صحيفة الكترونية اردنية شاملة

ورحل صانع المعجزة في سنغافورة

0

في فجر يوم الاثنين 23 / 3 / 2015 رحل عن الدنيا الأب الروحي لسنغافورة ، رئيس وزرائها الأسبق وصانع معجزتها الاقتصادية ” لي كوان يو ” ، تاركا بصماته الإصلاحية مطبوعة على جبين وطنه . ومن المؤكد أن التاريخ سيخلد اسم هذا الرجل كزعيم وطني من زعماء جنوب شرق آسيا والعالم بشكل عام .

لقد ابهرتني النهضة الاقتصادية في دول جنوب شرق آسيا أو ما تسمى بالنمور الآسيوية ، فكتبت في وقت سابق عن معجزاتها الاقتصادية ، وكيف تمردت على التخلف ونهضت من تحت الركام لتصبح في طليعة الدول المتقدمة وهي : ماليزيا ، كوريا الجنوبية ،اليابان وسنغافورة ، ونشرتها في حينه على بعض المواقع الإلكترونية ، بغرض تحفيز المسؤولين في حكوماتنا الرشيدة على اتباع خطوات تلك الدول ، لعلهم يطورون واقعنا الاقتصادي ويخرجونا من دائرة الضيق إلى فضاء أرحب .

ولكن كتاباتي مضافا إليها كتابات المثقفين الآخرين في هذا المجال ، مرت فوق رؤوس المسؤولين مر السحاب دون أن تحرك حميّتهم . ولهذا أجدني اليوم مدعوا للتذكير بتجربة سنغافورة الاقتصادية ، بمناسبة رحيل باني نهضتها ” لي كوان يو ” لعل الذكرى تحرك ضمائر المعنيين ، وتحفزّهم على تقليد تجارب اقتصادية ناجحة دون تكليفهم بعصف ذهني يرهق أدمغتهم ، بل الاكتفاء بنقل تجارب غيرهم وتعديلها بما يناسب أوضاعنا الاقتصادية .

فسنغافورة جزيرة صغيرة في جنوب شرق آسيا تبلغ مساحتها حوالي 700 كيلو متر مربع وعدد سكانها حوالي 5 ملايين نسمة ، خليط من الصينيين والملاويين والهنود بثقافات وأديان متنوعة . كانت هذه الجزيرة في منتصف القرن الماضي مستعمرة بريطانية تفتقر إلى الموارد الطبيعية ، وتعاني من البطالة وأزمة السكن والركود الاقتصادي والفساد الإداري والتخلف بشكل عام .

في عام 1959 أصبح ” لي كوان يو ” أول رئيس لوزراء سنغافورة بعد فوز حزبه في الانتخابات النيابية . ثم انفصلت الجزيرة عن اتحاد الملايو ( ماليزيا ) ونالت استقلالها عام 1965 . وقد وصف رئيس وزرائها الجديد المشهد الذي كان يكتنف الجزيرة عند توليه الحكم كالتالي :

” بعد الانفصال عن الملايو وجدت كل شيء حولي ينذر بالانهيار ، فنسبة البطالة تقارب 15 % ، الدولة الجديدة تكاد تخلو من كل شيء ، البنية التحتية متخلفة للغاية ، المدارس والجامعات لا تفي بالحاجة ، القوة العسكرية مؤلفة من كتيبتين ماليزيتين ، قوات الشرطة لا وجود لها من الناحية العملية ، الغليان العنصري والديني يهدد بالانفجار في أية لحظة ، التهديد الخارجي لم يتوقف ، وكانت ماليزيا تنتظر فشلنا على أحر من الجمر لتستخدم القوة في إعادة سنغافورة إلى حظيرة البلاد ” .

لقد كان ” يو ” يتمتع بالرؤية الثاقبة وبعد النظر والتصميم على بناء الدولة رغم كل التحديات التي كانت تواجهه . فركز خطته الإصلاحية أساسا على ” بناء الإنسان ” من خلال النهوض العلمي ، وعدم إضاعة الوقت في الإصغاء للإذاعات ، ومنع الناس من التجمهر إلا لأداء الصلاة ، وإغلاق السجون ليفتح المدارس بدلا منها . كما حارب الفقر والبطالة من خلال مشاريع ناجحة ، وجعل لكل مواطن بيتا يسكن فيه بدلا من أكواخ الصفيح على ضفتي النهر ، ثم أقام نموذجا مثاليا للحكم في البلاد .

اعتمد رئيس الوزراء ثلاثة محاور رئيسية في خطته النهضوية هي باختصار شديد :

1. محور التعليم . فقد أورد في مذكراته ما يلي : ” الدول المتحضرة تبدأ نهضتها بالتعليم ، وهذا ما بدأت به عندما استلمت الحكم في دولة فقيرة جدا . أوليت الاقتصاد اهتماما أكثر من السياسة ، والتعليم أكثر من نظام الحكم ، فبنيت المدارس والجامعات ، وأرسلت الشباب إلى الخارج لتلقي العلم ومن ثم الاستفادة من دراساتهم في تطوير الداخل السنغافوري ” .

