صحيفة الكترونية اردنية شاملة

شيء عن «المعجزة الرواندية»

برلمان البلد المضيف (رواندا) يفخر بأعلى نسبة تمثيل للنساء في العالم وهي تجاوزت 60 % من الأعضاء اي اكثر من ضعف النسبة – الكوتا التي قررها قانون الانتخاب عندهم. وقضية المساواة وتمكين المرأة ومكافحة التمييز الجندري هو من العناوين الرئيسة لهذه الدورة للاتحاد البرلماني الدولي الذي ختم اعماله في العاصمة كيجالي أمس.
هذا الانجاز ليس الا واحدا من مؤشرات «المعجزة الرواندية» حيث تحقق البلاد اعلى معدلات للنمو في العالم و تراوح حول 8 % سنويا واستحقت التسمية التي تطلق عليه الآن «سنغافورة افريقيا».
نتذكر جميعا ان رواندا اشتهرت بالحرب الاهلية والمجاز الدموية التي اودت بحياة مليون انسان، فكيف تحقق هذا الانتقال المذهل!؟ قلت في نفسي لا بد ان النساء وهن لا يحملن المناجل لقطع رؤوس الاطفال وبقر بطون النساء بل يحملنها للحصاد واطعام عوائلهن قررن اخذ الأمر بيدهن بعد الحرب الاهلية الكارثية التي صنعها الرجال.
هذا البلد الصغير كان يعيش صراعات اهلية قبلية ويغرق في الفقر والفوضى من مطلع التسعينات وفي نيسان 94 جرى اغتيال الرئيس الذي ينتمي لأغلبية الهوتو (85 % من السكان) فانطلقت هجمات بتشجيع حكومي ضد اقلية التوتسي قادت لقتل 800 الف انسان خلال مائة يوم فقط واستفاق العالم متأخرا على حرب الابادة التي خربت البلاد وهجرت الملايين وتركت الاقتصاد والادارة خرابا كاملا.
وسط ادانة عالمية للسلطة الحاكمة تم إنشاء محكمة خاصة دولية لملاحقة مجرمي الحرب. وبدعم دولي ومساندة عسكرية من أوغندا المجاورة قاد ضابط من اقلية التوتسي قوات «الجبهة الوطنية» للإطاحة بالسلطة السابقة ووقف الحرب الاهلية. ولحسن الحظ ان الرجل كان يملك مواصفات استثنائية في القيادة والرؤية وحسن النوايا فتمكن خلال سنوات من اعادة هيكلة السلطة والادارة والقوات المسلحة بإدماج الميليشيات في جيش يحمل عقيدة وطنية بعيدا عن الولاءات القبلية والعرقية. لقد تجاهل الانتقام لقومه وشجع الصفح والمصالحة وجعل نفسه رئيسا للجميع فأعلى شأن المواطنة والانتماء الوطني وحرم الاشارة الى الانتماء العرقي والقبلي وركز على المساواة والتنمية والتضامن ودعم الكفاءة وضرب الفساد بلا هوادة. كما اعتمد الاعراف المحلية القديمة والطيبة مثل المحاكم الاهلية المحلية في القرى والتي تشبه القضاء العشائري عندنا للمحاسبة على جرائم الحرب والتعويض والمصالحة والصفح واعطى للشيوخ والوجهاء المحليين دورا فعليا وشريكا وكان تجاوب الناس من جميع الاطراف قويا ونشأ سلوك فريد من الالتزام بكل ما يتقرر من أنظمة وتعليمات.
سألت سائقا يتكلم الانجليزية جيدا ان يخبرني عن سبب يفسر هذا التعافي والنجاح وتجاوز الانقسام والاحقاد وتحقيق التنمية والازدهار فاجاب دون لحظة تفكير بجملة واحدة good» governance» أو «الحكم الجيد».
وصلنا مطار رواندا وكلي فضول ان ارى على الارض ما يحدث. فكانت أول مفاجأة في المطار النظيف الانيق منع إدخال اكياس البلاستيك فهم منذ عام 2008 وصلوا الى صفر استخدام للاكياس البلاستيكية وفي الفندق يستخدمون الماء في قناني زجاجية رغم استمرار وجود العبوات البلاستيكية.
العاصمة كيجالي من اكثر العواصم نظافة. الشوارع والاطاريف والأرصفة مرتبة نظيفة لا يمكن ان تجد ورقة او عقب سيجارة وهذا ليس بسبب جهود عمال وآليات البلدية. فالشيء نفسه تجده في الاسواق المزدحمة في المساء مما يدل ان الناس ملتزمة كليا بالنظافة. وحسب ما قيل لي فإن جميع السكان في كل حي في السبت الأول من كل شهر مكلفون بالخروج لتنظيف شوارعهم ولعل هذا طور احساسا بالمسؤولية المباشرة تجاه النظافة.
الاصلاح الاداري قاد الى تقليص حاسم للإمتيازات والتمييز فحسب البنك الدولي كانت نسبة راتب الموظف العام الأعلى أجرًا في الهيكل القديم للدولة إلى راتب الأقل أجرًا هي: 1 إلى 60 وفي ظل الهيكل الجديد ومع جميع المزايا الإضافية اصبحت 1 إلى 19 .. هذا يقول كل شيء عن جوهر الإصلاح الذي تم. وليس المعنى أن الاصلاح أخذ منحى اشتراكيا بل منحى العدالة والنزاهة والعقلانية وقد بقي عنوان التنمية هو تشجيع الأعمال والاستثمار وتسريع وتيسير المعاملات والتطبيق الشامل للرقمنة والحكومة الالكترونية. وهذا في ظل ظاهرة فريدة هي نبذ الاستهلاكية فأنت لا تجد الاسواق متخمة بالسلع والبناء انيق حديث لكن لا ضخامة ولا فخامة ولا حجر ولا رخام. ولعل الجذور الثقافية لبيئة زراعية فقيرة بالموارد الطبيعة قد ادام التقصد في الاستهلاك. والانفاق الأهم يذهب بصورة رئيسة للتنمية الانسانية والبنية التحتية وخدمات تأمين شامل للصحة والتعليم.
وتوصف الحكومة الرواندية كواحدة من أكثر الحكومات كفاءة ونزاهة في أفريقيا، ووصفت صحيفة فورن افيرز في مقال بعنوان: «لماذا يحب المديرون الكبار رواندا؟». ذكرت فيه أن العاصمة كيغالي هي أول مدينة في أفريقيا يتم منحها جائزة زخرفة المساكن وجائزة الشرف للنظافة والأمن والنظام وتضاهي شوارع وسط مدينة كيغالي بنظافتها وحسن صيانتها معظم شوارع العواصم الأوروبية

الدستور

التعليقات مغلقة.