صحيفة الكترونية اردنية شاملة

ما أكثر المتجاوزين..!

0

قبل ظهيرة الأحد الماضي، أول يوم لعودة الحركة بعد العاصفة، كان صف طويل من السيارات يدبُّ ببطء هابطاً الشارع الذي ضيقه الثلج والمصطفون على الجانبين. بالكاد توفر متسع لمرور المركبات في الاتجاهين، وخيمت على السائرين بقايا الحذر الذي خلفته العاصفة. لكن كثيراً من السائقين المتعجلين -لا لسبب واضح- تجاوزوا صف العربات مندفعين بعكس سير المسرب الصاعد. وكان هؤلاء يلتقون عند إحدى النقاط بسيارة صاعدة، فيخنقون الحركة حتى يتحرك المسرب الأيمن، ويسمح سائق صاحب ذوق لهم بالانسلال والعودة إلى الصف. وليس هذا التعدي على حق الآخرين جديدا في ممارساتنا، لكنه بدا سلوكاً شديد الصلافة في مناخ الطوارئ. ولم يكن عدد المتجاوزين قليلاً -ليس سيارة أو اثنتين على كل حال.

شوّه المتجاوزون الانطباع الإيجابي الذي صنعته مظاهر التعاون في العاصفة. لكن هذا النمط السلوكي يذهب في الحقيقة أبعد من مجرد سرقة دور الآخرين بسيارة، ليصنع وصمة في الأخلاق الاجتماعية على أساس روتيني. وهو يوصف أينما كان بنفس التعبير المستعار من السير: “تجاوزات”. وقد أصبحت التجاوزات حولنا من الكثافة والحضور بحيث اعتدناها، واعتنقناها كشأن ضروري من متعلقات الحياة.

مثلاً: مَن منا لا يفكر في البحث عن “واسطة” كأول خيار لدى الشروع في أصغر الشؤون؟ كم مرّة يقف واحدنا في طابور أمام شباك دائرة حكومية، ويشاهد أشخاصاً يدخلون مباشرة خلف الحاجز، ويسرّون بشيء للموظف فينجزون معاملتهم ويغادرون الواقفين بنظرة متعالية؟ كم مرة عرفنا في الجامعات زملاء لنا يدرسون تخصصات كنا نتمناها، وأخذوا منحاً اعتقدنا أننا مؤهلون لنيلها، ونحن نعرف أن معدلاتنا أعلى، لكنهم كانوا “مؤهلين” بمعرفة مسؤول سهل لهم تجاوز اللوائح والحقوق؟ كم هي الأماكن التي يرى فيها المواطن زملاء له في العمل، يبدون بوضوح أقل أداءً وتأهيلاً، لكنهم يتجاوزونه في المراتب بقدرة قادر ولا يوقف انطلاقتهم نحو النجوم شيء؟ كم مرة يتشاجر اثنان، فتتحول الأمور ضد أحدهما ولصالح الآخر لغير سبب قانوني مفهوم، سوى مكالمة هاتفية من شخص نافذ؟ كم مرة يعلم المرء، باستعمال العين المجردة والمنطق الابتدائي، أن مقاولاً “التفافياً” كسب عطاء عاماً بشراء الذمم، ثم غش في المواصفات وأنتج خدمة رديئة، ولم يهمه أن رداءتها معروضة على قارعة الطريق لأنه لا يخشى الحساب؟ ولا عدد للتجاوزات.

أن تتجاوز عن خيار استعمال واسطة تساعدك على تجاوز الآخرين، فذلك يعني أنك غير واقعي في أحسن الأحوال، وساذج في أسوئها. وأتصور أن معظمنا بدأوا بتجريب الذهاب إلى المكان المعني والوقوف في الدور، لكنهم رأوا الآخرين يسرقون دورهم بالواسطة، بحيث قد يمضي اليوم ولا “يلحقهم” الدور، فاجتهدوا لجلب “كرت” في اليوم التالي. وقد أصبح من فرط الطوباوية عدم الاستعانة بـ”صديق” كلما تسنى ذلك. وبالتراكم، أصبح التدافع والدوس على أقدام الآخرين -وأعلى- متعلقاً بالعاديات اليومية، وثفاقة سائدة.

الذي جعل ذلك ثقافة -على الأغلب- هو ميوعة النظام (System) المليء بالمداخل والمخارج والالتفافات. وللأمر كل العلاقة بـ”حكم القانون” كمبدأ مغيب، والذي يجب أن يُكتب على جدار كل مكتب رسمي وكل بيت. وهو يتصل بمفهوم “المؤسسية” التي ينبغي أن تبهت بجوارها سلطة الأفراد ومزاجياتهم وتسود قواعد المؤسسة. إذ عندما تكون هناك لوائح واضحة معلنة، والتي تنص صراحة على الإجراءات وعلى آليات محاسبة مَن يتجاوزها أياً كان منصبه، فقد يبدأ التغيير الضروري من الأعلى. وعندما يتحول احترام القانون بالتدريج إلى عادة بحيث يراقب الناس وحدهم وعيهم وضمائرهم، ويصبح المتجاوز ناشزاً مفضوحاً، سنتخلص من الاعتقاد بالعصمة واستسهال التجاوز بالبلطجة. لكن من العبث الحديث عن تغيير ما دامت “المسؤولية” بالذات هي مؤهل صاحبها لممارسة التجاوزات ومباركتها، سواء في خدمة الذات أو ادعاء الشهامة و”خدمة” المعارف والأقارب. لمن يشكو المواطن البسيط إذن، وما قيمة تمسكه بأي مبدأ إذا كان ذلك سيتركه فقط في الوراء؟!

بقي أن أقول إنه في طريق العودة يوم الأحد، توقف سائق على تقاطع وسمح لكثيرين بالمرور قبله وهو صاحب الحق في المرور. توقفت لأتيح له المرور معتقداً أنه وقف أكثر من اللازم. لكنه أشار لي بالمرور أيضاً، وابتسم. وابتسمت.

الغد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.