صحيفة الكترونية اردنية شاملة

لسنا واهمين

0

في فرنسا، كما في عموم أوروبا، فإن أكثر ما أوجعهم في جريمة “شارلي إيبدو” الاعتداء على حق مقدس، هو حق التعبير. المصفوفة الأوروبية في هذا المجال متقدمة كثيرا على سواها من دول العالم، ولا مجال لمقارنتها مع المصفوفة العربية التي تتخلف بخطوات لا تحصى عنها.

لسنا واهمين لنطالب بتطبيق المصفوفة الأوروبية في بلادنا كما هي دفعة واحدة؛ فقد استغرق الوصول إلى هذا المستوى المتقدم في أوروبا عقودا طويلة، لا بل أكثر من قرنين. ولو فكرت حكومة عربية بنسخ التجربة الفرنسية في مجال الحريات الصحفية على سبيل المثال، فإن أول من يتصدى لها قطاع عريض في المجتمع، لا يحتمل هذا القدر من حرية التعبير والنقد، و”التطاول” على المقدسات، وما أكثرها في حياتنا.

لكن هل يحق لنا أن نطمح إلى القليل من المعايير المعتمدة عالميا، بحيث يتسع هامش التعبير ليجاري دولا أقل شأنا من فرنسا؟

لقد أظهرنا فيضا كبيرا من مشاعر التضامن مع صحفيين قتلوا بدم بارد في باريس. كان هذا موقفا مشرفا من دون شك. لكن في غمرة المشاعر الجياشة دفاعا عن حرية التعبير، وإدانة الإرهاب الأسود، يتعين أن ندقق في سلوكنا على المستوى الداخلي، وأعني في الأردن. ففي الآونة الأخيرة، أحيل العشرات من الشبان الأغرار إلى المحاكم، بتهم “التعاطف” مع التنظيمات الإرهابية.

نحن مثل غيرنا من الدول في مواجهة شرسة مع الجماعات المتطرفة والإرهابية، وليس مطلوبا أبدا التهاون في هذه المواجهة. لكن دائرة التوقيفات والتحقيقات اتسعت بشكل مفرط، ولم تعد تميز بين متعاطف جاهل يمكن إعادته إلى جادة الصواب، وبين ناشط محترف يعمل لمصلحة جماعة إرهابية.

وفيما يخص حرية التعبير تحديدا، فقد خضع المفهوم في الأشهر القليلة الماضية، للاعتبارات السياسية على حساب المعايير القانونية والنصوص الدستورية، بحيث يتم تفصيله على مقاس معين، وبما يخدم هدفا سياسيا محددا سلفا. وربما تكون قضية زكي بني ارشيد مثالا حيا على التلاعب الجاري بالمفهوم.

ينبغي العمل على تطوير قدرتنا على احتمال النقد؛ فذلك يساعدنا على احتواء الشطط والجنون فيما نطالع من مداخلات على مواقع التواصل الاجتماعي.

وعلينا أن نقرّ بأن هناك تيارا يكبر في الرأي العام، يميل إلى النظرة السوداوية تجاه كل شيء في البلد، ويسخر من الأفكار المنصفة. وأكثر من ذلك، هناك من لا يتورع عن الدفع باتجاه الفوضى، في تعبير جليّ عن حالة اليأس والعدمية التي تضرب أوساطا اجتماعية ناقمة.

يشعر المرء بالإحباط وهو يتابع مثل هذه الظواهر. لكن ذلك يجب أن لا يدفعنا إلى النكوص عن قيم الحرية، وإنما العمل الجاد لتعزيز هذه القيم في حياتنا، لنبعث الأمل من جديد في نفوس الناس.

الطريق طويلة من دون شك، لكن الخطوة الحاسمة للتقدم هي ببناء الإجماع الوطني على قدسية الحق في التعبير، وتجريم الاعتداء على هذا الحق. قد تترتب على هذا الوضع أكلاف وخسائر على المدى القصير، لكن النهاية مبشرة حتما. فرنسا ظلت واقفة على قدميها، لأن أقلام الصحفيين لم تنكسر رغم هول الجريمة.

الغد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.