل جيش متفوق عدديا لحين تجنيد قوات الإحتياط خلال 48 ساعة، بالإضافة إلى حمايتها من الإرهاب. لا يوجد حاليا قلق أمني لإسرائيلي من الأردن ولكن من القوى الإقليمية الأخرى. وعليه، سيبقى غور الأردن، والذي له أهمية حرجة لأمن دولة إسرائيل، تحت السيادة الإسرائيلية. 

• تتفاوض إسرائيل مع الحكومة الفلسطينية يشأن المزارع المملوكة من قبل فلسطينيين في الأغوار بما يسمح باستمراريتها وفق الرخص والتصاريح الممنوحة من قبل دولة إسرائيل. “

أهداف ومبررات “الصفقة”:

من خلال القراءة المتأنية لوثيقة “الصفقة” ونصوصها وخلفية من قاموا بصياغتها (جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي ومستشاره الرئيس، وجيسون غرينبلانت المستشار السابق للرئيس الأمريكي لشؤون إسرائيل، وديفيد فريدمان السفير الأمريكي في إسرائيل) وجميعهم من اليهود المتصهينين ذات الإرتباط العميق والتاريخي، وحتى الشخصي والأسري، باليمين الإسرائيلي المتطرف، ومن أشرف عليهم ووجههم ( مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي ومايك بومبيو وزير خارجية الولايات المتحدة وجون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق) وجميعهم ينتمون لأقصى اليمين الأمريكي المحافظ والأقرب لوجه النظر الصهيونية التوراتية، وليست السياسية، للصراع، والمحركين والمحفزين والدافعين لكل من سبق (حكومة بنيامين نتانياهو اليمينية المتطرفة)، والمنهجية التي تم إعدادها وصياغتها من خلالها (استبعاد القيادتين الفلسطينية والأردنية من أية مشاركة أو حتى إطلاع مسبق على توجهاتها ومحتوياتها)، فإنه يتضح بأن أهداف ومبررات “الصفقة” تتلخص وتتركز فيما يلي: 

أولا: فيما يتعلق بالنص والهدف المعلن، فقد نصت وثيقة “الصفقة” بوضوح على أن الهدف الرئيس منها هو ” تحقيق ألتعاون الكامل ما بين الدول العربية ودولة إسرائيل، بحيث تشجع الولايات المتحدة بقوة البدء بتطبيع العلاقات فيما بينها والتفاوض لإبرام إتفاقيات سلام دائمة فيما بينها”. ولم تشر “الصفقة” بإي من بنودها بأن هدفها هو تحقيق سلام عادل وشامل ودائم للقضية الفلسطينية وفق المواثيق والشرائع والقرارات الدولية.

ثانيا: بالإضافة للهدف المعلن، فإن بنود “الصفقة” تظهر بوضوح بأن الهدف الرئيس لها هو تصفية القضية الفلسطينية من خلال فرض حل نهائي لها يتواءم مع الرؤية اليمينية المتطرفة والمتصهينة في كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بمنع إقامة دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة على التراب الوطني الفلسطيني، وأقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، ويتم تجميع الفلسطينيين في “كنتونات” مبعثرة وممزقة يتم خنقها والسيطرة عليها ضمن نظام للتميز العنصري، تهيئة وتمهيدا لتهجير معظم قاطنيها لدول الجوار في المستقبل.

ثالثا: كما تهدف “الصفقة” إلى حل القضية الفلسطينية على حساب الأردن من حيث رفضها القاطع لممارسة أي لاجيء فلسطيني واحد لحقه بالعودة إلى أرضه والتعويض، وإقرارها بتوطين اللاجئين الفلسطينيين في دول الجوار، وخاصة الأردن، بالإضافة لإقرارالسيادة الإسرائيلية على غور الأردن بحجة حفظ أمن إسرائيل، بما سيفتح المجال مستقبلا للإستيطان اليهودي المكثف في غور نهر الأردن الغربي، وبالتالي التمهيد للتمدد لغورنهر الأردن الشرقي وجبال السلط بحجة حماية أمن الإستيطان اليهودي في الأغوار الغربية. هذا كله لا يخالف ويتعارض مع الشرائع والمواثيق والقرارات والاتفاقيات الدولية فحسب، بل ويشكل تهديدا وجوديا حقيقيا ومباشرا ووشيكا للكيان الأردني وهويته الوطنية، ويفتح الباب على مصرعيه للبدء بتنفيذ ما يعرف ب “الخيار الأردني” بتصفية القضية الفلسطينية من خلال الضغط على الفلسطينيين للهجرة شرق النهر وإقامة دولتهم هناك.

رابعا: بالإضافة إلى تأكيد السيادة الإسرائيلية الكاملة على مدينة القدس وانتزاع الإعتراف الدولي بذلك، فإن “الصفقة” تهدف إلى تشريع قيام إسرائيل بالتقسيم “الزماني” (إضافة لل”مكاني”) للحرم القدسي الشريف، وذلك بنصها على أن ” ألناس من كافة الأديان يجب السماح لهم بالصلاة في الحرم الشريف وبما يتواءم مع شرائعهم الدينية، والأخذ بعين الإعتبار مواقيت الصلاة”. هذا النص سيعطي إسرائيل الحق في السماح للمسلمين بدخول الحرم الشريف في مواقيت الصلاوات الخمس فقط، وعدم السماح لهم بدخوله وفتحه لليهود باقي الأوقات، بمبرر وحجة أنه يأتي خارج أوقات الصلاة للمسلمين، إضافة للتقسيم المكاني المعمول به منذ زمن، فتحكم بذلك إسرائيل سيطرتها الكاملة على الحرم الشريف ومصادرة حق المسلمين فيه .

خامسا: ساهمت المشاكل الداخلية التي كان يواجهها كل من رئيس الولايات المتحدة، دونالد ترامب، ورئيس الوزراء الاسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في الإسراع في الإعلان عن “الصفقة”. هذه المشاكل المتمثلة في إدانة الأول من قبل مجلس النواب الأمريكي (على خلفية ممارسته للضغوط على الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلنسكي، للتحقيق في منافسه على منصب الرئاسة، جو بايدن)، والسير بإجراءات عزله. وإدانة الثاني من قبل النائب العام الإسرائيلي على خلفية قضايا فساد. وبالتالي فقد هدف الرئيس الأمريكي من وقوفه خلف “الصفقة”، وإقرارها في هذا الوقت، إلى ضمان تأييد اللوبي الصهيوني (أيباك) له، مما سيكفل له، ليس فقط دعم الجمهوريين له في مجلس الشيوخ لتبرئته من التهم الموجهة له، وهذا ما حصل فعلا، بل أنه سيضمن أيضا دعما لا محدودا منهم في الإنتخابات الرئاسية القادمة والمنوي إجراؤها نهاية العام، حيث أصبحت فرص فوزه فيها عالية جدا بعد هذا الإعلان. أما بالنسبة لرئيس الحكومة الإسرائيلية، فقد عمد، تماما كما الرئيس الأمريكي، إلى محاولة الإدعاء بتسييس عملية إدانته على قضايا فساد، بالإضافة لعدم القدرة على قيامه أو منافسه بيني غانتس زعيم تحالف “أزرق أبيض” المتطرف أيضا، بتشكيل الحكومة بعد عدة محاولات، وبالتالي فتح المجال لإعادة انتخابه في الدورة الإنتخابية الإسرائيلية الإستثنائية القادمة والمنوي إجراؤها في 3 آذار/ مارس القادم ( يوم الثلاثاء القادم). وعليه، فإن أي انتصار سياسي له سيساعده على إلهاء الإسرائيلين عن قضية إدانته، ويمكن أن يساعد في تعزيز موقفه الإنتخابي. وعلى كل ذلك، إلتقت المصالح الإنتخابية للرئيسين ومحاولتهما لتحويل الأنظار عن إدانتهما ومحاكمتهما، بإشهار صفقة تفتقر إلى الحد الأدنى من الشرعية، على حساب الشعب الفلسطيني وحلمه بإنشاء دولته المستقلة القابلة للحياة، وحساب شقيقه الشعب الأردني والتضحية بكيانه وقيادته وهويته الوطنية.

