صحيفة الكترونية اردنية شاملة

الهوس الديني الجماعي

0

من سوء حظ هذا الجيل أن يشهد ويعيش نماذج للهوس الديني الجماعي المفرط في البشاعة، الذي يعكس حالة مرضية جمعية تتخذ من الدين غطاء وأداة لاختراع الشرعية كما هو الحال في سلوك التنظيم الاجرامي “داعش” وسلوك التنظيم الإجرامي الآخر “بوكو حرام” الذي يفتك في افريقيا، ومن سوء حظنا مرة أخرى أن هذا الهوس المرضي، والذي هو ليس حكرا على دين بعينه، يخترق اليوم بقوة الإسلام وينتشر وسط المسلمين في مختلف أنحاء العالم، وما تزال كل النظريات التفسيرية عاجزة عن فهم جذور هذه الظاهرة أو غير راغبة بالاعتراف بها، رغم وجود أمثلة لها في التاريخ وفي أديان أخرى، ولكنّ لكل حالة سياقا تاريخيا واجتماعيا وثقافيا مختلفا.
كيف يمكن تفسير السلوك الإجرامي البشع في حادثة اغتيال الطيار البطل معاذ الكساسبة في زمن يذهب العالم فيه إلى المطالبة بإنهاء عقوبة الإعدام للمجرمين، وكيف نفسر قبل ذلك جزّ الأعناق بدم بارد. وكيف نفسر سلوك “بوكو حرام” بخطف تلميذات المدارس القصّر وبيعهن في أسواق النخاسة، وأي قسوة في تفجير طفلة لا تتجاوز العاشرة في عملية انتحارية بشعة. لا يمكن تفسير هذه الظواهر إلا بالاعتراف بانتشار ظاهرة الهوس الديني الجمعي وسط المسلمين، وخطورتها في أنها محمولة على حمولة فكرية وجميعنا يعلم مصادر هذه الحمولة وكيف تصدر، ولكن قلة ممن يفتحون النار ليلا ونهارا على التطرف يشيرون بوضوح الى مصادر التطرف الكامنة في الحركات الدينية التاريخية التي نمت في الجزيرة العربية في القرن التاسع عشر وفي مصر في القرن العشرين وفي الباكستان، والقليل منا يجرؤ في الحديث عن قطيعة دينية وثقافية مع مصادر هذا التطرف تعيد الاسلام الى النقاء الحقيقي قبل ان تلوثه بالسياسة والصراع على الغنائم؛ أي الانتقال به من المجال العام الى المجال الخاص لكل فرد.
في علم النفس الاجتماعي، يمكن للجماعات ان تمرض ليس بأمراض جسدية أوبأوبئة سارية، بل بأمراض وجائحة ثقافية واجتماعية ونفسية، وعادة ما يكون الفهم والتفسير السطحي للأديان البيئة الجاذبة لهذه الأمراض، حيث يتحول الفشل وعدم القدرة على الوصول إلى التطلعات لحالة قابلة لامتصاص كل أشكال التطرف الذي تختلط فيه العواطف المنفلتة مع الخرافة وقوة الحدس والخوف من الغيب والجنس والعنف والطقوس والتركيز على المظاهر الخارجية، وأسوأ ما تكون هذه الحالة المرضية حينما تجد بيئة فكرية قادرة أن تضفي عليها الشرعية، وأن تخلق لها ملاذا نفسيا آمنا وأن تعدها بمصير غيبي آخر.
الإصلاح الديني، يعني إنقاذ الإسلام من هذا المرض الجماعي المدمر، فالعقدة الكبرى ليست في العلاقة بين الدين والسياسة في الشرق العربي التي تحتاج إلى المزيد من الطبخ كي تنضج؛ فالمسألة اكبر من ذلك وما هذه العلاقة إلا احد مظاهر مركب اجتماعي وثقافي وسياسي معقد بقي راكدا لزمن طويل.
لقد خسرنا معركة النقد الثقافي للمجتمع العربي وهي في مهدها؛ اي المعركة التي كان من الممكن أن تدير الإصلاح الديني وتخلق القطيعة مع مصادر الهوس المرضي باسم الدين، والنقد الثقافي للمجتمعات في المحصلة أهم مئات المرات من النقد السياسي الذي يمارسه من هب ودب هذه الأيام، تلك المعركة التي من خلالها كان يمكن أن يجد الإصلاح ألف باب وباب.
الغد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.