صحيفة الكترونية اردنية شاملة

دعم القرار والسياسات العامة

أمام الحكومة العديد من القرارات الاقتصادية المهمة، التي بلا شكٍّ ستساعد على تحقيق أهداف تنموية وأخرى ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية. وفي النهاية، فإنَّ العناوين العريضة لتلك القرارات قد تكون معروفة للجميع بدءاً بترشيد الإنفاق، وإعادة هيكلة الجهاز الحكومي، وتحفيز الاستثمار الموجود والقائم، وجذب الاستثمارات الخارجية، انتهاءً بتحقيق تنمية متوازنة بمفهوم التوزيع الجغرافي أكثر من مفهوم التوزيع القطاعي.

وفي كل الأحوال فإنَّ الجهود التي بدأتها الحكومة خلال الفترة الماضية تُبشِّر بسعي حقيقي نحو تحقيق الأهداف المنشودة. إلا أنَّ من الحصافة في هذه المرحلة القول بأنَّ ما نحتاج إليه أكثر من أي وقت مضى هو ضرورة دراسة الأثر الحقيقي للقرارات عبر آلية مؤسَّسية تساعد على استدامتها من ناحية، وتؤدي إلى تحقيق الأهداف المرجوة من تلك القرارات من ناحية ثانية. آلية علمية موضوعية تؤدي إلى وضع صانع القرار في صورة الآثار الاقتصادية والاجتماعية، وأحياناً السياسية، للقرارات التي سيتخذها وتكون بمثابة أداة حقيقية لدعم القرار.

وقد سبق أن اقترحت تأسيس وحدة مركزية تتبع رئاسة الوزراء، دورها الأساس هو دراسة الأثر ودعم القرار الحكومي وفق آلية ذات منهجية علمية اقتصادية واجتماعية، بل وسياسية أحياناً، مع التركيز دوماً على أفضل التطبيقات للتعلُّم من تجارب الآخرين.. وحدة يمكن تسميتها “وحدة نظام دعم القرار ومتابعة التنفيذ” Back Office Support System & Delivery Unit، وهي آلية معتمدة في العديد من دول العالم؛ المتقدم منها والنامي، وعلى وجه الخصوص الدول التي تسعى بجدية إلى تحقيق الأهداف وليس إطلاق الشعارات وتخدير العامة.

وحسبي أنَّ هذه الحكومة تُظهر بشكلٍ جديٍّ أنها تسعى إلى تحقيق الأهداف المشار إليها سابقاً بجد وجدية كاملة. ولعلني هنا أسوق مثالاً عما حدث سابقا وعن أهمية دراسة الأثر ودعم القرار، ففي حكومة سابقة تمَّ على عجالة دراسة إعادة هيكلة القطاع العام، وبتركيز شديد على الرواتب وليس المهام والوظائف، وكان القرار السريع بالموافقة على التنسيب بكلفة كلية تصل إلى نحو 82 مليون دينار، واتضح بعد التنفيذ أنَّ الكلفة الكلية حتى الآن تتجاوز 450 مليون دينار، ناهيك عمَّا أدت إليه تلك الهيكلة من هجرة كبيرة لكفاءات تجد العديد منها اليوم في دول الخليج المجاورة.

السبب أنَّ القرار لم يراعِ دراسة الأثر، ولم يتم بناؤه على دراسة وافية للأثر من وحدة لدعم القرار ذات اختصاص ومحايدة عن الجهة التي نسبت بالقرار. الشاهد ممَّا سبق، أنَّ الحكومة اليوم أمام قرارات مهمة تتعلق بإعادة الهيكلة، وبهيكلة الضرائب، وبترشيد الإنفاق، وتحقيق تنمية متوازنة أفقياً بين المحافظات، وبقرارات تُحفز الاستثمار وتجذب المزيد منه من الخارج. واعتقادي أنَّ رئاسة الحكومة ستكون بحاجة ماسة إلى جهة تعتمد عليها في دراسة الأثر وفي وضع توصيات متوازنة مستقلة توضِّح الأثر المالي والاقتصادي والاجتماعي بشكل علمي. جهة تعتمد على اللجوء إلى المختصين من الداخل والخارج، دون الحاجة إلى تعيينات إضافية بقدر ما هو تكليف بمهمات، وأحياناً عقد جلسات عصف ذهني قد لا تتكلف منها الحكومة شيئاً يُذكر.

المهم أن نلجأ إلى المختصين في كلِّ شأن، وأن تكون قراراتنا مدروسة علمية محايدة وموضوعية. فمن غير المعقول مثلاً أن يكون في الأردن منذ تأسيس الدولة وحتى العام 2005 نحو 32 مؤسَّسة مستقلة، ومن ضمنها وزارة الأوقاف، ثمَّ نُنشئ بعد ذلك-في أقل من ست سنوات-عدداً يفوق ما أنشأته الدولة على مدى تاريخها حتى العام 2005، ليصبح عدد ما يُسمى بالمؤسسات المستقلة نحو 65 مؤسسة. ومن غير المنطق أن يكون الكثير ممَّا تمَّ تأسيسه في ذلك الوقت هو مؤسَّسات موازية لوزارة أو هيئات قائمة. وكانت النتيجة، أن يتحول الفائض المالي الذي كانت تحوله الوحدات المستقلة حتى العام 2006 عن أعمالها وتدعم به الخزينة، إلى عجز مالي كاد يصل في بعض السنوات إلى مستوى العجز المالي للموازنة العام للدولة. والمحصلة ممَّا سبق جميعه أنَّ هناك مؤسَّسات عامة مستقلة تعمل ضمن مفهوم الاستقلالية الإدارية والمالية العالمي، وهي كذلك في دول العالم أجمع، ومنها البنك المركزي، الضمان الاجتماعي، هيئات الأوراق المالية، هيئات السياحة، الصحة، النقل والاتصالات.

بل إنَّ معظم تلك الهيئات في التطبيقات الناجحة عالميا لا توازي كياناً آخر في الحكومة؛ أي إنها تعمل مستقلة فعلاً وتحقق الأهداف ولا تتضارب مع وجود وزارة قائمة معها في آنٍ واحدٍ. وتستدعي الحقيقة هنا أن نقول: إنَّ مؤسَّسات مستقلة، مثل الضمان الاجتماعي، وهيئة الأوراق المالية، تأثرت بشكل سلبي كبير بقرارات الهيكلة السابقة، وفقدت الكثير من الكفاءات بسبب عدم وجود آلية مستقلة لدعم القرار ودراسة الأثر. وختاماً، فإنَّ تحصين الإدارة العامة واتخاذ القرار يحتاج إلى أن يقوم أصحاب القرار باللجوء إلى أصحاب الاختصاص لدعم قرارهم ودراسة أثره وتحمُّل مسؤولياتهم، وهذا يستدعي وجود آلية مؤسَّسية دائمة، لا تتأثر بتغير الحكومات أو الرؤساء، تدعم قرارات الحكومات، وتضع رئاسة الحكومة أمام مسؤولياتها في القرارات التي تتخذها، ومن ثمَّ تتابع لها وترصد النتائج والإنجاز. آلية دعم القرارات باتت فريضة يجب اللجوء إليها اليوم قبل أي وقت آخر.

التعليقات مغلقة.