سادسا: من الواضح بأن “الصفقة”، من خلال أهدافها الرئيسة ألمعلنة والضمنية من خلال ما تضمنته من نصوص والطريقة التي أعدت وأعلنت فيها، لم تهدف أو تسعى اصلا للحصول على موافقة الفلسطينيين وتأييدهم لها. بل العكس تماما، فإن من أهدافها ضمان الحصول على رفض الفلسطينيين لها عند إعلانها، بما يتيح لإسرائيل التذرع بذلك مستقبلا ولما ستدعيه هي والإدارة الأمريكية ب “الرفض المتكرر للشعب الفلسطيني لمبادرات السلام وإضاعته لكافة الفرص الممنوحة له”، تمهيدا لاتخاذ مزيد من اجراءات تصفية القضية في المستقبل . وقد ظهر ذلك جليا من خلال ربط تنفيذ “الصفقة” بالأربعة سنوات القادمة، مما سيتيح للرئيس ترامب اتخاذ مزيد من إجراءات تصفية القضية الفلسطينية قبل انتهاء مدة ولايته الثانية. كما كان ذلك واضحا جدا من خلال المهاجمة الفورية لجاريد كوشنر للفلسطينيين ووصفه إياهم ب “الأغبياء” فور إعلان موقفهم الرافض للصفقة، وكأنه كان منتظرا ومتحفزا لهذا الرد المتوقع ليباشر بتنفيذ هجومه على الفلسطينيين والمعد مسبقا لهذه الغاية. 

تفنيد “الصفقة”: 

أولا: لا تشكل “صفقة القرن” أو ما أطلق عليها رسميا “بخطة السلام من أجل الإزدهار” خطة حقيقية لإحلال سلام عادل وشامل ودائم وفق مباديء الشرعية الدولية. بل كانت مجرد وعد منحته حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، ورئيسها دونالد ترامب على وجه الخصوص، لحكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة، بمحاولة فرض حل نهائي للقضية الفلسطينية بما يحاكي ويتواءم مع آمال وطموحات ورؤى اليمين المتطرف المتصهين في كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية. فقد تكون الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة الأعظم (حاليا) في العالم، إلا أنه بالرغم من ذلك، فإن فلسطين ليست من أملاكها أو خاضعة لانتدابها. ولهذا فان الإدارة الأمريكية الحالية حاولت من خلال “الصفقة” منح إسرائيل حقوقا في بلاد ليس لها فيها ملك ولا سيادة، فهي قد وهبت للغير ما لا تملكه. إضافة لمخالفة ““الصفقة”” لكافة المواثيق والشرائع الدولية واتفاقيات السلام السابقة والتي جرت تحت الرعاية الأمريكية (كما سيتم عرضه تفصيليا لاحقا). وعليه فإن “الصفقة” تمثل مجرد وعد، ليس أكثر، صادر ممن لا يملك الحق والأرض والتفويض، والمتمثل بالإدارة الأمريكية الحالية، لمن لا يستحق والمتمثل في دولة الإحتلال الإسرائيلي. 

ثانيا: “دولة فلسطين الجديدة” المقترح إنشاؤها من خلال “الصفقة” هي عبارة عن “كنتونات” متفرقة ممزقة، تخترقها “ثقوب” مستعمرات سرطانية متمددة، ولا تملك أي من خصائص وسمات الدولة، فهي منزوعة السيادة على الأرض والمياه والسماء والحدود وحتى السكان وحركتهم بين أجزائها المترامية أو مع دول الجوار. فالدولة الكرتونية المقترحة ليس لديها أي تماس أو تواصل مع أي عمق عربي صديق أو سيطرة على المعابر الحدودية، بل هي محاطة تماما ومخنوقة من قبل دولة عدوة تسيطر على أرضها وحدودها وسمائها ومائها وحركة سكانها إضافة لاقتصادها وأمنها. وبالتالي فإن مصطلح “الدولة” الذي أطلق على هذه “الكنتونات” المبعثرة، ما هو إلا مجرد تسمية لا تمت للمقترح الفعلي بصلة. وعليه فإن ““الصفقة”” لا تلبي الحد الأدنى من طموح وآمال الشعب الفلسطيني المشروعة وحقه في تقرير مصيره على ترابه الوطني في دولة مستقلة متصلة ذات سيادة قابلة للحياة.

ثالثا: ““الصفقة”” مخالفة تماما لكافة القوانين والشرائع والمواثيق الدولية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، حيث أنها:

• مخالفة لقرارالأمم المتحدة رقم 181 والذي صدر بتاريخ 29 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1947 و ينص على تقسيم فلسطين التاريخية (والبالغة مساحتها 29 ألف كيلومتر مربع) إلى ثلاثة كيانات جديدة: دولة عربية (مساحتها 11 الف كيلومتر مربع أي حوالي اي حوالي 35% من مساحة فلسطين التاريخية)، ودولة يهودية (مساحتها 15 الف كيلومتر مربع أي حوالي 52% من مساحة فلسطين التاريخية) ،ومنطقة خاضعة للوصاية الدولية وتشمل القدس وبيت لحم والمناطق المجاورة. بينما تعطي خطة ترامب أقل من 15% فقط من مساحة فلسطين التاريخية للفلسطينيين وتمنح إسرائيل ال 85% المتبقية من الأرض.

• مخالفة لقرار الأمم المتحدة رقم 194 الخاص بعودة وتعويض اللاجئين والمقترح من قبل الكونت بيرنادوت (والذي تم اغتياله لاحقا من قبل الحركة الصهيونية) وصدر في 11 ديسمبر كلنون الأول عام 1948 والذي يقر بحق عودة اللاجئين الذين يرغبون بذلك وتعويض الذين يقررون عدم العودة والتعويض عن كل فقدان أو خسارة أو ضرر للممتلكات على أن يقوم بالتعويض عن ذلك الفقدان والضرر والخسارة الحكومات والسلطات المسؤؤولة. كما أوجب القرار العودة في أول فرصة ممكنة أي عند توقف القتال عام 1948 وتوقيع اتفاقية الهدنة. وبذلك أقر القرار حقي العودة والتعويض بشكل متلازمان لا يجب أحدهما الإخر. منع إسرائيل لعودة وتعويض اللاجئين حتى يومنا هذا يوجب عليها تعويض كافة اللاجئين عن كافة ما فقدوه بالإضافة إلى الضرر النفسي والمعنوي طوال الفترة الماضي. بينما تنهي “الصفقة” وبشكل مطلق أية مطالبات أو دعاوى متعلقة بعودة اللاجئين أو تعويضهم وتنص على أنه لن يكون لأي لاجيء فلسطيني أي حق بالعودة إلى دولة إسرائيل أو استيعابه فيها، مطالبة دول الجوار باستيعابهم.

• مخالفة لقرارالأمم المتحدة رقم 242 لعام 1967 بانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة عام 1967 والذي صدر في 22 نوفمبر تشرين الثاني عام 1967 مع إيجاد غموض متعمد في النسخة الانجليزية فقط باعتماد مصطلح “أراض محتلة” بدلا من “ألأراضي المحتلة”. علما بأن النسخ للغات الخمس الأخرى الفرنسية والروسية والإسبانية والصينية بالإضافة للعربية احتوت جميعها على “أل” التعريف لوصف الأراضي التي احتلتها إسرائيل. بينما تضم صفقة القرن أكثر من نصف الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967 بالكامل لإسرائيل لاغية أي حق فلسطيني فيها.