2. محور التوظيف الحكومي . اعتمدت حكومته على التوظيف بدرجة عالية من المهنية والثقافية ، من خلال مناظرات ومسابقات مفتوحة للجميع . ويقول في هذا الصدد : ” بعد عدة سنوات من الخدمة الحكومية أدركت أنني كلما اخترت أصحاب المواهب كوزراء وإداريين مهنيين ، كلما كانت سياستنا أكثر فعالية وأكثر انتاجا ” .

3. محور تحديد النسل . تبنت الحكومة سياسة تحديد النسل بحيث لا تتجاوز زيادة نسبة السكان وهي 1,9 % في عام 1970 و 1,2 في هام 1980 وذلك تجنبا للانفجار السكاني الذي يعرقل التنمية . وبعد أن تعافى الاقتصاد اعتمدت الحكومة برنامجا معاكسا يهدف إلى تحفيز المواطنين على زيادة النسل لتوفير الأيدي العاملة .

لقد حققت سنغافورة بقيادة رئيس وزرائها ” لي كوان يو ” معجزة اقتصادية عظيمة في فترة لا تزيد عن ثلاثة عقود ، وتحولت من دولة متخلفة إلى دولة صناعية تنتج مختلف المواد التجارية والإلكترونية وتكرير النفط وبناء السفن وصناعة السياحة . وحول بلاده من مستنقعات تعج بالذباب والبعوض إلى مركز استثماري وسياحي عالمي يكتظ بناطحات السحاب . وتمكن من رفع دخل الفرد السنوي في بلاده من 1000 دولار عند الاستقلال إلى 30000 دولار في بداية الألفية الثالثة . وتأكيدا لذلك يمكن للقارئ زيارة موقع سنغافورة على شبكة الإنترنت ، ليرى بعضا من معالم نهضتها الحديثة .

في عام 1990 تنازل ” يو ” عن الحكم طوعا ، بعد أن تولى رئاسة الوزراء لمدة 31 عاما متواصلة ، حقق خلالها لبلاده هذه النهضة الاقتصادية الرائعة . ولكن الدولة حافظت عليه نظرا لخبراته الفذة ، وعينته مستشارا لمجلس الوزراء لمدة 21 عاما ، لكي يحافظ على الإنجاز ويواكب استمرارية تطور البلاد .

وعند المقارنة بين ما أنجزه رئيس وزراء سنغافورة الراحل من تقدم اقتصادي لبلاده خلال توليه الحكم ، وما أنجزه رؤساء وزرائنا خلال توليهم الحكم في الفترة الماضية وحتى الآن ، سنجد أن هناك بونا شاسعا بين الطرفين . فبدلا من التقدم الذي تحقق في سنغافورة ، استحكم في الأردن التخلف وتباطأ التطور في مجالات كثيرة . واستثناء لذلك تقدمنا في مجالات ثلاثة هي : ارتفاع المديونية ، جباية الضرائب ، ومضاعفة عدد السكان من مختلف الجنسيات .

فالمديونية العامة أصبحت حوالي 30 مليار دولار وما زالت الحكومة تبحث عن قروض دولية جديدة . ومعدل دخل الفرد لا يتجاوز 5000 دولار سنويا ، والبطالة وصلت إلى 30 % ، والتوظيف موقوف ، والتعليم والزراعة والسياحة والخدمات الصحية وغير ذلك من الأمور الحياتية أصبحت دون المستوى المطلوب .

وهنا لابد من طرح الأسئلة التالية على المسؤولين في بلدنا ، فلعل الإجابة عليها تهدينا إلى الطريق القويم : لماذا تقدمت دولة صغيرة كانت أكثر تخلفا من الأردن في منتصف القرن الماضي ، ولكنها قفزت إلى مقدمة الدول الصناعية الغنية خلال ثلاثة عقود ، بينما تخلف الأردن وبقي معتمدا على المساعدات والمنح الدولية حتى الآن ؟ لماذا ارتفع معدل دخل الفرد السنوي في سنغافورة ستة أضعاف معدل دخل الفرد الأردني لنفس الفترة الزمنية ؟ لماذا تتمتع سنغافورة بالانتعاش الاقتصادي والتقدم دون الاعتماد على مفاعلات نووية ، بينما يعاني الأردن من التعثر الاقتصادي ويرزح تحت مديونية كبيرة ، ورغم ذلك يسعى لإقامة مفاعلات نووية دون توفر مقوماتها الأساسية ؟

بعد كل هذا ألا يحق لنا أن نُحيي رئيس وزراء سنغافورة الراحل ” لي كوان يو ” على ما قدمه من إنجازات عظيمة لبلاده وجعْلها قبلة للسائحين والمستثمرين ؟ ألا يحق لنا أن نغضب على رؤساء وزرائنا في العقود الماضية ، والذين لم يصنعوا لنا إلا الخيبة في مختلف المجالات ، وتحميلنا مديونية فلكية تتزايد مع مرور الزمن ؟ أليس من العدل أن نقرأ في حضور رؤساء وزرائنا وعند رحيلهم ، سورا من القرآن الكريم نخص منها ” المعوذات ” عرفانا بإنجازاتهم الفاشلة ؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.