• مخالفة لقرار مجلس الأمن رقم 1515 لعام 2003 والصادر في 19 نوفمبر تشرين الثاني عام 2003 الخاص بالتأكيد على مبادرة السلام العربية التي طرحها الملك عبد الله بن عبد العزيز والمستندة إلى تحقيق السلام في الشرق الأوسط والحل الدائم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني على أساس حل الدولتين. حيث تنص المبادرة، والتي أكدها وأيدها القرار، بانهاء الإحتلال الإسرائيلي الذي تم في عام 1967 بناء على الأسس المرجعية لمؤتمر قمة سلام مدريد ومبدأ الأرض مقابل السلام وقرارات الأمم المتحدة 242 و338 و1397 والإتفاقات التي تم التوصل إليها سابقا بين الطرفين، مقابل الإعتراف العربي بإسرائيل وقبولها كجار يعيش بسلام وأمن ضمن تسوية شاملة. لم تكتف خطة ترامب يعدم الإشارة بتاتا إلى مبادرة السلام العربية، والتي كانت أكبر مساهمة للمملكة العربية السعودية في جهود السلام في المنطقة، بل خالفتها في كافة محاورها المتعلقة بالأرض والحدود والقدس واللاجئين.

رابعا: “الصفقة” مخالقة تماما لمعاهدة أوسلو والمعروفة رسميا ب”إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الإنتقالي” والذي وقعته إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في مدينة واشنطن الأمريكية في 13 سبتمبر 3199 في مضمونها وشكلها وتشكل نقضا واضحا لها، حيث:

• نصت المادة (1) من إتفاقية أوسلو (هدف المفاوضات) بأنه الوصول “إلى تسوية دائمة تقوم على أساس قراري مجلس الأمن 242 و338” . وأنه من المفهوم أن “الترتيبات الانتقالية هي جزء لا يتجزأ من عملية السلام بمجملها وأن المفاوضات حول الوضع الدائم ستؤدي إلى تطبيق قراري مجلس الأمن 242 و338 من بين أمور أخرى، وكفترة إنتقالية، تقام سلطة حكومة ذاتية انتقالية فلسطينية ومجلس المنتخب للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة لفترة انتقالية لا تتجاوز الخمس سنوات، وذلك للوصول إلى تسوية دائمة بناء على قراري الأمم المتحدة 242 و338. بما لا يتعدى بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالي”. بينما تشير صفقة القرن إلى أن الهف الرئيس منها هو ” تحقيق ألتعاون الكامل ما بين الدول العربية ودولة إسرائيل”، دون أية إشارة لأن الهدف منها هو إيجاد تسوية شاملة وعادلة للقضية الفلسطينية على أساس قراري مجلس الأمن 242 و338.

• نصت المادة (4) (ألولاية) من إتفاقية أوسلو بأن يعتبر الطرفان الضفة الغربية وقطاع غزة وحدة ترابية واحدة ، يجب المحافظة على وحدتها وسلامتها خلال الفترة الانتقالية . بينما قامت صفقة القرن بحصر الأماكن الخاضعة للسلطة الفلسطينية (دولة فلسطين المقترحة) بحوالي 50% من أراضي الضفة الغربية مقسمة ومفتتة في “كنتونات” متفرقة تتصل ببعضها من خلال ممرات ضيقة وليس لها أي تواصل أو تماس مع أية دولة خارجية.

• نصت المادة ( 5 ) (الفترة الانتقالية ومفاوضات الوضع الدائم) في البند (6) منها على أن الطرفين “يتفقان على أن لا تجحف أو تخل اتفاقيات المرحلة الانتقالية بنتيجة مفاوضات الوضع الدائم” ، بينما تقر “الصفقة” نتائج الوضع النهائي والدائم فيما يتعلق بالقدس (إعتراف العالم بها كعاصمة موحدة لدولة إسرائيل) واللاجئين (لا عودة ولا تعويض من قبل إسرائيل وتوطين في الدول المجاورة خاصة الأردن، مقابل تعويض “اللاجئين اليهود وتعويض إسرلئيل على إستيعابهم) والحدود (سيادة إسرائيل على غور الأردن).

خامسا: تخالف “الصفقة” وبشكل جوهري معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية ( أو ما يعرف بمعاهدة وادي عربة) والتي وقعت في 26 تشرين ثاني / أكتوبر عام 1994 في مضمونها وشكلها حيث:

• نصت الفقرة (9) من اتفاقية وادي عربة على ربط عملية السلام بين الأردن وإسرائيل بالعملية السلمية الفلسطينية – الإسرائيلية، وبما أن صفقة القرن حازت على الرفض المطلق للشعب الفلسطيني بكافة مكوناته، وعليه فإن “الصفقة” تجعل إتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية في وادي عربة بكافة تبعاتها لاغية وباطلة.

• نصت المادة (3) (ألحدود الدولية) من معاهدة وادي عربة على أن يتم تحديد الحدود الدولية بين الأردن وإسرائيل على اساس تعريف الحدود زمن الانتداب البريطاني، بحيث تعتبر هذه الحدود حدودا دولية دائمة وامنة معترفا بها بين الأردن وإسرائيل، دون المساس بوضع اي اراضي وقعت تحت سيطرة الحكم العسكري الإسرائيلي عام 1967 والتي ستخضع لمفاوضات الحل الدائم بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، بينما تمنح صفقة القرن، ومنذ البداية ودون أية تفاوض، ألسيادة على غور الأردن لإسرائيل، بما يخالف ويغاير ما اتفق عليه الطرفان بما سيكون حدودا دائمة بينهما. 

• أعربت إسرائيل في الفقرة (9) أيضا عن اعترافها بالدور التاريخي الأردني في حماية المقدسات المقدسية، بينما أشارت صفقة القرن بأن “إسرائيل كانت حافظة/ راعية/ وصية أمينة عللى القدس. خلال فترة إشرافها حافظت إسرائيل على القدس مدينة مفتوحة وإمنة للمصلين من كل الديانات”، وأن “دولة إسرائيل تتولى مسؤولية حماية كافة الأماكن المقدسة والمحافظة على الوضع الديني لها” بما يلغي اعتراف إسرائيل والولايات المتحدة للدور التاريخي للاردن في الوصاية والمحافظة على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس.

• نصت المادة (8) (اللاجئون والنازحون) من إتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية. على اعتراف الطرفين بان مشكلة اللاجئين والنازحين، والتي تسببها النزاع في الشرق الاوسط لا يمكن تسويتها بشكل كامل على الصعيد الثنائي، وعليه فإن الطرفان يسعيان إلى تسويتها في المحافل والمنابر المناسبة وبمقتضى احكام القانون الدولي، بينما تنهي صفقة القرن قضية اللاجئين منذ البداية بإنهائها لأي حق لأي واحد منهم بالعودة والتعويض من قبل إسرائيل.

سادسا: لم يشارك ألطرف الأساس، ألفلسطينيون وقيادتهم وممثلوهم في المجلس الوطني الفلسطيني، في صياغة بنود “الصفقة” ولم يعرفوا عن أي من تفصيلاتها قبل إقرارها ، مما يفقد “الصفقة” ألشرعية وأية احتمال لأن تكون أساسا عادلا لتحقيق سلام عادل وشامل ودائم في الشرق الأوسط.

سابعا: لم يشارك الأردن، وهو الطرف الأكثر تأثرا سلبيا من “الصفقة”، بعد الشعب الفلسطيني، في صياغة بنود “الصفقة” ولم يعرف عن أي من تفصيلاتها قبل إقرارها، مما يفقد “الصفقة” ألشرعية وأية احتمال لأن يكون الأردن شريكا إيجابيا في تنفيذها، وذلك لما تحويه “الصفقة” من مضامين وأهداف لحل القضية الفلسطينية على حساب الأردن وإذابة الهوية الوطنية الأردنية من خلال توطين اللاجئين الفلسطينيين فيه. ولم يكن مديح الرئيس ترامب لجلالة الملك عبد الله الثاني إبن الحسين خلال حفل إشهار “الصفقة” إلا محاولة منه لإعطاء الإنطباع بعلم ورضى جلالته عن “الصفقة”، مما يساهم في حملة التشكيك بالقيادة الأردنية الهاشمية وبالتالي محاولة زرع الفتنة بين الشعب وقيادته وبالتالي يدعم تحقيق أهداف “الصفقة”.

ثامنا: تحاول “الصفقة” التحايل على الشرائع الدولية، وذلك بطرح ومحاولة شرعنة افكار دخيلة عدوانية تشكل تهديدا مباشرا للسلم والأمن والإستقرار العالمي، وتخالف كافة الشرائع والمواثيق الدولية، ومنها محاولة تشريع إحتلال الأرض وفرض السيادة عليها والتوسع فيها والمناطق المجاورة لها وبالقوة وتحت حجج ومبررات واهية. تجلى ذلك من خلال طرحها بأنه “في (الحروب الدفاعية) لا تتخلى الدول عن الأراضي التي احتلتها” (في الإشارة إلى حروب 1948 و1967 من المنظور الإسرائيلي)، وطرحها بإعطاء الحق لإسرائيل كدولة محتلة بالتوسع وضم الأراضي التي تحتلها لسيادتها (مثل غور الأردن) تحت ذريعة “المحافظة على أمن” كتلها الإستيطانية غير الشرعية أصلا في الضفة الغربية. محاولة شرعنة هكذا مصطلحات فضفاضة والتي ليس لها تعريف واضح في القانون الدولي ك “الحروب الدفاعية” والتفريق بينها وبين الحروب الهجومية، و”إعلان السيادة على المناطق المحتلة” ومنثم “التوسع فيها بهدف المحافظة على أمن الإستيطان فيها”، تشكل تهديدا مباشرا للأمن والسلم والإستقرار العالمي، وتخالف بشكل مباشر ميثاق الأمم المتحدة الذي أنشأت بموجبه. فهكذا منطق، أو الأحرى عدمه، يفتح المجال واسعا أمام أي دولة قوية للشروع في مهاجمة أية دولة أخرى تحت ذريعة “الحرب الدفاعية”، ومنثم إعطاء الدولة المحتلة الحق لضم الأراضي التي احتلتها وفرض سيادتها عليها والاستيطان فيها بعد أن أخضعتها لسيادتها بشكل غير شرعي وقانوني، ومنثم التوسع حولها بمبرر “حفاظ أمنها” وهكذا دواليك، وبالتالي استمرار حلقات التوسع العدواني المستقبلي والضم والإستيطان في مناطق ودول مجاورة أخرى في مراحل قادمة تحت نفس الذرائع الدفاعية والأمنية الواهية.

تاسعا: تنطلق “الصفقة” في محتواها وصياغتها من رؤية دينية توراتية متشددة، كطرحها بأن “أرض إسرائيل” هي أرض أجداد وأسلاف الشعب اليهودي، وفيها جذوره، وأن القدس هي مركز الشعب اليهودي، وأن أي تنازل عن أرض إسرائيل هو تنازل مؤلم لها وتستحق الشكر والثناء عليه، وغيرها الكثير من النصوص الشبيهة. بينما تنكر تماما عروبية الأرض والإرتباط العربي الإسلامي والمسيحي فيها منذ نشأة التاريخ. وتنظر لأصحاب الأرض الفلسطينيين على أنهم “سكان” طارئين لهذه الأرض و “مجموعة إنسانية مقيمة” يجب التعامل مع “مشكلتهم” على هذا الأساس، سواء بالإقامة في “كنتونات” فصل عنصري (ألدولة الكرتونية المقترحة) أو بالتوطين في الدول المجاورة أو الدول الإسلامية أو الحصول على الجنسية الإسرائيلية أو الإقامة “لساكني” القدس العرب. وعليه، فإن هذه الصياغة التوراتية المتشددة، والمنحازة كليا لصالح إسرائيل، بالنظر للصراع على أساس أنه صراع ديني وليس سياسي، تفقدها المصداقية والشرعية بالكامل، وأي فرصة لأن ينظر لها كوثيقة سياسية يمكن أن تساهم في إيجاد أي حل عادل وشامل ودائم للصراع العربي الإسرائيلي. 

عاشرا: إضافة لكون محاولة انتزاع اعتراف العالم بالقدس كعاصمة موحدة لإسرائيل، والذي دعت إليه “الصفقة”، مخالفة لكافة الشرائع والمواثيق والقرارات الدولية واتفاقيات السلام الموقعة، إضافة لنقض “الصفقة” وبشكل مباشر لدور الأردن الهاشمي في الوصاية على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس والمنصوص عليه صراحة في هذه الإتفاقيات، فإن محاولة “الصفقة” إعطاء الحق لإسرائيل بالتقسيم “الزماني” و”المكاني” للحرم القدسي الشريف فيها استباحة ومس مباشر بعقيدة أكثر من مليار مسلم في العالم، والذين ينظرون لأولى قبلتيهم وثالث حرميهم الشريفين على أنه وقف إسلامي ملكهم جميعا، لا يمكن السماح بالمس والتلاعب به بأي شكل من الأشكال. 

أحد عشر: حتى قبل الإعلان عن “صفقتها”، فقد أفقدت الإدارة الأمريكية الحالية نفسها رسميا وشعبيا، وبشكل جلي وكلي وإلى غير رجعة، ومنذ توليها السلطة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، أية مصداقية لأن تكون “راع ووسيط نزيه ومحايد” لعملية السلام في الشرق الأوسط. فعلت ذلك من خلال سلسلة من القرارات المنحازة بشكل مطلق لحكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة. تضمنت هذه القرارات قرارها في 6 كانون أول/ ديسمبر عام 2017 بنقل سفارتها إلى القدس، وافتتاحها فعليا لها فيها في 14 أيار/ مايو عام 2018، بما يخالف نهج سياسة الإدارات الأمريكية المتعاقبة طوال عقود سابقة (منذ قرار الكونغرس الأمريكي بذلك في تشرين أول/ أكتوبر عام 1995 وتأجيل تنفيذه من قبل الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين منذ ذلك الوقت). بالإضافة لقيام الإدارة الأمريكية بالوقف الكلي لتمويل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في 31 آب/ أغسطس عام 2018، واعترافها بالسيادة الإسرائيلية على الجولان في 25 آذار/ مارس عام 2019، وإعلانها (على لسان وزير خارجيتها مايك بومبيو) في 18 تشرين ثاني/ نوفمبرعام 2019 أنها لم تعد تعتبر المستوطنات الإسرائيلية في الضفة المحتلة “مخالفة للقانون الدولي” (بالرغم من أنها تماما كذلك وفق كافة الشرائع والمواثيق والقرارات الدولية وباعتراف العالم أجمع)، وعليه، وبالرغم من قدرة أية دولة في العالم بوضع أية خطة تريد حول أي موضوع، إلا أن الإدارة الأمريكية الحالية، فاقدة المصداقية فلسطينيا للتعامل مع القضية الفلسطينية، لم تكن مفوضة من أصحاب الشأن الرئيسين ليقوموا بتقديم اية مبادرات أو خطط تخص قضيتهم. وبالتالي تفقد الخطة شرعيتها في ظل فقدان مقدمها للمصداقية والتفويض له من قبل صاحب القضية والمعني الرئيسي بها لطرحها، والرفض الفلسطيني المطلق لها بعد إعلانها. 

إثنا عاشر: “الصفقة” تتعارض مع إرادة مجلس النواب الأمريكي نفسه والذي أصدر، في كانون أول/ ديسمبر عام 2019 وقبل أسابيع من إعلان “الصفقة”، قرارا يعارض الضم الأحادي الجانب في الضفة الغربية، مقرا بأن أي خطة أمريكية ذات مصداقية يجب أن تتضمن دعما لحل حقيقي قائم على الدولتين ويحترم الحقوق والتطلعات المشروعة لكلا الطرفين، حيث صدر القرار بغالبية 226 عضوا مقابل اعتراض 188 عضوا.

ثلاثة عشر:يضاف لكل ما سبق، فإن “الصفقة” المقترحة لا تشكل تهديدا وجوديا لفلسطين والأردن فحسب، بل إن تطبيقها سيشكل أيضا تهديدا وجوديا لدولة إسرائيل نفسها على المدى البعيد. فالتكتل الديموغرافي العربي الفلسطيني، المسلم والمسيحي، على أرض فلسطين التاريخية اليوم (الضفة الغربية وقطاع غزة وعرب ال48) يقدر بأكثر من خمسة ملايين شخص موزعين على كافة الأرض وبنسب نمو سكاني متزايدة، يقابلهم عدد مساو تقريبا من اليهود الذين يتمركزون على الساحل وبنسب نمو أقل. وعليه فإن النظرة والتفكير الإنتخابي قصير المدى لقيادتي الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية المتطرفة، سيدفع، وإن مع مرور الوقت، باتجاه تبني “حل الدولة الواحدة” والتي لن يقبل العالم بأن تكون مرتكزة على مباديء الفصل والتمييز العنصري، فأيام تلك قد ولت إلى غير رجعة. ولن تستطيع إسرائيل تهجيرغالبيتهم العظمى في المستقبل، حتى ولو حاولت اقصى جهدها لأن تفعل ذلك، وذلك بفضل وعي الفلسطينيين وارتباطهم وتمسكهم وتجذرهم بإرضهم. وعليه فلن يكون سهلا عليها اقتلاعهم من أرضهم كما كان الحال عليه بالأمس. وبالتالي فإن “الصفقة” في واقع الحال إنما هي أيضا تهديد وجودي لإسرائيل من الداخل على المدى البعيد، أكبر وأخطر من أي تهديد خارجي يمكن أن تواجهه أو كانت قد واجهته في السابق. كثير من الإسرائيلين واليهود داخل الولايات المتحدة الأمريكية وفي العالم يعون هذه الحقيقة، وبناء عليها يعارضون معارضة شديدة ويرفضون كافة توجهات اليمين المتصهين المتطرف في إسرائيل، ومنها هذه “الصفقة”. 

ردود الفعل على “الصفقة”:

رفضت السلطة الوطنية الفلسطينية، “الصفقة” رفضا قاطعا، لأنها لا تلبي الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني، وأوضحت على لسان الرئيس محمود عباس أن مصيرها سيكون “مزبلة التاريخ”. وقامت بقطع كل علاقاتها مع الولايات المتحدة وإسرائيل بما في ذلك تلك المتعلقة بالتنسيق الأمني. 

كما أكد جلالة الملك عبد الله الثاني على رفض الأردن القاطع للخطة الأمريكية لحل القضية الفلسطينية المعروفة باسم “صفقة القرن” دون الإعتماد على مبادرة السلام العربية وقرارات الشرعية الدولية، وأكد جلالته بان “موقفنا هو كلا… وهو معروف للجميع”. وأكدت الحكومة الأردنية بأن ثوابت الأردن واضحة تجاه القضية الفلسطينية، وتترجمها “اللاءات الملكية الثلاث” حول التوطين والوطن البديل والقدس، مؤكدة على رفض المملكة لأي إجراءات أحادية تستهدف تغيير الوضع القائم في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وأن حل الدولتين الذي يلبي الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، هو السبيل الوحيد لتحقيق السلام الشامل والدائم، محذرة من “التبعات الخطيرة لأي إجراءات أحادية إسرائيلية”. ومن الجدير بالذكر بأن هذه تعد من الحالات النادرة في تاريخ العلاقات الأردنية الأمريكية التي يظهر فيها الخلاف المباشر للإدارتين على أي من القضايا على الملأ.

من ناحيته، أصدر مجلس جامعة الدول العربية قرارا أكد فيه “رفض صفقة القرن الأميركية – الإسرائيلية”. وجاء في قرار مجلس الجامعة المنعقد على مستوى وزراء الخارجية، أنه تم “رفض صفقة القرن الأميركية – الإسرائيلية، باعتبار أنها لا تلبي الحد الأدنى من حقوق وطموحات الشعب الفلسطيني، وتخالف مرجعيات عملية السلام المستندة إلى القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة”. وشدد القرار على “التأكيد على عدم التعاطي مع هذه “الصفقة” المجحفة، أو التعاون مع الإدارة الأميركية في تنفيذها، بأي شكل من الأشكال”.

روسيا، وعلى لسان المتحدث باسم الكرملين صرح بأن خطة السلام في الشرق الأوسط التي طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تتناقض مع عدة قرارات للأمم المتحدة. وأضاف المتحدث ”بأننا نرى رد فعل الفلسطينيين ونرى رد فعل مجموعة كبيرة من الدول العربية التي وقفت بجانب الفلسطينيين في رفض الخطة. وهذا يبعث بالطبع على التفكير في جدواها“. واتخذت الصين موقفا مشابها للموقف الروسي. بعض الدول الأوروبية، مثل المملكة المتحدة وفرنسا، رحبت بالجهود الأمريكية “لإحلال السلام في الشرق الأوسط”. 

ومن الملفت للإنتباه قيام مائة وسبعة من أعضاء الكونغرس الأمريكي بتوجيه رسالة شديدة اللهجة للرئيس ترامب يدينون فيها بشدة خطتة ويحذرون من استخدامها من قبل الحكومة الإسرائيلية ك “ترخيص لانتهاك القانون الدولي من خلال ضم الضفة الغربية بكاملها أو أجزاء واسعة منها” وأن الخطة ” تتعارض مع إرادة مجلس النواب (الأمريكي) والذي أصدر، قبل أسابيع فقط من إعلان الخطة، قرارا يعارض الضم الأحادي الجانب في الضفة الغربية” وأن “أي خطة أمريكية ذات مصداقية يجب أن تتضمن دعما لحل حقيقي قائم على الدولتين ويحترم الحقوق والتطلعات المشروعة لكلا الطرفين” وأن “مجموعة من الجيوب الفلسطينية المعزولة المحاطة بالمستوطنات والبنية التحتية للمستوطنأت التي ضمتها إسرائيل، لا تشكل دولة” وأن “هذا يهدد اتفاقيات السلام الإسرائيلية مع الأردن ومصر” وأن المخطط ” يمهد الطريق للإحتلال الدائم للضفة الغربية وهذا بدوره سيؤذي الفلسطينيين والإسرائيلين على حد سواء”… ومن الموقعين على الرسالة مرشحي الرئاسة بيرني ساندرز وتلسي جابارد، والنواب ألان لوينثل وإندي ليفين وجو كينيدي الثالث وإلهان عمر وكريس فان هولن والذي وصفها بدوره ب “كارثة القرن”.

ألتعامل مع “الصفقة”: 

إذا ف”الصفقة”، وعد من لا يملك لمن لا يستحق في إصداره المزيد، جاءت مخالفة لكافة الشرائع والمواثيق والقرارت الدولية، ومتناقضة جوهريا لوثيقة إعلان المباديء الفلسطينية الإسرائيلية (أتفاقيات أوسلوا) واتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية (إتفاقية وادي عربة)، وهدفها الأول والأخير تصفية القضية الفلسطينية على حساب الشعبين الفلسطيني والأردني وتهديد الكيان والهوية الوطنية الأردنية، مع تسريع وتيرة التطبيع العربي الإسرائيلي بشكل مواز. وتجيء في هذا الوقت بالذات لإنقاذ رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ورئيس الوزراء الإسرائيلي من مشاكلهما الداخلية بما سيقوي لدرجة كبيرة من إحتمالية إعادة انتخاب الأول لولاية ثانية، ويلهي الرأي العام الإسرائيلي عن قضايا فساد الثاني ويعزز من فرصة انتخابه عند إجراء الدورة الإستثنائية للإنتخابات في 3 آذار/ مارس 2020 (ألثلاثاء المقبل). كل هذا وسط رفض فلسطيني وأردني معلن وتحفظ روسي وصيني ومن العديد من أعضاء مجلس النواب الأمريكي، وتأييد اوروبي لأية جهود لدفع العملية السلمية. صفقة صيغت بمعزل عن الطرف الرئيس فيها صاحب القضية، الشعب الفلسطيني، والطرف الأكثر تأثرا سلبا بعده، الأردن، قيادة وشعبا، وبما يضمن رفضهما اللاحق والمتوقع والمستهدف اصلا لها، مع مضي محاولات وإجراءات السير فيها قدما رغم هذه المعارضة…

إذا ماذا بعد؟؟؟ وكيف يمكن لفلسطين والأردن (قيادة وشعبا) التعامل معها ودرء التحديات الوجودية الهائلة التي تفرضها، وهل يمكن لهما التفكير خارج الصندوق واقتراح حلول مبادرة مبتكرة ترد من خلالها كيد الكائدين ومكر الماكرين إلى نحورهم، وتقلب الطاولة فوق رؤوسهم؟… فهل توجد هكذا حلول ضمن المعطيات والتحديات الداخلية والإقليمية والدولية، وفي ضوء الإرتباط المتجذر (العسكري والإقتصادي) والضغط الهائل على كلا الكيانين من قبل الحكومة الحالية الخرقاء المتنمرة للولايات المتحدة الأمريكية؟!

أعتقد جازما بوجود هكذا حلول، إذا ما توفرت القناعة التامة لدى القيادتين والشعبين الشقيقين الفلسطيني والإردني بأن هذه “الصفقة” الوعد تشكل أكبر تحد وجودي تاريخي لهما، يجب عليهما التعامل معه سويا بكل جدية وجرأة ومبادرة ودون تلكؤ أو تردد أو ضعف. فالأمور لا يمكن أن تسير نحو أسوأ من الذي تسير إليه حاليا، فلا شيء بقي لنخسره إذا ما نفذ هذا المخطط. والعدو المدلل من قبل راعيه المتنمر، تشجعه وتحفزه الردود الضعيفة للإمعان في ظلمه وتعديه، ولا يرده ولا يردعه سوى ردود الفعل القوية، والسياسة هي فن خلق الممكنات من وسط الصعاب، وخلق الفرص من وسط التهديدات، وليس فقط التصدي لها والتعامل معها… هكذا حلول متوفرة إذا ما توفرت القناعة والنية والإلتزام بإيجادها وتنفيذها، وأعتقد جازما بأنها كذلك. كل ما يحتاجه الأمر بعدها هو اتخاذ القرار بها والسير بتنفيذها…

يمكن لهكذا حلول أن تشمل بعضا مما يمكن أن يندرج تحت إطار “رد الفعل”، ويمكن لبعضها أن يجيء بشكل “ريادي مبادر”. كما أن ألحلول المقترحة قد ينظر لأغلبها على أنها حلول غير تقليدية، أو حتى مستفزة، وتجيء خارج الصندوق وتندرج تحت فئة “سياسة كسر التابوهات السياسية التقليدية”، وعليه، فإنه يمكنها أن تحدث رد فعل قوي من قبل بعض الأطراف، فتهز بذلك الماء العكرة أصلا وبعنف… ولكن يبقى الرد على ذلك بإنه عندما تسوء الأمور لهذه الدرجة، يكون هذا تماما ما هو مطلوب، ولا شيء غيره، فغريق الحق والأرض والعرض لا يخشى البلل. 

أما أبرز الحلول الآنية والمباشرة التي تندرج ضمن إطار “رد الفعل” فيمكن أن تشمل:

أولا: إعادة ألتأكيد، ومن على كل محفل ومنبر داخلي ودولي، مرارا وتكرار، وبشكل واضح لا لبس فيه أو إبهام، على رفض القيادة والحكومة والشعب الفلسطيني والإردني الكلي والجذري لهذه “الصفقة”. فتكرار الرفض والتأكيد عليه مرارا وتكرارا وبصوت عال، وخاصة وأنه متأت من الطرف الفلسطيني الرئيس صاحب القضية، وشقيقه الأردني الأكثر تأثرا سلبا وتهديدا لكيانه بها (والمعروف بحكمة قيادته ووسطيتها واعتدالها واحترام العالم بأجمع لها، على عكس المتفقين على “الصفقة”)، سيحفز ويدفع ويجبر العالم بأن يتعامل مع “الصفقة” كما تستحقة بنبذها وتجاهلها وتسويفها، والعودة لجادة الصواب المتمثلة بالشرعية والمرجعية الدولية، بالرغم من نفوذ وجبروت وغطرسة وتنمر القيادة الحالية للإدارة الأمريكية على العالم أجمع، أصدقاء قبل الأعداء.

ثانيا: تجاوز المعارضة الإعلامية للصفقة، وذلك بأن تقوم الحكومتين الفلسطينية والأردنية بإعلام حكومة إسرائيل ومن خلال القنوات الرسمية، وليس إعلاميا، بأن هذه “الصفقة” الوعد تشكل تعارضا ونقضا واضحا وإلغاء “أحادي الجانب “من قبل إسرائيل لإتفاق إعلان المباديء الفلسطيني الإسرائيلي (إتفاقيات أوسلو) وإتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية (أتفاقية وادي عربة)، وأن هذا الإلغاء “أحادي الجانب” من قبل إسرائيل لم يتأت برغبة من القيادتين والحكومتين الفلسطينية والأردنية، بل جاء وبشكل حصري ومباشر نتيجة لاتفاق الحكومتين الإسرائيلية والأمريكية على خطة تعارض وتخالف في هدفها وجوهرها ومرجعها ومضمونها وتفصيلاتها تلك المتضمنة في إعلان المباديء واتفاقية السلام، ودون الحد الأدنى من التشاور مع الأطراف الرئيسة ذات العلاقة. وعليه فإن القيادتين والحكومتين الفلسطينية والأردنية تعتبر وترى أن إسرائيل، والتي قامت بتحريك “الصفقة” وصياغتها والدفع بها لتبنيها من قبل حكومة الولايات المتحدة وتأييدها بشكل مطلق، إنما قامت من خلال كل ذلك و”بشكل إحادي الجانب” بإلغاء إعلان المباديء الفلسطيني الإسرائيلي واتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية بشكل رسمي. وأن هذا الإلغاء من قبل إسرائيل لإعلان المباديء الفلسطيني الإسرائيلي واتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية، المفروض على فلسطين والأردن، سينجم عنه العودة إلى نقاط ما قبل التوقيع على هذه الإتفاقات، وبالتالي السيرنحو إلغاء كافة الاتفاقيات والتفاهمات الاقتصادية والأمتية المنبثقة عنها. والبدء بإعداد جدول زمني محدد لتفكيك كافة مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية التي تشكلت نتاج أتفاقيات أوسلوا، وجدول زمني لوقف التعاون الأردني الإسرائيلي في المجالات الإقتصادية والمجالات الأخرى، وإعلام الجانب الإسرائيلي بهذه الجداول الزمنية للبدء بتنفيذها.

ثالثا: قيام الحكومتين الفلسطينية والأردنية بإعلام كافة الدول بالعالم، ومن خلال القنوات الرسمية، بأنهما يريان في “الصفقة” إلغاء “أحادي الجانب” من قبل إسرائيل لإعلان المباديء الفلسطيني الإسرائيلي واتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية وما انبثق عنها من اتفاقيات وتفاهمات اقتصادية وأمنية خلال العقود الماضية، مما ينجم عنه من تهديد مباشر للأمن والسلم في المنطقة وفي العالم أجمع. والقيام بتنفيذ حملة دبلوماسية مكثفة لشرح وجه النظر الفلسطينية والأردنية هذه وكسب التأييد العالمي لها.

رابعا: تكثيف الجهد الدبلوماسي الأردني داخل الولايات المتحدة الأمريكية مع أعضاء الكونغرس الأمريكي مباشرة (وليس الإدارة الأمريكية والتي يجب الإنعزال والإبتعاد عنها وعدم التعامل معها بقدر الإمكان)، ومن خلال كافة وسائل الإعلام الأمريكية، لشرح وجهة النظر الأردنية الفلسطينية المعارضة للصفقة، وتأثيراتها السلبية على الأمن والإستقرار في المنطقة واتفاقيات السلام الموقعة، ليتم بذلك البناء على المعارضة القوية التي أظهرها مائة وسبعة أعضاء منهم لها، ومستندا هذا الجهد ومرتكزا على الإحترام والتقدير الكبيرين الذي يكنه أعضاء الكونجرس كافة (ديمقراطيون وجمهوريون) لجلالة الملك عبد الله الثاني إبن الحسين المعظم.

أما الحلول ” المبادرة غير التقليدية”، والتي تأتي خارج الصندوق وبمكن أن تولد رد فعل وتهز الماء العكرة بشكل عنيف، وهو المطلوب، فيمكن أن تتأتى من خلال:

خامسا: قيام القيادتين الفلسطينية والاردنية بالإعلان وبشكل رسمي بأن “الصفقة” وما تعنيه من إلغاء “أحادي الجانب” من قبل إسرائيل، وداعمها حكومة الولايات المتحدة، لإتفاق إعلان المباديء الفلسطيني الإسرائيلي وإتفاقية السلام الأردنية الأسرائيلية قد جعل الآن هدف إنهاء الصراع في الشرق الأوسط وإيجاد حل عادل وشامل ودائم للقضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين واستنادا إلى قراري الأمم المتحدة رقم 242 و338 مستحيلا. ف”الصفقة” أزالت، وعن سبق إصرار وترصد، وبشكل كلي ما يعرف بعلم التفاوض ب “منطقة الإتفاق المحتمل” (Zone of Possible Agreement)، وهي المنطقة المحصورة ما بين الحد الأقصى الذي يقرر الطرف الأقوى منحه والحد الأدنى الذي يستطيع الطرف الأضعف قبوله. فما يعرضه الطرف الأقوى فيها، وعن سبق علم واصرار واستهداف، يستحيل على الطرف الأضعف مجرد التفكير بالموافقة عليه وقبوله.

سادسا: وعليه فإن هذا النقض من قبل إسرائيل للإتفاقيات السابقة يفتح المجال أمام القيادتين والحكومتين الفلسطينية والأردنية لتقديم مبادرات جديدة لحل القضية الفلسطينية باعتماد مرتكزات (أوتاد تفاوضيةNegotiating Anchors ) جديدة غير المرتكزات التي استندت إليهما إتفاقيات إعلان المباديء والسلام الفلسطينية الإسرائيلية والأردنية الإسرائيلية، والمتمثلة في مرتكز “حل الدولتين” ومرتكز “قراري الأمم المتحدة 242 و338”. لتبادر قيادتا وحكومتا فلسطين والأردن بطرح مبادرتين جديدتين لإحلال السلام في الشرق الأوسط ترتكز الأولى منها على “حل الدولة الواحدة” وترتكز الثانية على “قرار الأمم المتحدة رقم 181” كما يلي:

• ألمبادرة الأولى (مستندة للواقع على الأرض إذا ما أرادوا ذلك، ومنطلقة من القول الإنجليزي الشائع “إحذر ما تتمناه”): حل النزاع العربي الإسرائيلي حلا دائما ونهائيا على أساس “حل الدولة الواحدة” من البحر إلى النهر، بحيث تكون هذه الدولة دولة ديموقراطية متعددة الأعراق والقوميات والديانات. لكافة القاطنين عليها كافة الحقوق وعليهم كافة الواجبات. لهم جميعا كافة حقوق المواطنة الكاملة دون إنقاص، خالية من أي تمييز عنصري وأية كانتونات فصل عنصري أو جدران فصل أو حواجز أونقاط تفتيش. دولة لا يوجد فيها مواطنون من درجات مختلفة أولى وثانية وثالثة. لتقوم الجمعية العامة للأمم المتحدة بإصدار قرار إنشاء هذه الدولة بالأغلبية، وتحديد حدودها الدولية وتسميتها وفق المرجعيات والمسميات التاريخية لهذه الأرض المباركة.

• ألمبادرة الثانية (مستندة للحق إذا ما أرادوه): حل النزاع على أساس “حل الدولتين” ولكن وفق قرار الأمم المتحدة رقم 181 (قرار التقسيم)، وليس قرار الأمم المتحدة رقم 242. فقرار رقم 181 هو الذي هدف ونص بشكل واضح ومحدد ومفصل إلى إنشاء دولتي فلسطين واسرائيل على أرض فلسطين التاريخية، بينما نص قرار 242 إلى انسحاب اسرائيل من الأراض التي احتلتها عام 1967 فقط، ولم يشر من قريب أو بعيد لحل الدولتين. ولذلك فقد كان خطأ جسيما لمتخذي القرار الفلسطيني والأردني بأن وافقوا حينها على الإستناد لقرار 242 وليس لقرار 181 كأساس (Anchoring Point) للتفاوض، وقد أشار الكثير من الوطنيين وبشكل صلب ومتكرر لهذا الخطأ الفادح وضبابية تلك الإتفاقات حينها وفي أكثر من موقف، ولكن دون جدوى. وتأتي ““الصفقة”” الآن لتفتح المجال وتتيح الفرصة الذهبية لتراجع القيادتين الفلسطينية والأردنية عن هذا الخطأ التاريخي الفادح. 

سابعا: قيام الحكومتين الفلسطينية والأردنية بإعداد تفاصيل المبادرتين من كافة النواحي القانونية والفنية مدعمة بالوثائق التاريخية والخرائط، وإعلام الجانب الإسرائيلي، ومن خلال القنوات الرسمية، أنه وفي ضوء قيام الجانب الإسرائيلي بالنقض “الأحادي الجانب” للاتفاقيات الموقعة من خلال “الصفقة”، فإنهما سيسعيان لكسب التأييد العالمي لهاتين المبادرتين الجديدتين ليقوم المجتمع الدولي بتحديد موقفه منهما.

ثامنا: تنفيذ خطة دبلوماسية مكثفة لكسب التأييد العالمي للحل الدائم والشامل والعادل للقضية الفلسطينية وفق أي من المبادرتين الجديدتين (مبادرة الدولة الواحدة الديموقراطية أو مبادرة الدولتين على أساس قرار التقسيم). وجدولة عرض المبادرتين على الجمعية العمومية للامم المتحدة نهاية هذا العام لاتخاذ القرار المناسب بشأنهما. بحيث يكون هذا الجهد الدبلوماسي المكثف مواجها ومقابلا للجهد الدولي الذي ستقوم به إسرائيل، بدعم من الإدارة الحالية للولايات المتحدة، لمحاولة تمرير “الصفقة” عالميا. وأجزم بأن هكذا مبادرتين أذا ما طرحتا ودعمتا من قبل فلسطين والأردن، فإنهما ستجدان آذانا صاغية في العالم وستحظى بالعديد من المؤيدين والداعمين من قبل القوى العظمى والدول الصديقة والشقيقة المحبة للسلام في العالم، والراغبة بإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي وبشكل نهائي ودائم.

تاسعا: ألإعلان الفلسطيني الأردني المشترك عن الرغبة في إيجاد وسيط دولي جديد لعملية السلام في الشرق الأوسط، يكون نزيها وعادلا ومحايدا (وليس كالوسيط السابق)، ويمكن لثلاثية الإتحاد الأوروبي وروسيا والصين أن تلعب هكذا دور، حيث قام جميعهم في فترات متفرقة في السابق بتقديم إيحاءات دبلوماسية قوية لرغبتهم بالقيام بهكذا دور. وبدء الجهد الدبلوماسي الفلسطيني الأردني المشترك والمكثف لتحقيق هذه الغاية.

عاشرا: وهنا يختلط العام بالخاص، فالقضية الفلسطينية ستبقى حية في فكر ووجدان الشباب العربي. تجري فيه مجرى الدم في العروق، عصية على كل محاولاتهم لطمسها ومحوها من ذاكرتهم. محاولات بائسة بدأت قبل خمسة وعشرين عاما أبان توقيع اتفاقيات السلام السابقة من خلال تضمينها بنودا خاصة بتعديل وتغييركل ما احتوته المناهج الدراسية الأردنية حولها وعنها، مع عدم إلتزام إسرائيل بتعديل المناهج الدراسية الصهيونية العدوانية التوسعية لديها حتى يومنا هذا. وعليه فقد أصبح الظرف الآن ملائما وخصبا ومواتيا جدا، وآن الأوان اليوم لتقوم الحكومة الأردنية بإعادة النظر بقرارها بوقف تدريس كتاب “القضية الفلسطينية” للمرحوم الأستاذ ذوقان الهنداوي عام 1995، كنتاج لاتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية، وإعادة تدريس الكتاب للطلاب في المرحلة الثانوية. وذلك لتجذير وترسيخ الفكر والحق العربي الفلسطيني لدي الجيل الحالي والأجيال القادمة، وتسليحهم بالعلم والمعرفة بحقهم التاريخي العصي على الكذب والتسويف والمصادرة. وبالتالي تمكينهم بقوة الحجة من استرداد ما اغتصب من أرضهم وحقهم، علما بأن الكتاب يتم تحديثه بهدوء منذ سنوات وسيتم إشهاره نهاية هذا العام بإذن الله، ليكون هذا البحث والمقال بتفنيد “الصفقة” جزءا لا يتجزأ منه. فكما بدأ الكتاب الأصيل بتفنيد “وعد بلفور”، سينتهي الكتاب المزيد بإذن الله بتفنيد “وعد ترامب”…

من ناحية أخرى فإن إسرائيل ستحاول جاهدة، وبكافة الطرق والوسائل، ومن خلال أجهزتها المتخصصة بذلك، بزرع الفرقة والفتنة والتشكيك والتناحروالتخاصم بين الأشقاء بما يمكنها من إنجاح وتمرير صفقتها القميئة. وسيكون ذلك على محاور أربعة: محور البيت الداخلي الفلسطيني (بين الأشقاء في الضفة وقطاع غزة، على موضوع السلطة وكيفية التعامل مع “الصفقة”)، ومحور البيت الداخلي الأردني (بين الشعب الوفي وقيادته الحكيمة الصلبة التي يلتف حولها، مستغلة ضائقتة الإقتصادية وضنك عيشه)، ومحور الشعبين الشقيقين في الأردن وفلسطين (في الداخل والخارج من خلال نشر الفتنة الداخلية بأي مبرر مهما كان تافها وسخيفا)، ومحور زرع الفتنة بين فلسطين والأردن من جهة والعديد من أشقائهم العرب من جهة أخرى. وسيكون ذلك بإطلاق الشائعات والتصريحات المشبوهة من قبل مصادر مجهولة ومن خلال وسائل الإعلام أو التواصل الإجتماعي، أو مباشرة من خلال بعض الشخصيات المشبوهة ذات الصوت العالي، وذلك لدفع الأشقاء للتشكيك وتخوين بعضهم بعضا والتناحر فيما بينهم. لذا وجب علينا جميعا بأن نكون على أعلى درجات الوعي لذلك، فنفوت الفرصة على أعداء الوطن لتحريكنا عن غير وعي كما يريدون. فلا تشكيك ولا تخوين ولا تناحر ولا تخندق ولا تهجم بين الأشقاء مهما كان. فنحن هم وهم نحن. لا فرق بين فلسطيني وأردني وعربي. فجميعنا في قارب واحد، أشقاء عروبة ودين ودم ولغة وتاريخ وحضارة ومستقبل ومصير مشترك بإذن الله… 

هي حلول جديدة مبادرة خارجة عن المألوف قد يرى كثيرون أنها صعبة التحقيق إن لم تك مستحيلة من منظورهم، ولكنها حقيقة ليست كذلك… فالحق لا يضيع بمنطق القوة والجبروت والتنمر أو بمرور الزمن… وهكذا حلول مبادرة خارجة عن المألوف ستحول الحق العربي والجهد والموقف الفلسطيني والأردني من موقف المدافع، الذي يتلقى الصدمات دوما ويحاول بأقصى جهده تفاديها أو صدها أو تحملها أو الإنحناء لها، إلى موقف المهاجم الدبلوماسي الصلف والمبادر الذي يعرف حق المعرفة حقه وكيف يحوله إلى إستراتيجية هجوم دبلوماسي فاعل. إستراتيجية تفقد خصمه وعدوه اللدود توازنه وتضعه في موقف المدافع، وترعبه بجعله، من بين أمور اخرى يعي حماقاته وتأثيرها الحقيقي، وليس الانتخابي، عليه على المدى البعيد.

وقيادة الوطن الصلبة والحكيمة والتي أشهرت “سيوف الكرامة” لتحاكي التصدي لهجوم عسكري قادم من الغرب، وأوصلت من خلالها رسالتها عالية وواضحة إلى ما وراء النهر، لقادرة بعون الله، ومن حولها شعبها الوفي الملتحم معها، على إشهار وقيادة “سيوف كرامة” دبلوماسية، تفوق قرينتها العسكرية شراسة وضراوة، للتصدي للتهديد الوجودي للوطن كيانه وأمنه واستقراره، لتصدح رسالتها الحقة وتدوي في أصقاع الأرض كافة… 

ألخاتمة:

بعد أكثر من قرن على الصراع، فإن الشعب الفلسطيني لن يقبل ب”دولة ” كرتونية ممزقة مسلوبة السلطة. وشقيقه وتوأم روحه الشعب الأردني شرقي النهر لن يقبل بأن يتم تصفية قضية شقيقه المشروعة على حسابه…فإسرائيل هي إخر دولة محتلة في العالم… ومهما طال أمد احتلالها، فهو إلى زوال طالما أن هناك شعب يصدح بأعلى صوته: كلا لن تمر… كلا لن تمر… كلا لن تمر… 

حفظ الله أردن العز والشموخ وتوأم روحه فلسطبن العشق والفؤاد من كل مكروه…

حفظ الله الأردن عزيزا وقويا ومنيعا… وحماه شعبا وأرضا وقيادة…. 

التعليقات مغلقة.